بين السطوة الزمنيًة الموضوعيًة والبنيًة الزمنيًة الشعريًة
اختلاف الليل والنهار ينسي اذكرا لي الصبًا وأيام أنسي
أحمد شوقي
قصيدة عزف من الروح للشاعر محمد الأنصاري طافحة بقرائن زمانية و ملفوظات وثيقة الصلة بالزمن وتجليًاته والبيًن بهذا النصً الشعري وفرة العبارات والتفاصيل الدالًة على الزمن ولكن منها ما هو ميقاتي موضوعي ومنها ما له ارتباط بالوعي الدرامي الكثيف بالمكان ووحشته والزمان وسطوته والتفكًر العميق في سبل الإفلات من ربقته
والتحرًر من قيوده بل في السيطرة عليه إذ أنً هذا الحلم لم يتوقًف منذ كتب الروائي البريطاني ه .ج وليز رواته الشهيرة'' آلة الزمن'' في التحكًم بالزمن واختراق جداره والسفر فيه إلى الماضي أو إلى المستقبل
فالزمن زمنان زمن موضوعي يقول عنه الفيزيائي نيوتن '' انًه الزمن الحقيقي الرياضي يتدفًق من تلقاء نفسه ومن طبيعته الخاصًة تدفقا متساويُا دون علاقة بأيُ شيء خارجي " وزمن نفسي ذاتي زمن الشاعر ووعيه الشعري ليقيم بإرادة هذا الوعي قصيدة تحقًق البنية الزمنيًة الشعريًة القادرة على مواجهة السطوة الزمنيًة الموضوعيًة ففي الزمن النفسي يتكوًن الإحساس الخاص بالمعطى الزمني والوعي به
فما السبيل الذي ارتآه الشاعر محمًد الأنصاري لتشكيل بنيته الزمنيًة الشعريًة لمغالبة البنية الموضوعيًة والتحرًر من سطوتها وعنفها ؟
بنى الشاعر محمد الأنصاري قصيدته عزف من الروح على تناوب بين مشهدين وهذه المراوحة بين الًلوحتين المتعاكستين أسهمت في تشكيل الإيقاع المرئي للقصيدة إيقاع ترنيمة منازلة بين مشهد الزمن باعتباره قوًة عاتية يعضده المكان ويؤازره ومشهد ما به يواجه العفاء والاستسلام مشهد الصور المثاليُة المتعاليًة عن فعل الزمن وسطوته .
طغت على حسً الشاعر ووعيه في المشهد الأوًل تبعات ظلال تلك القوًة الجبًارة فاستشعر العجز والاستسلام والضعف أمامها ولم يفارق دائرة المفعوليًة فما السنوات في تعاقبها إلا بعضا من زمن تحمل في تعاودها على الإنسان إضعافه فوجد الشاعر نفسه محاطا بشروط المكان ومعوقا بقيود الزمان وآيات الإنذار بالاندثار والزوال ومنها شيب الرأس رسل الإنذار بالتولي والذهاب ..وأملا في إحراز بعض التوازن وإصابة بعض السكينة استحضر الشاعر ذكريات على هيئة تمنح الشاعر إحساسا بالتحرًر من المكان وضغطه والزمان وقهره استرجع من ماضيه قيما يراها قادرة على أن تفلً الخواء فحتًى يفارق مكان الوحشة وزمان الكهوف يمم وجهه صوب النور الداخلي عالم الرحاب والعزف على الروح ومنها للانفصال عن عالم الانكسار والوجع والشروع في الرحيل إلى عبق الماضي وذكريات الطفولة الخالدة انًه الافتنان بالماضي أيمًا افتتان فماضيه بسمة الفجر وكركرات الأطفال
واللافت للنظر أنً ضمير المتكلًم المفرد المحيل على الذات الشاعرة شغل حيًز المفعوليًة فكان رهن المكان وتحت طائلة الزمان سليب الإرادة ولا سيًما في الزمن الحاضر لحظة الوعي المرير بالوقوع بين براثن المسافات الممتدة والأزمنة الضاغطة لذا كان الالتفات إلى الماضي أمرا ضروريا اضطراريًا
طرُقاتٌ تّقطعني
تّعبُرني مّسافات
وأولً ما انبثق من ركام الزمن وغياهب الذاكرة صورة شغفت المتذكًر ماضيا وعادت إلى ذهنه حاضرا إنها من الصور العالقة بالوجدان فيلامس الحاضر الماضي وفق مبدأ استعادة الذكريات حسب أهميتها وتأثيرها الكبير في الخيال ومنزلتها الوجدانيًة.وتمتً استعادة ما انقضى من أحداث ومن صور ومنها ذكرى المقهى
قّرع النردِ يرنُ في أُذني
عيون الرواد تلاحقني
ضحكات تصدر كرجعِ صدى ..
لحكايا المسنين
رائحة الهيل والشاي (السنكيل)
والنادلُ يقطعُ الممر
فاستعيدت بكلً تفاصيلها وإحداثياتها المكانيًة والزمانيًة وأمًا قادح الاستحضار فقد كان صوت نرد ظلً يتردد في الأعماق ويأتي صدى رجعه من بعيد وتتداعي الصور وتنثال انثيالا وتسمو إلى سطح النصً سموً حباب الماء وذكرى المقهى ومعمًرات المكان تجعل الذاكرة في حالة استنفار قصوى لاسترجاع المزيد من اللحظات وتوظف باعتبارها نوى مولًدة لمختلف مشاهد النصً في محاولة لاحتواء الزمن المتفلًت إذ أنً ذاكرة الإنسان غريبة وهي تحاول استعراض مشاهد مرًت ولكنها لا تتمثًل منها واضحا جليًا وكأنًه لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء إلا ما كان له أثر ووقع في النفس
البارحة ..
كنتُ ألعبُ
كنتُ أركض لأختبأ
كذا لعبة الاختباء
وأمًا البعض الأخر فيمضي كأنًه لم يكن وبينه وبينها عهد .فالذاكرة تتعقًب الذكريات التي تسكن الذهن والمخيًلة ولم تحتج إلى آليًة اشتغال لاستعادة وقائع متراكمة في تلافيف الذاكرة وظلًت ناصعة نابضة حيًة وكأنًها تحدث الآن إنها ذكريات الطفولة ومرحها وحبورها وهي تمارس ألعابها الطفوليًة الجميلة وطقوسها الرمضانيًة المتعاودة في غبطة وسرور عارم وتترقًب موعد الإفطار بكلً شغف وشوق
وحكايا رمضان
صغارا كنا نتسابق على ابواب الجيران
( ماجينه يا ماجينه)
قرعُ الطبل اذ يدور
سحور .. سحور
ومدفع الافطار
والانتظار ..
انتظارنا نحنٌ الصغار ..
لمدفع الافطار
ولكنً هذه الذكرى الملتصقة بالكيان تزحمها وحشة الحاضر وتدحرها قتامته وما إن يرتدً الشاعر إلى حاضره حتًى تتراجع مواكب الفرح والنور وتخيًم على القصيدة أجواء من العبوس والوجوم
مازلنا صياما منذ سنين
العمر يمر ولم نسمع ..
مدفع الافطار
السنواتُ تّعبرنا
نهدرها .. تهدرنا
والصغارُ بالانتظار
والشعرٌ يشيب
فما استطاع الشاعر رغم كل محاولاته أن يقطع حبائل و أمراس كتًان تشدًه إلى حاضره البئيس .
وتطرح قضيًة الزمن بعمق وتعود نغمة الانكسار أشدً هولا وصخبا وتبوء محاولات الإمساك بالزمان لترويضه بالفشل وكأنً الإشارة إلى قتامة شاي المقهى كانت وجها من وجوه الاستباق للتبشير بالأزمة أزمة الإنسان في علاقته بالمكان وبالزمان وكأنها معضلة لا تحلً بإبحار عبر الذاكرة والتذكًر إلى مرافئ الطفولة والماضي الجميل للإفلات من ضيًق الأزمان وموحش الأماكن فلم يفارق الشاعر محمد الأنصاري المنزلة البشريًة المظروفة في الزمن الخطي وهو زمن غير رجعي منته إلى فراغ مخيف
ويبقى التذكًر زاد من ضاق مكانه وأطبق عليه غيم حينه وراهنه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق