الجــزء الـرابـع والاخـير
حكمـة سومـر أم فلسفـة اليونـان
ملاحظة/ هذا المبحث هو تعزيز إلى ما ذهب إليه الباحث والناقد محمد شنيشل الربيعي في أفضلية وريادة الحكمة السومرية على الفلسفة اليونانية .
من نافلة القول وأنا أتناول هذا المبحث ، لابد أن أذكر لكم نصاً توراتياً ورد في (التوراة/ سفر إيرميا أصحاح 51 : 7)
(بَابِلُ كَأْسُ ذَهَبٍ بِيَدِ الرَّبِّ تُسْكِرُ كُلَّ الأَرْض ِ. مِنْ خَمْرِهَا شَرِبَتِ الشُّعُوب ُ.)
يقول القديس جيروم في تفسيرها:
بإختصار يلزمك أن تعرف أن الذهب غالبًا ما يكون تشبيهًا للبلاغة العالمية ، والكأس الذهبي حقًا هو تعاليم الفلاسفة وبلاغة الخطباء . بكأسهم الذهبي، وسمو بلاغتهم ، تتذوقون عذوبة بلاغتهم .
أما العلامة أوريجينوس يقول : هو النظرة إلى جمال بلاغة لسانهم وفصاحة كلماتهم وفن ترتيب الكلمات وتنسيقها، عندئذ تدرك أن كل واحدٍ من هؤلاء الشعراء والفلاسفة قد أعد كأس ذهب .
الفلسفة من المصطلحات المتداولة في اللغات الحية وتأتي بمعان عدة فهي كمصطلح لغوي يوناني الأصل ، لأنه مركب من "فيلو - سوفيا" ، هناك من يرى أن فيثاغورس (497 ق.م) أول من أستعمل اللفظ وأستخدمه ، الذي قال:(أن صفة الحكمة لا تصدق على أي مخلوق بشري وأن الحكمة للاله وحده وبهذا فهو محب للحكمة) . "مشكلة الفلسفة" زكريا ابراهيم .
أما أول من ثبتها من الإغريق في التاريخ اليوناني "هيرودوت"(425 ق.م) فهو أول من أستعمل الفعل يتفلسف . في القرن الخامس ق.م والذي روى عن كرسوس: إنه قال لصولون الحكيم ، لقد سمعت إنك جبت كثيراً من البلدان متفلسفاً بغية ملاحظتها وإكتشاف معالمها . "الفلسفة ومباحثها" د. محمد علي ابو ريان .
يقول "شيشرون" (43 ق.م) عن نفسه (لست حكيماً لإن الحكمة لاتضاف لغير الالهة وما أنا إلا فيلسوفاً ، أي "محب الحكمة" ) .
الحكمة في اللغة السومرية مشتقة من "أبكلو" وتعني بالسومرية :"الحكيم المُتبحر في الحكمة" ، وبهذا المعنى وردت في خاتمة شريعة حمورابي في نعت إله الحكمة والمعرفة والماء ، وهو الإله "أيا" والذي يُقابله الإله "أنكي" عند السومريين . كذلك نُعِتَ بصفة الحِكمة إله بابل "مردوخ" ومن بعده إبنه الإله "نبو" الذي كان إله الحكمة والكِتابة والقلم .
ثم أضاف الأكديون لاحقاً "أوتو" إلى كلمة الـ (أبكلو) فصارت "أبكلوتو" والتي تعني "الفائق الحكمة" ، وورد في النصوص المسمارية مرادفات لكلمة "أبكلو" منها "عمقو": أي "التعمق" ، و"خاسيسو" أي:"الحكيم الحساس" ، ومنه جاء إسم بطل ملحمة الطوفان "أترا - حاسس" أي: "المتناهي الحكمة" .
كذلك أطلق إسم الحِكمة على الحكماء السبعة في حضارة وادي الرافدين ، "ألأبكالو السبعة' ، وهم حسب الميثولوجيا السومرية حكماء السماء السبعة وهم نصف ألهة خلقهم الإله السومري "إنكي" ، المسؤولون عن خلق الثقافة و الحضارة في سومر و الشعوب الآخرى . وهم الكهنة الرئيسيون للاله "إنكي" كبير الالهة السومرية الذين حثوا الاله "إنكي" على حدوث الطوفان في أرض سومر وذلك لإغراق البشرية .
أما كمفهوم في المباحث الشرقية وجد عند البابليين"نيميقي" و"سوفيا" أو "جنيانا" في الهندية .
أما الحَكَمَةُ عند العرب فهي تعني : ما أحاط بحَنَكَي الفرس، سُمِّيت بذلك؛ لأنَّها تمنعه من الجري الشَّديد، وتُذلِّل الدَّابَّة لراكبها، حتى تمنعها من الجِماح ، ومنه اشتقاق الحِكْمَة؛ لأنَّها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل ، وأَحْكَمَ الأَمْر َ: أي أَتْقَنَه فاستَحْكَم، ومنعه عن الفساد،أو منعه من الخروج عمَّا يريد . ومعنى الحِكْمَة إصطلاحًا:
قال "أبو إسماعيل الهروي": (الحِكْمَة أسم لإحكام وضع الشيء في موضعه) . و"الفارابي" في كتاب"تحصيل السعادة" قال:(أن هذا العلم "الفلسفة" على ما يقال إنه كان في القديم عند الكلدانيين وهم أهل العراق كما صار الى أهل مصر ثم أنتقل الى اليونان) حيث كانوا يسمونها الحكمة على الأطلاق أو "الحكمة العظمى" .
هل الفلسفة خلق يوناني خالص؟ هل العرق الآري هو العرق الأوحد الذي يُنتج فكر وفلسفة ؟ هل عقمت بقية الأعراق عن توليد فلسفة ؟ هل العقلية التوليدية هي حصرية للعرق الآري والباقي يأخذ ويُقلد؟ لماذا لم تظهر الفلسفة اليونانية إلا في المناطق المتصلة بالشرق ؟ هل الفلسفة نتاج شرقي أم غربي؟
إن التاريخ المكتوب للحضارات الشرقية القديمة أنتج حضارة منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، بينما لم يكن لبلاد اليونان وجود أصلاً في ذلك التاريخ إلا في بداية القرن العاشر قبل الميلاد كحضارة . فكيف نتصور أن الإنسان الشرقي ظل خالياً من التفكير العقلي أو الفلسفي أو العلمي كل هذه القرون ليبدأ فقط مع اليونان وفي القرن السادس قبل الميلاد؟!!
يرى الغربيون أن مباحث الشرقيين في الحكمة تختلط فيها الفلسفة والدين ، والتفسير العقلي يختلط بالأسطورة .
وأنكروا وجود الفكر الفلسفي في حضارة سومر وأعتبروا الأسطورة لا ترتقي الى مستوى التفكير الفلسفي . وهذا الرأي يدحضه خبير السومريات "كريمر" في كتابه "أساطير سومرية" فهو يقول عن الأساطير :(أنها أول محاولة في تاريخ الفكر الإنساني لوضع مفاهيم فلسفية ..وأن بواكير التفكير الفلسفي الكوني ، وضعه حكماء الحضارة السومرية) .
ويشير الدكتور فاضل عبد الواحد علي في كتابه"من ألواح سومر إلى التوراة "الى تأثر التوراة بالادب السومري ، بقوله:أن (أعمال قدماء الإغريق تأثرت إلى حد ما تأثراً عميقاً بالأعمال الأدبية السومرية.) . أما "ديورانت" في موسوعته "قصة الحضارة" يقول:(أن الغربيين الذين يزعمون خطأ أن ثقافة اليونان كانت المعين الوحيد الذي نهل منه العقل الحديث ستتولاهم الدهشة إذا عرفوا الى أي حد تدين علوم الغرب وأدابه وفلسفته لتراث مصر والشرق ) .
إذن أصل الفكر الفلسفي يرجع إلى حكمة بلاد ما بين النهرين القديمة ، التي جسدت فلسفات معينة في الحياة، وفي أشكال متعددة ،فالمنطق السومري والبابلي تجاوز الملاحظة التجريبية .
في كتاب "علوم البابليين" تؤكد "مرغريت روثن" :(أن أول حضارة عالمية عرفها الإنسان هي حضارة وادي الرافدين ، وأنها كانت حضارة راقية متقدمة ، ومتكاملة الجوانب والأبعاد ، قلما ضاهتها حضارة من الحضارات القديمة الأخرى ، بل هي المعين الأول لجميع الحضارات اللاحقة ) فليس من المنطق أن تنشأ حضارات في الشرق مزدهرة علمياً وأدبياً وفنياً وهندسياً وقانونياً وعسكرياً دون ظهير فلسفي يثبت أركانها وهذه سبقت بالاف السنين الحضارة التي نشأت في بلاد اليونان .
لقد أخبرنا القرآن الكريم أن مجتمع نوح البابلي كان يدين بديانة وثنية، وذكر لنا أسماء بعض الأصنام التي كانوا يعبدونها، وهي: "وَد"و"سواع" و"يغوث" و"يعوق" و"نسر". والذي يتفق عليها مفسروا القرآن أن هذه الأسماء هي أسماء رجال صالحين عاشوا حياة روحانية تركت أثرها الديني على المجتمع ، ومع تقادم الزمن نسجت حولها أساطير وخرافات كثيرة تـُعلي من شأنها، وجيلاً بعد جيل تحولت في معتقدات الناس إلى آلهة، نحتوا لها أصناماً ثم صاروا يعبدونها. ألا يدلنا هذا أن هؤلاء حكماء من خلال أعتزاز وتقدير المجتمع البابلي الى حد عبادتهم .
كذلك تذكر لنا المدونات السومرية أسماء لحكماء سومريين ، نذكر من بينهم :
١- آتراحاسس "الحكيم" أحد حكماء العراقيين المعروفين لقب بـ(منقذ البشرية و المتناهي في الحكمة)
٢- آتانيا الذي أقترن أسمه بالتساؤل عن سر الحياة ومعالجة مشكلة العقم والبحث عن سر المولد .
٣- آدابا الحكيم العارف المتصف برجاحة العقل ولقب بـ(الأبن الأحكم)لمدينة أريدو السومرية ووصف بأنه"معصوم من الخطأ" وهو أحد الحكماء السبعة .
٤- كوديا الذي يمثل نزوع الانسان الى الأصلاح والتأمل أسمه بالسومرية "ذا فكر واسع" .
أن أول حقبة فلسفية عند اليونان تعرف بأسم "الفلاسفة الطبيعيين" ، الذي يقف في طليعتهم الفيلسوف "طاليس المالطي" ولو تساءلنا عن هؤلاء لوجدنا أنهم لم يكونوا من أثينا بل من "أيونيا" آسيا الصغرى ، التي تعتبر مهد الفلسفة اليونانية وسكانها "مزيج متنوع من الأعراق" ، كما يقول "هيرودوت" ، وهذا المزيج لم يكن موجود في أثينا ، وهذه دلالة على أن الفلسفة ذات أصل شرقي .
فـ "طاليس المالطي" - ومالطا هي أشهر المدن الأيونية - عاش في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد ، هو أول فلاسفة اليونان لم يكن آرياً بل كان فينيقياً شرقياً ، وهو أول من حمل لقب الحكيم ، حسب ما يشير الى ذلك "هيرودوت" .
في كتابه "الفلسفة اليونانية" يقول "شارل فرنر":(هناك حقيقة لا تنكر، وهي أن الفلسفة اليونانية إنما نشأت من تماس اليونان بالشرق) . إذن أصل الفكر الفلسفي هو الشرق القديم وليس اليونان .
أما الذين يقولون بمركزية الفلسفة اليونانية فهو مجرد وهم ، فما هي إلا فلسفة رافدانية مسروقة ، أنتشرت في أيونيا ثم منها إلى أثينا . يذكر الباحث السويدي "زيتر هولم": (ليست حضارات وادي الرافدين السومرية والبابلية أقدم الحضارات في التاريخ فحسب، بل أننا نجد أنفسنا في هذه الحضارات، أساطيرنا وملاحمنا وحتى ديننا ،، أن الكثير مما تعلمناه ناظرين إليه كإرث للإغريق واليهود يعود إلى هذه الحضارات) .
الخـاتمــة
الدكتور"علي الوردي" عالم الاجتماع العراقي يأسف لأن المجتمع العراقي لايبتدع ثقافته بل يستوردها من الخارج بقوله:( أنه الآن لا يبتدع المذاهب المستحدثة كما كان يفعل أسلافه ، بل هو يستوردها من الخارج ويتنازع عليها . والظاهر أن رقي الحضارة الحديثة التي جاءت اليه جعلت منه "مصباً" للمذاهب ، لا "منبعاً" لها ) .
أن الكتاب يمثل جهدا ً متميزا ًإنبثقت فكرته لأماطة اللثام عن التنوع فى الأفكار الفلسفية والإنسانية التى وردت فى نصوص الشاعر عبد الجبار الفياص الشعرية ومحاولة المؤلف الغوص في أعماق تلك النصوص لسبر أغوارها من ناحية التناول الفكري وإضاءة النص وكشف معانيه .
إننا اليوم بحاجة إلى أمثال هذه الدراسات المتعمقة في الفكر والمنهج ، لأنها تمثل خلاصة وثمرة عقل غاص في أفكار الحضارة ، وأضحى ناقداً قد أتى عليها من قواعدها ومنطلقاتها،
فالكتاب إضاءة جديدة لتاريخ حضارة وادي الرافدين ببعدها الفلسفي والثقافي والعلمي والسسيولوجي والتاريخي والمعرفي ، وهو مساهمة جادة وعلمية لباحث متمرس، أستطاع أن يطوّع وسيلته الإبداعية عن الحقيقة والدفاع عنها ، وقناعتي أن هذا الكتاب يعتبر رفداً معرفياً متميّزاً للمكتبة العربية لكاتب متميّز .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق