عينان تائهتان ومتألمتان؛ تنظران الى رصيف مرسى مهجورمن مخلفات آخر حرب. الأمواج تتعانق. يقبل فم الشط رأس الخليج. في الافق المرئي تتزاحم البواخر على الممرات العميقة الغورلسطح مياه الخليج القريبة من الساحل، للوصول الى الموانىء. أصوات طيور، وشمس لم تغادر الى الآن بحمرتها التى تتراقص على سطح مياه الخليج. جمال أسر يغري بالمكوث والتأمل. لاشيء يكدر سكينة المكان. نجا من آخر حرب بأعجوبة. دخان يتصاعد من سيكارة تنتقل بين شفتيه والسبابة والوسطى. السيكارة تنسيه الهم والغم. يصعد على أجنحة الدخان الى سماوات الأنتشاء الموهوم والذي يحدثه الدخان في الروح. ثمة حياة ترفض أن تهدأ وتستكين. تصطخب وراء الضلوع مواجع لا تنام. يدخل الدخان في حجيرات الرئتين، يحرك في نفسه الاوجاع. تتكاثر الاوجاع، تتدافع، تتزاحم. يشعر بفيض من الحسرات. وفي ذات الوقت، بين الفينة والاخرى يلوم الدنيا والبحر ونفسه. لقد جرت الأمور خارج إرادة الجميع؛ ولم يكن لأحد قدرة على رد ما حصل. يتراجع عن اللوم ويقول: لا شىء يستحق اللوم. يكتفي بالخروج كل مساء لممارسة نزهة تفريغ الهموم على في حزم من دخان السكائر. ومعاينة مياه الخليج من هذا الرصيف. رجلاه الى الركبتين غاطستان في المياه. انتهت السيكارة. رمى عقبها. تلتهب نار شمس أفلة في البعيد بأنتظار أنطفائها في مياه الخليج. طيف الوان لقوس قزح باذخ الجمال. في هذا المكان القصي، المتوسد من جهة الشرق مصب شط العرب في الخليج ورأس الخليج من الجنوب؛ كان الحياة هادئة وبهيجة ومريحة. الصيادون يعودون بزوارقهم المحملة بالاسماك. كانت الدنيا هنا، في هذا المكان، تسيرعلى أيقاع منتظم. كانا هو وصديقه ينتظران عودة ابوايهما من رحلة الصيد على جرف الشط. كم كانت تسيطر عليه حالات من الانقباض والاكتئاب، حين رحلت عائلة صديقه في ذلك اليوم البعيد ولم ترجع ابدا. الشيء الذي يؤلمه حتى هذه اللحظة، لم يعرف في أي ركن من هذا العالم استقر بهم المقام.في ذلك الصباح البئيس وهو ينظر الى السيارة التى حملتهم، أنتابه الحزن وكأن قطعة من روحه سقطت منه. شعربالاغتراب الشديد وبشيء من الغيظ سيطر على خلجاته. في ذلك الوقت لم يكن قد تجاوز السابعة عشر من العمر. عندما يقف منتظراً صديقه أمام باب البيت ليدهبا الى المدرسة؛ يسمع صوت سعيد : أنتظر دقيقة. نهارات، تجللها البهجة، كان يقضيها مع صديقه. كم تألم لغيابه. لم يلتق به أبداً، بعد الرحيل. كانا يذهبان بعيداً، الى مكان هادىء. يتأملان مياه الخليج. يجري في ممرات الدماغ؛ الصوت الشجي في غناء ناعم وحزين. تحمل الكلمات المموسقة الكم الهائل من القهر. كان يحس بها، مستوطنة في صدر صديقه، على الرغم من صغر سنه في ذلك الوقت، أذ ينصت إليه. فجأة يتوقف ويلتفت إليه -: سيف؛ عندما أكبر، سوف أشتري زورق صيد كبير. وأدع أبي يرتاح من تعب الصيد. لم يستطع الوفاء بوعده ولم يحقق اي مما كان يخطط ويريد؛ على العكس من رغبته جرت الامر بطريقة قاسية ولاتحتمل، رحلا، الجميع رحلا. لم يبق له أحداً في الدنيا. من شدة القهر، وضع وجهه بين كفي يديه وتنفس بعمق.. قال أذ تذكرهما بصوت مرتفع من غير أن ينتبه، خرج صوته من فيه على الرغم منه: أحبكما. تترد صدى صوته في جنبات الليل. نظر الى عتمة مياه الخليج لبرهة. ثم عاد ينظر الى قطعة أرض من خيال، الى المقبرة الصغيرة الكائنة، هناك، في المكان البعيد، حيث لاتصل باصرتاه إليها، الحب والشوق، لهما، ينامان في النفس، ويؤججان عطش الروح الى القبرين، هناك. أسبوعان لم يزرهما. شهق، شهقات متتابعات لقلب مل جدب العيش بلا أنيس. كان يحلم بالحب الأنيس والعيش به، بينهما، لا هذا حدث وصار حقيقة ولا، هما، ظلا معه. ذلك، كان قبل أكثر من عقدين. حلم جميل كان؛ قذفته بعيداً، أعماق مياه الخليج، الى مخارج من الحرمان والوحدة. احدث أختفاء ذاك الصديق وغيابهما، أبوه وأمه في قلبه جرحا لم يندمل. تدفق الصوتان من تلافيف الدماغ، سمع أمه، تسأل أبيه -: ما أخبار عائلة أبو سعيد؟. : العلم عند الله. دعِ القادمات من الايام تكشف لنا مكان أستقرارهم. أو يتملكهم الحنين ويعودون. : يا أبو سيف؛ أسأل الصيادين، عل أحدهم، يعلم أين حط بهم المقام. أسكتِ، لا احد يعرف، أين راحلوا. أما الآن، فسوف أنام لأخذ قسطاً من الراحة؛ أمامى رحلة صيد في مياه الخليج لأيام. ناما وتركاه وحده يعاتب ليل الخليج على تغيبه لصديقه. تكاثف الظلام فوق وجه المياه بأمتدادها اللانهائي. أستغرق، ينظر في الظلام وينصت الى عواء ونباح وزمجرة ودوي يثقب أستار الظلام، لم يدم به الحال على هذا الوضع، أذ، جاء أبوه إليه. فتح باب الذاكرة ودخل. كان أبوه يغادر على متن زورق للصيد في اعالي مياه الخليج ولا يعود ألا بعد ايام . يمضي في البيت، عندما يرجع من البحر، عدة أيام. كم كان يشعر بالمتعة وهو ينصت الى أبيه يسرد لهم ما مر عليه في أعالي البحر. كان يشعر بالمتعة لساعات. كانت أمه تفغر فاهها عندما يصف المواجهة بين زورقهم وعدد من الحيتان. ذات ليل، في القطع الاخير من الليل، أستيقظ مندهشاً على صياح أبوه. عاد أبوه من رحلة الصيد في البحرعلى غير عادته في كل مرة، رجع بعد يومين. ولج من الباب. كان حزيناً. -: مصيبة. صرخ. فسحت له طريق الجلوس على الكنبة. -: خطأ قاتل كان السبب في المصيبة. قال لها وهو يأخذ مكانه على الكنبة. في تلك الليلة، أذ صحا، تخاصمت عيناه مع أغماضها، أستمع مقهورا الى أبيه وهو يسرد ما جرى: جرح أحد الصيادين، نزل سيل الدم الى المياه. تنبه أبوه الى خطورة الدم في مياه الخليج. -: أسرعوا في الخروج من البحر. أبحر زورقهم بأقصى سرعة للوصول الى الساحل، كي يتجنبوا المواجهة مع الحيتان .حيتان الخليج القادمة من أعالي البحار والمحيطات البعيدة تمتلك مجسات تحسس لا مثيل لها. تتحسس على بعد آلاف الأميال البحرية. من خياشم الشم والتى تشم رائحة الدم على البعد ذاته. لذا، لم يسعهم الأفلات فقد ألتفت حول الزورق بعد دقائق. -: كاد أن ينقلب الزورق، كان أبوه يقول. -: أنسل حوت هو الأكبر من بين الحيتان، تحت الزورق ورفعه، ألا أن الزورق سقط على قاعدته فوق وجه المياه. ثم أخذت تضرب جوانب الزورق. والزورق يتمايل بشدة حتى دب اليأس من النجاة في النفوس. لكن حب الحياة وشجاعة الصيادين؛ ضخ فينا طاقة قوية للصمود. أستخدمنا في رد الحيتان هراوات من الخشب المتوفر؛ كنا نستعمله لغرض السيطرة على الاسماك الكبيرة جداً وهي تقاوم أدخالها الى بطن الزورق. حدثت المفاجأة المؤلمة ونحن نقترب من الساحل؛ رفع الحوت الكبيرقامته فوق سطح المياه، أكبر وأضخم المجموعة، حذاء الجانب الايمن والذي كان فيه قاسم وأثنان يمنعون الحيتان من الأقتراب من حافة الزورق بمسافة قاتلة، وكنت أنا في الجانب المقابل، أندفع قاسم أكثر، عابراً مسافة الأمان، مما مكن الحوت بالأمساك بذراعه وسحبه معه الى أعماق المياه. كانت عيناه وهما تحملقان بي، تريدان النجدة للخلاص من فم الحوت. ذهلنا ولم نقو على الحركة. في تلك الليلة لم ينم حتى بعد أن خلدا أبوه وأمه للنوم.وهما نائمان ظل صدى صوت أبوه، ترجعه إليه جدران الغرفة. : كانت لحظة ثقيلة، ثقلها، اثقل من جبال الدنيا على رأسي؛ اللحظة التى عليَ بها أبلاغ أم سعيد بالحادثة. كانت عائلته نائمة. تحيرنا في الطريقة التى ننده بها أم سعيد وكيفية مواجهتها بالخبر والناس في البيوت المجاورة نيام في هذه الساعة من الليل. كم كان الموقف حرج وصعب يا سميه. في تلك الليلة وبعد أن ناما أبويه، ظل ساهراً رغم حاجة جسده الشديدة للنوم. لقد أمضيا هو وصديقه سعيد، وقت ما بعد الظهيرة بعد أن قضيا ما قبل ذلك من وقت في المدرسة؛ يتجولان على الساحل البعيد الى أن غادرت الشمس واختفت. عندها توادعا على أمل اللقاء في الغد. كان متألماً. يقاوم أغماض عينيه. يتراءى له بين الفينة والأخرى وضع صديقه كيف هو الآن في هذا الليل الحزين والطريقة التى يتأمل بها مآل أبيه. كان خائفاً، يحدق في الجدران والسقف. خرجت من البحر حيتان بافواه مفتوحة على سعتها. ثم اخذت تتقافز على مقربة منه وتطلق اصوات مخيفة. استمرت ترقص رقصة الموت على رمال الساحل. اخذ وهو ينظرها برعب لم سبق ان سيطر عليه بهذا الهول؛ يرتجف بارتجاف لا يسيطر عليه. وفي لحظة غادرة من غير تنبيه، تقدمت نحو أبيه، تنوي التهامه. : بويه. فز أبوه وأمه على صرخته. : ما بك؟!. قالا معا. بسملت أمه وحوقلت. ناما بعد أطمأنا على أنه أغمض عينيه ونام. وفي الحقيقة، أستمر ساهرا في تلك الليلة. يحاول جاهداً الآن، كي ينعم بالسكينة والراحة، أبعاد هذه الاصوات العابرة إليه على قناطر سنوات وحدته. لكن شيئاً مما يريد لم يحدث. على العكس أختلطت مع ما حمل الليل إليه من صفير الريح والبواخر وزمجرة الامواج. تسائل: بواخر حرب أم بواخر نفط أم بواخر تجارة. اراد المغادرة والذهاب لزيارة القبرين في المقبرة، المسافة الطويلة، جعلته يتراجع ويؤجل فكرة الزيارة الى نهار الغد. أختفت معالم البحر في العتمة. تراءى له أبوه وأبو صديقه سعيد راقدان وكذا بقية الصيادين في بطون الحيتان وليس في حوت واحد. تقاسمت الحيتان لحمهم. في أي وقت أولمت الحيتان الوليمة في الليل أم في الظهر أم في الصبح. في اخر مرة لرحلات الصيد، ذهب أبوه ولم يعد. ليس هو فقط من لم يرجع؛ الزورق بما فيه من طاقم الصيادين لم يعد.هو الآن هناك مع بقية الصيادين، يتوسدون قاع الخليج. صفن وتفكر في الامر، تفكر؛ من أن أبيه وجماعته، تحولوا من سنوات الى جينات في بطون الحيتان التى أكلتهم في تلك الوليمة البعيدة. ثم مع تقادم السنوات تناقلت الحيتان جيناتهم، حتى وصلت جيناتهم الى حيتان اليوم.. تأفف وتملل أذ، أخذ يصحو من متعة جمال الألم الذي أججته فتائل الدخان في الروح. نبش في جيوبه عن سيكارة من ذاك النوع، ربما نسيها. حين لم يعثر على ضالته، قال: تباً لها من حياة...
أبحث عن موضوع
الأربعاء، 5 أبريل 2017
حيتان الخليج .............. بقلم : مزهر جبر // العراق
عينان تائهتان ومتألمتان؛ تنظران الى رصيف مرسى مهجورمن مخلفات آخر حرب. الأمواج تتعانق. يقبل فم الشط رأس الخليج. في الافق المرئي تتزاحم البواخر على الممرات العميقة الغورلسطح مياه الخليج القريبة من الساحل، للوصول الى الموانىء. أصوات طيور، وشمس لم تغادر الى الآن بحمرتها التى تتراقص على سطح مياه الخليج. جمال أسر يغري بالمكوث والتأمل. لاشيء يكدر سكينة المكان. نجا من آخر حرب بأعجوبة. دخان يتصاعد من سيكارة تنتقل بين شفتيه والسبابة والوسطى. السيكارة تنسيه الهم والغم. يصعد على أجنحة الدخان الى سماوات الأنتشاء الموهوم والذي يحدثه الدخان في الروح. ثمة حياة ترفض أن تهدأ وتستكين. تصطخب وراء الضلوع مواجع لا تنام. يدخل الدخان في حجيرات الرئتين، يحرك في نفسه الاوجاع. تتكاثر الاوجاع، تتدافع، تتزاحم. يشعر بفيض من الحسرات. وفي ذات الوقت، بين الفينة والاخرى يلوم الدنيا والبحر ونفسه. لقد جرت الأمور خارج إرادة الجميع؛ ولم يكن لأحد قدرة على رد ما حصل. يتراجع عن اللوم ويقول: لا شىء يستحق اللوم. يكتفي بالخروج كل مساء لممارسة نزهة تفريغ الهموم على في حزم من دخان السكائر. ومعاينة مياه الخليج من هذا الرصيف. رجلاه الى الركبتين غاطستان في المياه. انتهت السيكارة. رمى عقبها. تلتهب نار شمس أفلة في البعيد بأنتظار أنطفائها في مياه الخليج. طيف الوان لقوس قزح باذخ الجمال. في هذا المكان القصي، المتوسد من جهة الشرق مصب شط العرب في الخليج ورأس الخليج من الجنوب؛ كان الحياة هادئة وبهيجة ومريحة. الصيادون يعودون بزوارقهم المحملة بالاسماك. كانت الدنيا هنا، في هذا المكان، تسيرعلى أيقاع منتظم. كانا هو وصديقه ينتظران عودة ابوايهما من رحلة الصيد على جرف الشط. كم كانت تسيطر عليه حالات من الانقباض والاكتئاب، حين رحلت عائلة صديقه في ذلك اليوم البعيد ولم ترجع ابدا. الشيء الذي يؤلمه حتى هذه اللحظة، لم يعرف في أي ركن من هذا العالم استقر بهم المقام.في ذلك الصباح البئيس وهو ينظر الى السيارة التى حملتهم، أنتابه الحزن وكأن قطعة من روحه سقطت منه. شعربالاغتراب الشديد وبشيء من الغيظ سيطر على خلجاته. في ذلك الوقت لم يكن قد تجاوز السابعة عشر من العمر. عندما يقف منتظراً صديقه أمام باب البيت ليدهبا الى المدرسة؛ يسمع صوت سعيد : أنتظر دقيقة. نهارات، تجللها البهجة، كان يقضيها مع صديقه. كم تألم لغيابه. لم يلتق به أبداً، بعد الرحيل. كانا يذهبان بعيداً، الى مكان هادىء. يتأملان مياه الخليج. يجري في ممرات الدماغ؛ الصوت الشجي في غناء ناعم وحزين. تحمل الكلمات المموسقة الكم الهائل من القهر. كان يحس بها، مستوطنة في صدر صديقه، على الرغم من صغر سنه في ذلك الوقت، أذ ينصت إليه. فجأة يتوقف ويلتفت إليه -: سيف؛ عندما أكبر، سوف أشتري زورق صيد كبير. وأدع أبي يرتاح من تعب الصيد. لم يستطع الوفاء بوعده ولم يحقق اي مما كان يخطط ويريد؛ على العكس من رغبته جرت الامر بطريقة قاسية ولاتحتمل، رحلا، الجميع رحلا. لم يبق له أحداً في الدنيا. من شدة القهر، وضع وجهه بين كفي يديه وتنفس بعمق.. قال أذ تذكرهما بصوت مرتفع من غير أن ينتبه، خرج صوته من فيه على الرغم منه: أحبكما. تترد صدى صوته في جنبات الليل. نظر الى عتمة مياه الخليج لبرهة. ثم عاد ينظر الى قطعة أرض من خيال، الى المقبرة الصغيرة الكائنة، هناك، في المكان البعيد، حيث لاتصل باصرتاه إليها، الحب والشوق، لهما، ينامان في النفس، ويؤججان عطش الروح الى القبرين، هناك. أسبوعان لم يزرهما. شهق، شهقات متتابعات لقلب مل جدب العيش بلا أنيس. كان يحلم بالحب الأنيس والعيش به، بينهما، لا هذا حدث وصار حقيقة ولا، هما، ظلا معه. ذلك، كان قبل أكثر من عقدين. حلم جميل كان؛ قذفته بعيداً، أعماق مياه الخليج، الى مخارج من الحرمان والوحدة. احدث أختفاء ذاك الصديق وغيابهما، أبوه وأمه في قلبه جرحا لم يندمل. تدفق الصوتان من تلافيف الدماغ، سمع أمه، تسأل أبيه -: ما أخبار عائلة أبو سعيد؟. : العلم عند الله. دعِ القادمات من الايام تكشف لنا مكان أستقرارهم. أو يتملكهم الحنين ويعودون. : يا أبو سيف؛ أسأل الصيادين، عل أحدهم، يعلم أين حط بهم المقام. أسكتِ، لا احد يعرف، أين راحلوا. أما الآن، فسوف أنام لأخذ قسطاً من الراحة؛ أمامى رحلة صيد في مياه الخليج لأيام. ناما وتركاه وحده يعاتب ليل الخليج على تغيبه لصديقه. تكاثف الظلام فوق وجه المياه بأمتدادها اللانهائي. أستغرق، ينظر في الظلام وينصت الى عواء ونباح وزمجرة ودوي يثقب أستار الظلام، لم يدم به الحال على هذا الوضع، أذ، جاء أبوه إليه. فتح باب الذاكرة ودخل. كان أبوه يغادر على متن زورق للصيد في اعالي مياه الخليج ولا يعود ألا بعد ايام . يمضي في البيت، عندما يرجع من البحر، عدة أيام. كم كان يشعر بالمتعة وهو ينصت الى أبيه يسرد لهم ما مر عليه في أعالي البحر. كان يشعر بالمتعة لساعات. كانت أمه تفغر فاهها عندما يصف المواجهة بين زورقهم وعدد من الحيتان. ذات ليل، في القطع الاخير من الليل، أستيقظ مندهشاً على صياح أبوه. عاد أبوه من رحلة الصيد في البحرعلى غير عادته في كل مرة، رجع بعد يومين. ولج من الباب. كان حزيناً. -: مصيبة. صرخ. فسحت له طريق الجلوس على الكنبة. -: خطأ قاتل كان السبب في المصيبة. قال لها وهو يأخذ مكانه على الكنبة. في تلك الليلة، أذ صحا، تخاصمت عيناه مع أغماضها، أستمع مقهورا الى أبيه وهو يسرد ما جرى: جرح أحد الصيادين، نزل سيل الدم الى المياه. تنبه أبوه الى خطورة الدم في مياه الخليج. -: أسرعوا في الخروج من البحر. أبحر زورقهم بأقصى سرعة للوصول الى الساحل، كي يتجنبوا المواجهة مع الحيتان .حيتان الخليج القادمة من أعالي البحار والمحيطات البعيدة تمتلك مجسات تحسس لا مثيل لها. تتحسس على بعد آلاف الأميال البحرية. من خياشم الشم والتى تشم رائحة الدم على البعد ذاته. لذا، لم يسعهم الأفلات فقد ألتفت حول الزورق بعد دقائق. -: كاد أن ينقلب الزورق، كان أبوه يقول. -: أنسل حوت هو الأكبر من بين الحيتان، تحت الزورق ورفعه، ألا أن الزورق سقط على قاعدته فوق وجه المياه. ثم أخذت تضرب جوانب الزورق. والزورق يتمايل بشدة حتى دب اليأس من النجاة في النفوس. لكن حب الحياة وشجاعة الصيادين؛ ضخ فينا طاقة قوية للصمود. أستخدمنا في رد الحيتان هراوات من الخشب المتوفر؛ كنا نستعمله لغرض السيطرة على الاسماك الكبيرة جداً وهي تقاوم أدخالها الى بطن الزورق. حدثت المفاجأة المؤلمة ونحن نقترب من الساحل؛ رفع الحوت الكبيرقامته فوق سطح المياه، أكبر وأضخم المجموعة، حذاء الجانب الايمن والذي كان فيه قاسم وأثنان يمنعون الحيتان من الأقتراب من حافة الزورق بمسافة قاتلة، وكنت أنا في الجانب المقابل، أندفع قاسم أكثر، عابراً مسافة الأمان، مما مكن الحوت بالأمساك بذراعه وسحبه معه الى أعماق المياه. كانت عيناه وهما تحملقان بي، تريدان النجدة للخلاص من فم الحوت. ذهلنا ولم نقو على الحركة. في تلك الليلة لم ينم حتى بعد أن خلدا أبوه وأمه للنوم.وهما نائمان ظل صدى صوت أبوه، ترجعه إليه جدران الغرفة. : كانت لحظة ثقيلة، ثقلها، اثقل من جبال الدنيا على رأسي؛ اللحظة التى عليَ بها أبلاغ أم سعيد بالحادثة. كانت عائلته نائمة. تحيرنا في الطريقة التى ننده بها أم سعيد وكيفية مواجهتها بالخبر والناس في البيوت المجاورة نيام في هذه الساعة من الليل. كم كان الموقف حرج وصعب يا سميه. في تلك الليلة وبعد أن ناما أبويه، ظل ساهراً رغم حاجة جسده الشديدة للنوم. لقد أمضيا هو وصديقه سعيد، وقت ما بعد الظهيرة بعد أن قضيا ما قبل ذلك من وقت في المدرسة؛ يتجولان على الساحل البعيد الى أن غادرت الشمس واختفت. عندها توادعا على أمل اللقاء في الغد. كان متألماً. يقاوم أغماض عينيه. يتراءى له بين الفينة والأخرى وضع صديقه كيف هو الآن في هذا الليل الحزين والطريقة التى يتأمل بها مآل أبيه. كان خائفاً، يحدق في الجدران والسقف. خرجت من البحر حيتان بافواه مفتوحة على سعتها. ثم اخذت تتقافز على مقربة منه وتطلق اصوات مخيفة. استمرت ترقص رقصة الموت على رمال الساحل. اخذ وهو ينظرها برعب لم سبق ان سيطر عليه بهذا الهول؛ يرتجف بارتجاف لا يسيطر عليه. وفي لحظة غادرة من غير تنبيه، تقدمت نحو أبيه، تنوي التهامه. : بويه. فز أبوه وأمه على صرخته. : ما بك؟!. قالا معا. بسملت أمه وحوقلت. ناما بعد أطمأنا على أنه أغمض عينيه ونام. وفي الحقيقة، أستمر ساهرا في تلك الليلة. يحاول جاهداً الآن، كي ينعم بالسكينة والراحة، أبعاد هذه الاصوات العابرة إليه على قناطر سنوات وحدته. لكن شيئاً مما يريد لم يحدث. على العكس أختلطت مع ما حمل الليل إليه من صفير الريح والبواخر وزمجرة الامواج. تسائل: بواخر حرب أم بواخر نفط أم بواخر تجارة. اراد المغادرة والذهاب لزيارة القبرين في المقبرة، المسافة الطويلة، جعلته يتراجع ويؤجل فكرة الزيارة الى نهار الغد. أختفت معالم البحر في العتمة. تراءى له أبوه وأبو صديقه سعيد راقدان وكذا بقية الصيادين في بطون الحيتان وليس في حوت واحد. تقاسمت الحيتان لحمهم. في أي وقت أولمت الحيتان الوليمة في الليل أم في الظهر أم في الصبح. في اخر مرة لرحلات الصيد، ذهب أبوه ولم يعد. ليس هو فقط من لم يرجع؛ الزورق بما فيه من طاقم الصيادين لم يعد.هو الآن هناك مع بقية الصيادين، يتوسدون قاع الخليج. صفن وتفكر في الامر، تفكر؛ من أن أبيه وجماعته، تحولوا من سنوات الى جينات في بطون الحيتان التى أكلتهم في تلك الوليمة البعيدة. ثم مع تقادم السنوات تناقلت الحيتان جيناتهم، حتى وصلت جيناتهم الى حيتان اليوم.. تأفف وتملل أذ، أخذ يصحو من متعة جمال الألم الذي أججته فتائل الدخان في الروح. نبش في جيوبه عن سيكارة من ذاك النوع، ربما نسيها. حين لم يعثر على ضالته، قال: تباً لها من حياة...
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق