خلعَ سنينَ حياتِهِ الثمانين، علَّقَها على مشجبِ الزمنِ العتيق، وراحَ يتفقّد ذاتَهُ. كلُّ شيء فيه تبدّل، أنكرتِ المرآةُ وجهَهُ، وصارَ على قابِ قوسٍ من زوال، دروبٌ متعرجةٌ تزاحمت على جبينه، وغفت أقواس الدهشة على حلم لم يتحقق، تصحّرت غابةُ رأسِهِ ولم تبقَ سوى ندوبٍ شوهاءَ، وانهمرَ الثلجُ على ما تبقى منها، ذراعاهُ ناءَتْ بحملِ أصابِعِه، يدُه باتت ترقّص الكأس بمهارة قسريّة. شفتاه الجمريتان يوما ما، صارتا مسكنًا للبطارق، أسنانُهُ العاجيّةُ كالمشطِ تهاوَتْ، فغَدَا فمه كثقبٍ في الذاكرة، أذناهُ ما عاد يؤرنبُهما إذا ما همست شفة أضناها الحنين، وما عادَتْ تغسلُ الأصواتَ عندَ كلِّ فحيحٍ، هجرَ البريقُ محجريهِ فراحَتْ حدقتاهُ تزوغانِ عندَ كل نظرةٍ. استعارَ ظهرُه قوسَ الكُسَعِيّ قبل اكتشافِ أصالتِهِ، أرجلُه الثلاث باتَت أضعفَ من أن تحملَهُ وإن رمى الثالثةَ الدخيلةَ التزمَ المقعدَ الذي صار له خدينا.
ذات عصرٍ خرجَ من محلٍّ معروف بتجهيزِ لوازمِ الموتى، على كتفه نعشُهُ، وتحتَ إبطِهِ كفنٌ من القماشِ الأبيضِ الناصعِ، ويدُهُ التي تُمسكُ العصا تلوِّحُ لمن يعرفونَهُ، وهو يقولُ ممازحاً ضاحكاً:
"بخاطركمْ يا جماعه استُروا ما شفتُمْ منا"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق