حدّث حنظلة قال:
هزّني الشّوقُ إلى التّنزّه والسّفر، لاستكشاف بعض المُدن وثلّة من صنُوف البشر.. فأعددتُ العدد والعتاد، وأحضرت الزّاد والزوّاد.. وامتطيتُ راحلتي.. مع جماعة من رفقاء الطّريق ، نسابق الرّيح في مرح وتصفيق.. حتّى وصلنا إلى قرية هادئة يحتضنها جبَلٌ شامخ مخضرّ، يزداد بهاء وجمالا عند هبوب الرّياح ورقص الشّجر..
جُبنا أرجاء شارع طويل نتأمّل أرصفته المكتظّة وباعته الجوّالين بأصواتهم الجهوريّة المرتفعة، وبضاعتهم المتنوّعة.. والسّابلة بحركاتهم البطيئة، وبلاهتهم الرّديئة.. يتهامسون.. ويتهافتوت على كل ماتقع عليه أعينهم دون تثبّت في جودته أو تاريخ صلوحيّته..
أفضى بنا المسير إلى باب المقبرة.. فإذا نحن أمام جنازة مهيبة، وزمرة من البسطاء المحزونين يحملون فقيدهم على الألواح.. وجمع من النّسوة يتبعون الموكب.. متثاقلات، متفنّنات في البكاء والنّواح..
أردنا الأجر، فشاركناهم الحِمل الثقيل والأحزان، وحضرنا موكب الدّفن ومواعظ التعزية، وترتيل الأدعية.. حتّى انفضّ الجميع من ذلك المكان.. فلم يلقَ سوى شيخ هرم، ذي لحية بيضاء كثيفة، ونظرة ثاقبة مخيفة.. يعظ أبناء الفقيدة بنصائحه العديدة، ومواعظه الدينيّة المفيدة.. ويخفّف من لوعتهم بآيات قرآنيّة وأحاديث نبويّة تدعو المؤمنين إلى الجَلَد والصّبر، وتحضّهم على الرّضى بالقضاء والقدر..
اقتربتُ منه دون تمعّن أو تدقيق نظر، أستفسر عن تفاصيل الفاجعة.. فأخبرني أنّها أمٌّ فاضلة، ضاقت بها الدّنيا.. فانتحرت لأسباب تافهة، مُخلّفة وراءها صِبيَة قُصَّرًا لا يعرفون من مشاغل الحياة أبسط المُقوّمات، ولا قدرة لهم على مجابهة الأزمات.. فنغّص عَليَّ تلكّ اللّحظات، وأدمع عينيّ زخّات زخّات.. حتّى رقّ لحالي واحتضنني ملءَ ساعديْه يُخفّف عنّي هول توجّعي وفظاعة تفجّعي ظنّا منه أنّني حبيبها أو قريبها لفرط عَبَراتي وشدّة فزعي..
تجاوزت لحظات الألم والغمّ.. وتبصّرتُ عَينَيْ الشّيْخ الجاحظتيْن، وحاجبيْه الكثيفيْن، ومنخريْه الواسعيْن، وشفتيْه الغليظتين، ووجنتيْه الحمراويْن، وأذنيْه القصيرتيْن.. فإذا هو شيخ قبيلتنا ناجي أبو سعيد.. الذي غادر قريتنا منذ أمَد بعيد..هروبا من فضيحة أخلاقيّة أهدروا بعدها دمَه، وأباحوا الثّأر منه وقتله، ففرّ مُتنكّرا ذات ليل بهيم إلى حيث لا يعرف أجد مكانه، ولم يستطع أيٌّ منّا اقتفاء آثاره أو تتبّع أخباره..
عاودتُ احتضانه، وهمستُ بصوت متهدّج: " عِمْتَ مساء يا أبا سعيد.. طوبى لك توبتك.. وسُعدى لك تجاوز محنتك.." فارتبك.. وسقط مغشيّا عليه حتّى ظنّ الحاضرون أنّه متأثّر لهول فاجعة الانتحار، ومتأثّر لحال الأبناء البررة الأخيار الذين تيتّموا في غفلة من الجميع ودون سابق إنذار..
أيقظناه بعد لأيٍ، فخفّفتُ من صدمته دون أن يفتضح أمرنا، وينكشف سرّنا..
أنهبنا مراسم العزاء، ثمّ انطلقنا معا عند المساء إلى حيث الفيافي والوحشة والخلاء.. ألححتُ في سؤاله عن سرّ توبته.. فاستعصم وأبَى.. ثمّ زفر متنهّدا دون خجل.. أو حياء:
الدّنيا.. فتنة..
والحياة.. محنة..
النّفس.. طمّاعة..
والنّاس.. عقارب لسّاعة..
إن لِنتَ لهم.. أذلّوك..
وإن خادعتهم.. وقارعتهم..
هابُوك.. واستأسَدوك..
جوان 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق