قصة ( فلسفة الأستاذ - م) للكاتبة العراقية ازدهار سلمان
أن البنيان السردي الذي يتخذ من المفارقات حتمية الظهور في الوجود الإنساني، يعطي الابعاد الكبيرة في فهم تجربة الإنسان ضمن حركة الوجود والتأمل فيها ،ما يجعل النص السردي ذا تركيب جوهري في البحث عن المعنى في الإنسان الذي يحمل الزمن التعقلي لكل مفردات التظاهر الاجتماعي . لأن الأنساق الاجتماعية تحدد طرق السلوك البشري ضمن القيم والأعراف، فهذه الأنساق للمجموعة القيمية تختلف من شعب الى شعب، بل جائز تختلف من مجتمع الى مجتمع أخر، لأن حدودية الأعراف هي من تحدد سلوكية الفرد ضمن هذا المجتمع، ونجد هنا الكاتبة ازدهار سلمان استطاعت أن تضع الإشارة الأولى ما بين قيم العقل والقيم التي هي خارج العقل، أي العقل غير المدرك لهذه القيم المستقرة في الإنسان، وهذا يحدث حين يمرض هذا العقل نتيجة الضغط الحاصل باتجاهه من قبل القيم الإدراكية في سلوك الفرد، ونجد الكاتبة وضعت العقل المؤشر الأول في تركيبة المجتمع لكي تسرد كيفية غياب العقل في هذه المجموعة القيمية التي تحدد عمق أنتماء الفرد ضمن محيطه الإنساني، من خلال تغييب العقل وقيمه المدركة لوجوده من خلال الفهم الإدراكي.الكاتبة استطاعت أن نبني هرم السرد من خلال مفهوم العقلو هوالأستاذ وفلسفته والذي هو الغائب الحاضر، في وجودية الحضور ضمن تراكيب سردية موحية بفهم النموذج لعملية فقد العقل ( الجنون ) وفي نفس الوقت أعطت لزمن العقل القوة التي تعطي للفهم الحياة في بعادها النفسية والتركيبية لعدم وجود العقل ...
نجد أن الكاتبة تبتدئ بالسؤال الافتراضي ((فيما مضى من سنوات كنت اتساءل! كيف يصبح العاقل مجنونا ..؟ /لم أكن أتخيل ذلك لأن أرائي متشككة في كل شيء ومهما حاولت /الولوج الى هذا العالم المغلف بالتأملات والافتراضات ) لتحدد ماهية الحدث المرتبط بالعقل، ومن أجل أن تبني تراكم الأحداث على صورية هذه الأحداث و تعطي للمعنى المخفي داخل النص عمق الحدث الداخلي ضمن الوعي في مكاشفة لكل ما يأتي من نسق الفكرة التي تعطي فكرية الإظهار. لأن التناظر الداخلي ما بين العقل وخارجه من أحداث لا تخضع للمنطق في المسار التأويلي، الذي يحدد ثيمة الترابط الدلالي الذي يوحد بين المصائر وتعتمد الكاتبة على البناء السردي من خلال الكشف عن إجراءات السردية لخطين متوازيين. الخط الأول هو الباطني من خلال الإدراك المظهري لشخصنة التحرك ومن خلال انعكاسها على التصرف والخط الثاني هو الظاهري وأرتباط هذه الحركة بحركة اللاوعي حين تفقد مجموعة الإدراك الوعي الجمعي ضمن المساحة الاجتماعية ( لم يتكلم كثيرا سأل فقط عن بعض ,مخطوطات تخصه مجموعة مقالات فلسفية أطلق عليها ,(فلسفة الاستاذ م) لم ينتظر مني رداً لملم أوراقه وخرج تاركا ,في نفسي شعورا مثيرا للاشمئزاز ) والكتابة هنا حددت مهيمنات السرد في رسم سمات الشخصية المحورية في القصة وحددت ما تمثل هذه الشخصية من القدرة على الإتيان بمنطق العقل وهي الفلسفة. فالفلسفة هنا تمثل حالة الإدراك الكامل لحركة المنطق في الوعي الحضوري الوجودي ضمن مسيرات الحياة، كما أنها أعطت صفة الأستاذ للدلالة على قدرته على استنطاق الحياة بالشكل الذي يعطي للعقل قدرته على اكتشاف أسرار الحياة، عن طريق فهم ما هو جوهري وما هو ظاهري. أي أنه لدية قدرة عالية على الوعي بكل إشكالات الحياة. والكاتبة بقدر ما أعطت الأستاذ قدرة على الوعي لكنه في نفس الوقت يعيش العزلة داخل ذاته، وعدم انتباهه الى الآخرين وهذا ما تريد أن تقوله الكتابة. أي أن الوعي مهما كان لابد أن يعي حضور الآخرين في أبعاده الفكرية وإلا أصبحت الحياة لا قيمة لها خارج الوعي الجماعي. فهو بقدر إدراكه للمنطق يريد أن يهرب داخل ذاته ليجنب تلوث روحه بكل هذا المنطق المشروخ في المجتمع .
(وإذا بصوت نسوي يسأل عني ، وفي الحقيقة لم أعرف من تكون وكأنها شعرت بحيرتي قالت:
*هل تعرفين الاستاذ م ؟ ,نعم .. قلتها وتراءت أمامي أسنانه المتفرقة المصفرة.. ) والاتصال هنا الخيط الذي يربط الخط الدرامي في تصاعد الأحداث ضمن نسق المعنى الموصل الى الحقيقة السردية ضمن القصة.أي أن الكتابة هنا استطاعت أن تربط بين الأحداث لكي تحدد الانتقال بشكل ترابطي، بحيث لا تفقد القصة الخط الدرامي للحدث الموصل الى المعنى النهائي في القصة و تحدد الانتقال بشكل اعتيادي وليس مقطوع في سلسلة هذا الحدث. أي أنها لا تقف على الأحداث بل تربطها بالوحدة العضوية داخل تصاعد الخط السردي .
(جلست قبالته وانتظرت ، كانت رأسه مطأطأة وكأنه يفكر ,في مهمة صعبة الانجاز ، وبعد هنيهة رفع رأسه اليّ وقال : شكرا .. ) نجد هنا أن الكاتبة انتقلت الى الحد الفاصل ما بين الوعي واللاوعي أي ومن العقل واللا عقل لكي تثبت قدرة العقل لهذه الشخصية على الإدراك ضمن الحدوده النفسية، هنا الصورة تحدد قيمة الصراع داخل هذه الشخصية وأزمتها الفكرية ، وما تنتج من فوضى فكرية داخل نفسه بسبب تناقضه مع خط الشروع لدية مع مسيرة الحياة التي تقدمت عليه بمنهجية الحياة . وهنا الأزمة أزمة نفسية منعكسة على الفكر بسبب الظروف التي تحيطه والتي سببت له الخسارات الكبيرة . وتستمر الكتابة بحياكة الخط المتنقل ما بين ظواهر الحياة وفكرها الباطني .
(زوجتي أني مجنون .. أني أتوهم أن بامكاني إصلاح الكون .. , أن نيتشه مجنون .. وأفلاطون منافق كذاب ، وبسمارك رجل حرب وقتل ، وأنها تكرههم جميعا وأنا اكرهها..! ) نجد هنا أن الظروف التي حوله جعلت هذه الشخصية المحورية تسقط داخل جدار الوهم والفوضى التصورية، ومن هذه الظروف زوجته التي لا تعرف قيمة الفكر الذي ينتمي إليه، وهذا ما جعلها تخلط مفاهيم الحياة مع ما تعيشه من عدم قدرة أن ترى الحياة حسب مسارها الفكري، ما جعلها خاضعة كليا الى المفاهيم الخطأ، والتي تسبب الضغط المستمر على زوجها من ناحيته الفكرية. وهنا تكمن عقدة القصة التي جعلت الشخصية تبني خياراتها الذهنية خارج الواقع الذي تعيشه لأنها لم تجد من هو قريب الى فكرها من الحياة حولها و حسب تصورها الفكري للحياة، فزوجته التي تمثل الواقع الأقرب إليه ترى أنه يفكر من أجل أن يصلح الكون وتتهم نيتشه بالجنون وأفلاطون منافق وكاذب فهي تكرههم جميعا، أي ترى الحياة عكس ما يراه هو، وهنا أشارة الى أن الجهل بالحياة ومنطقها الفكري يسبب الكثير من الأزمات النفسيه،في عدم رؤية الحياة وتطورها الحقيقي .فأن الفكر لا ينمو ويتطور وسط الجهل بل يحدث انفصال كامل عنه وهذا ما حدث للشخصية التي أخذت تبني عالمها خارج هذا العالم الجاهل. والكتابة أرادت هنا أن تقول أن السبب الرئيسي في كل الأزمات التي نعيشها هو الجهل والذي لا يرى الحياة إلا بالمنظور الباهت في الحياة الحقيقة ..
(شحبت ألوانهم جميعا وأصبحوا كالموتى ، واخذوا يرتجفون وكأنهم ,يرتقبون حدثا مريعا .. وفيما كانت المقاومة مقتصرة على الصراخ , والعويل فقد اندفعت النوافذ منفتحة في آن واحد .. ولن أنسى مشاعر الدهشة والفزع حين قفز من الشبابيك جيش هائل اندفعوا وهم يتقاتلون ،ويضربون الارض بأرجلهم ، ينهشون ما يقع تحت ايديهم .. وكان هو يحمل شعلة حاول بها حرق المكان لكنه فطن اليّ فجأةورماها من يده صارخا : عذرا أمي لن أفعلها ثانية..) تتصاعد هنا الصور الذهنية للأحداث والتي تبين مدى الانفصال الذي حدث مابين الحياة العادية والوهم، بسبب حالة الأحباطات الفكرية في المجتمع الجاهل ،ما يجعل التركيب النفسي في ذهنية التصور الإدراكي لكل الأشخاص الذين يعيشون الإحباط خارج الفعل الحقيقي للحياة لأنهم لا يرون الحياة إلا حسب أنساق تصورهم الإدراكي والذي يكون ضمن امتداد الحياة التي يتصوروها في منطقة الفعل التي يصورها كأنها الحياة الحقيقة، التي يروها من داخل ذاتية اللاوعي . فقد حدث الانفصال التام بسبب عدم تحقيق الحياة لهم وحسب شروط الحياة التي يتمنون أن يعيشوها، لهذا هم يريدون أن يغيروها حسب ما يتصورن لا حسب ما هو موجود حولهم لأنهم لم يعودوا يرون إلا الحياة في داخلهم وليس ما هي خارجهم. و استطاعت أن تبين المساحات الشاسعة حين يحدث الإحباط الفكري وكيفية انعكاس هذا الإحباط على النفس الإنسانية، وكيف يتطور الوهم في داخل هذه النفس الى حد الفوضوية وعدم الإدراك لكل مسلمات الحياة .
(حين سألت عنه اقتادتني الممرضة الى حجرة بلانوافذ .. كان يجلس
هناك نصف عار .. فطنت حينها الى الشعلة ومن أين أتى بها ، لقد ادرك
انه لا يستطيع الهرب من قدره ومصيره الذي طارده منتصرا مبرهنا
أن قدرته الغامضة هي الكفة الراجحة في نهاية الامر.
الكاتبة أخذت الصوره الى المجموع لكي ترى عملية الانسحاق الكلي في حتمية الأسباب التي أدت بالشخصية الى عدم التفاعل مع الحياة التي حولها، لأنها خارج النسق التصوري لديها.لأن الحياة لم تعطه ما يريد من خلال حالته الفكرية إلا الانسحاق الكلي والتهمة بالجنون. و لم تعترف بقيمته الفكرية، وهذا ما أدى به الى الهروب خارج الواقع وأن يبني حياة تحقق ما يريد ولكن خارج الواقع المألوف. ورغم عريه إلا انه مازال يحمل شعلة الفكر،أي أن من يمتلك الفكر لا ينفصل كليا عن الحياة إلا بالحس التصوري الحسي الخيالي، مع أنه تعرى كليا من الواقع وأخذ يعيش في منطقة وهمه الذي خلقه، وهي أشارة على أنه لم يعد يرى الحياة إلا حسب ما يعتقد وأن كانت خارج المنطق المألوف في الحياة، والعيش في مساحات ذاته المدركة لمفهوم الحياة داخله،أي يعيش مصيره وقدره المفروض عليه تبعا لأنساق حياته التي عاشها ، مع هذا هو مدرك للحياة خارج منطقة فلسفته الوهمية التي تجعله يعيش خارج منطق الحياة، وهو تأكيد على أن أسباب الجنون هي بسبب ضخامة الإحباط الذي يجعل أي شخصية تبني عالمها حسب رغبتها النفسية داخلها،بعد انهيار المقومات الفكرية التي تربطها بالحياة الخارجية،والشخصية هنا برغم عالمها الوهمي وتعريه كليا من الواقع ما زال يحمل الفكر الذي يعطيه القدرة على فلسفة الحياة بكل شروطها الوجودية المنطقيه ..
لعدة اسابيع كنت أشعر بقلق قاتم يستحوذ على عقلي .. إحساس من الخدر
العجيب يخترق روحي .. حاولت النسيان لكني كنت خائفة من الجنون ..
ذات صباح فتحت الصحيفة وإذا بي أمام مقالة بعنوان ( كيف نحرر العبيد )
بقلم الاستاذ (م) ..!!!!!! )
يستمر التصاعد الدرامي في استمرار الأحداث ، الكاتبة بقدر ما حددت سمات الشخصية في نفس الوقت جعلتها حرة في الحركة اتجاه نفسها وهذا ما جعل الأحداث تتصاعد خارج حدودية الحدث في ذات الكاتبة، الى حد يشعر المتلقي أن هذه الشخصية المحورية تمتلك زمنها والقدرة على الحركة خارج المكان المحدد. واستطاعت الكاتبة أن تبقى بعيدا عن الشخصية وهذا جنب الشخصية الوقوع بالسطحية وافتعال الأحداث، عكس الكثير من كتاب القصص القصيرة الذي نشعر إزاء قصصهم أي الأحداث مفتعلة .أي أن الشخصية تتحرك خارج مكانها ودون الارتباط المعنوي لها، ولكن هنا أن الشخصية تمتلك الذات التي تعطي التفسير للحدث ضمن زمنها وتاريخها المعنوي والفكري، والكاتبة أصبحت كشاهد على الحدث وليس المحرك له، وهذا ما أعطى النضج السردي الكامل كما أن الحدث هنا لا يتحرك خارج سياق المعنى الموصل لدلالات الموحية بفكرة النص . وكانت قصة رائعة من ناحية البنية السردية الداخلية و الخارجية للشخصية الرئيسية. أي أن الحدث السردي كلما تقدم يعطي المعنى الصوري لذهنية الشخصية داخل القصة وتبقى في مركزية الحدث المعنوي لدلالة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق