## معا وفي ظل هذه القصيدة الرائعة - همسات
الرحيل - نستمتع باكتشاف آفاق جمالية بلاحدود ،
مع لغة تحتفي بمفرداتها ، ودلالاتها الشديدة
الإيحائية ، تهيب بنا أن نصغي لدندنة متواصلة غير منقطعة النفس ، لحالة الفقد بعد وهم الفوز بمفاتن.معشوقة عاتية مستبدة من آياتها أن تترك عاشقها فريسة لأحزان الرحيل ، تتخذ القصيدة من الهمس لغة لها ، همس قاسي يشبه الريح السموم
تنفخه في قلب المحب المغلوب على أمره ، محاصرا بين الماء والنار ،غايتها أن تذيب شجاعته
أن تثنيه عن خوض غمار العشق ، متخذة من لغة الترهيب وسيلة لكبح جماحه ، محذرة إياه من مغبة مابعد الغياب ، وكأنها الحتمية بكل معناها تجلت في شخص هذه المعشوقة الأسطورية ، شبيهة ـ.ميدوسا ـ الغولة التي سافر إليها ـ بيجاجيسيوس ـ طلبا لرأسها ، فلا استسلام ولا أمان ، نظرة واحدة إلى عينيها كفيلة بمسخه حجرا ، لذلك لم يجد البطل بدا من النظر إليها عبر الدرع المرآة ، تفاديا لقواها السحرية ، وهنا يطيب لي أن أشبه قصيدة شاعرنا مصطفى بالدرع المرآة أو المرآة الدرع ، فهنيئا لشاعر عرف كيف يستخدم الفن وسيلة لتفادي القول المباشر ، الخبري الذي لايستقيم له طرب الإبداع صورا ومعنى ، فلقد أجاد استلهام الصور البلاغية ذات الرمزية الدلالات المتعددة ، مما مكنه من استظهار نماذج سابقة ، أغراها اقتفاء الأثر ، نماذج من البشر والطبيعة سحرهم جمال.الأنثى الخارقة ، فكان مصيرهم الحزن المؤبد ، هذا الحزن الذي وجب الحذر والتحذير منه ، فإلى أي مدى ينبغي الانصياع لهذا المنحى ، موافقة وإصغاءا ، وهل ثمة مايمكن قوله اعتراضا على ما تذهب إليه قصيدتنا ، ربما نعم وربما لا ، سأسأل عن الخطاب عن الرسالة الموجهة
من هذا الذي تبناها ، ومن المقصود بها ، هلا حاولنا تحديد هوية المرسل إليه ، الأمر أشبه بمتاهة ، لكن مع القليل من الصبر والتمعن يمكننا رسم ملامح خطانا ، والخروج بخلاصة ، ثمة متكلم ضمني اسمه الرحيل ، ومتكلم.به هو القصيدة ، ومتكلم له هو المتلقي ، ومتكلم أصلي هو الشاعر الذي يشكل الفارق العجيب في النص ، لأنه ذو وجهين لأننا حين نبحث شخص المقصودبالخطاب
نجد الشاعر يقف في المقدمة فهو المعني الأول بنص الترهيب ، شأنه شأن الخطيب الذي يقول ، أوصيكم ونفسي أولا ، وإذن الشاعر هنا يخاطب نفسه ، ثم يأتي القاريء من بعده ، لكن القاريء متعدد ومتنوع ، وليس كل قاريء ينطبق عليه هذا التحذير ، فثمة أناس كثر لن يهتموا لهذه الكلمات المفزعة ، لكونهم عشاق أصلا ويعيشون تجربة الحب بسلام آمنين ، لكن وحتى يتحقق للشاعر استدراج الجميع إلى ربوع مغامرته وجب الإمعان في النص بنظرة أشد عمقا وشمولية ، لنعرف بعد القراءة الثانية فقط ، أن هذه المعشوقة ليست سوى الحياة نفسها ، فهي بهذا المعنى تغدو
موجهة لسائر القراء دون استثناء ، ولأن شاعرنا من الأصوات المجددة فهو حتما غير ملزم بتكرار
تجربة سابقيه ، ولن يتنازل أمام غباء ولا بلاذة ولا
استسهال ، لن يخبر أحدا مباشرة أن الحبيبة هي
الدنيا ، فهو قد أعلن منذ البداية أن القول سيكون
همسا ، وأن الخطاب لن يتخذ صفة المباشرة وإلا
مافائدة هذا التراكم الشعري إن لم يحرك فينا رغبة.التقصي والسؤال ، من أجل الإبحار في أشد
الأمواج تلاطما من أجل الفوز بالمعنى ، حسنا
الرحيل محتوم ، إنه موت يحبنا مثل أطفاله
الموت الرحيل او الرحيل الموت ، يصادفنا هنا وهناك ، يحذرنا من نفسه ، ومن عشق هذه الدنيا الفانية ، الفاتنة الغادرة ، القاسية ، الخائنة ، لكن ومع ذلك من منا يملك حرية الاختيار ، سنعشقها لامحالة ، سنستلذ غمزها وابتساماتها الساحرة الماكرة ، ولولا هذا العشق ماكان يليق بنا اسم أحياء ، نعم شاعرنا من الواضح جدا ألا مهرب لك ، لنا ، للجبال ، للبحار والنجوم ، المغامرة مفروضة ، والحب ضروري ، تماما كضرورة قول الشعر ، وضرورة التحذير المتمثلة في كل ما نسمعه منذ لحظاتنا الأولى ألا نعتقد بأننا خالدون ، وأن نحلم بوهم لاأساس له ، وأن نستعد للرحيل ربما بعد فهمنا لفلسفة الوجود ، ان نتلقاه بابتسامة .
وفي الختام إن لم يوافقني الرأي قاريء ، سيجد
نفسه أمام دوامة لامخرج منها ، إن هو حاول
تبسيط المعنى فذهب في تأويله أن الحبيبة هي
أنثى لاغير ، بماذا سيجيب فضولي ، حين أسأله ،
كيف عرف الصوت المهيمن الشاعر،الرحيل الهامس
القصيدة ، أن نهاية هذا الحب ويلات ، هل اطلع
على الغيب ، أم يريد تكريس فكرة يائسة عن
الحب ، ألا نحب ، هذا إن كانت المعشوقة صورة عن جميع النساء ، أما إن زلت به القدم ليدعي أنها
واحدة بعينها ، فإنه غارق في هوة سحيقة ، حين
يجد نفسه مطالبا بالرد على سؤالنا ، كيف عاد
الصوت من الفناء إلى الحياة مرة أخرى ، كيف لمن
جرب الهلاك أن يعود حكيما يعظنا أم أنها فانتازيا
لاغير ؟ .
راقتني جدا هذه القصيدة ، لغة وبناءا ومعنى ، كما أنها تمنح ماتمنحه القصائد الأسطورية من متعة ، من أجلها نغوص في دواوين شعراء لغتنا المحبوبة ، بارك الله فيك شاعرنا مصطفى الحاج حسين ، شكرا .
محمد الطايع .
المغرب
===============================
// هَمَساتُ الرَّحيل ...
شعر : مصطفى الحاج حسين .
وكانَ الرّحيلُ يهمسُ لي
كلّما صادفتُهُ
لا تقترب من سياجِها
ولا تلبِّ نداءَ عينيها
إن غمزتكَ فأنتَ الخاسر
لو شبَّ في قلبِكَ الحبُّ
كلُّ الذينَ أحبّوها احترقوا
وكلُّ الذينَ كتبوا عنها القصائدَ
قتلتهُم قصائدُهُم
هي معتادةٌ ، على مَن يفتديها
وَمَن يعشقُ اسمَها
فقد سبقَكَ الرّبيعُ بكاملِ بزَّتِهِ الخضراء
والصّباحُ بكاملِ أبَّهةِ ضوئِهِ
والليلُ بكلِّ ما بمقدورِهِ أن يختزنَ
مِن نجومٍ وأقمارٍ
حتّى أنّ البحرَ أرخى موجَهُ
تحتَ قدميها ليتباركَ
والسّماءُ تشربُ الغيمَ من عنقِها
فوقَ أصابِعها يُزهرُ النّدى
وتحتَ جفنيها ينامُ الجّنون
فلا تنتحر وأنتَ الضّحيّة
تحطَّمَت من قبلِكَ قلوبٌ كثيرة
تحتَ شُرفتها
وبكت عيونُ القصائد
وأحصنةُ الدَّمِ المتوثِّبة
هي نارٍ لا تطفىءُ لظى قلبِكَ
وهي ماءٌ لا تشعلُ ظمأَ الحنين
لا تقترب من وردها
فيه اختناقُكَ
ولا مِن بوحِها
فيهِ نهايتُكَ
أنتَ لا تحتملُ الهوى
إن هوى بِكَ الفِراق
ورماكَ بغربةٍ مفزعةٍ
ومهما صرختَ
وطرقتَ بوَّابةَ المدى
لن يُفتَحَ لكَ الباب
إلّا والموتُ يحضنكَ
كولدٍ أثيرٍ على قلبهِ *
إسطنبول
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق