وأنا اتجول قبل سنوات في متحف الارميتاج في موسكو، تقدم نحوي شخصان مُبديان استغرابهما لتأملاتي وتركيزي على لوحة تشكيلية وقال احدهما: هل أنت فنان تشكيلي فقلت لا أنا أعشق الفن وإني إنسان عراقي عادي أكتب عن الفن التشكيلي أحيانًا. سالتهم عن بعض الرسامين والنحاتين الروس فأبديا ارتياحهما لمعرفتي ببعض مبدعيهم لكنهم للأسف لم يعرفوا اي شيء عن المبدعين العراقيين. وسأحدثهم إن سنحت الفرصة عن مبدع عراقي هو "صالح رضا". متمنيا مزيدا من العناية بفنانينا المبدعين الذين ينافسون في ابداعهم لوحات متحف الآرميتاج. متحف لايكفي يوم أو يومين لزيارته..أجل.. الفن رمز الحضارة الراقية الذي يؤرخ تأريخ بلدنا.
علي البدر والتحليل النقدي لرائعة الفنان التشكيلي العراقي صالح رضا "تأمل إمرأة"
وايُّ تصورٍ يرسم في الذهن لإمرأة تتأمل؟ عينانِ شاخصتانِ نحو مدىً ممتدٍ، يبحثان عن شيء ما. نَغورُ فيهما ونركز على سكونِ حركةِ الوجهِ ونتساءلُ.. حزينة ٌهذه الإمرأةُ وتتوقعُ أملًا قادمًا يدخل في أعماقها السرورَ والإرتياحَ، أم أن مشاعرَ ألمٍ داخليٍّ يعصفُ في أعماقها؟ وجهٌ ليست من السهولةِ توصيف تفاصيله، وهذا يذكرني بلوحةِ "موناليزا" للرسام ليوناردو دافنشي التي حيرت الكثيرين في تفسير انفعالاتها. رسامنا هنا زرع وردةً تمسكها برفق ، قُطِفَت حديثًا ولابد ان تكون رمزًا لإنسان عزيز غادرها توًا. وبرأيي المتواضع، من الممكن أن يتنافسَ الوجهان لو لم تكن تلك الوردة الحمراء التي تبوح بإملِ قادم. أملٌ يذوبُ بين ثناياه قلقٌ ورهافةُ إحساسٍ، وهذه بالتأكيد مشاعرُ ودٍّ نقيٍّ يتكاملُ بتكامل التقاء الإثنين ولمِّ شملَهُما. أجل .. ألفراقُ.. ما أصعبهُ وما أقساه..
وأحيانا يميل الرسامُ إلى التركيز على اللون colour أكثر من الشكل form وهذا ما نجده في مدرسة المرحوم فائق حسن خاصة، حيث تكاد تختفي بعض الأحيان المواصفاتُ التشريحيةُ للجسم، ونرى في لوحتنا هذه مزجًا بين الإثنين، وبدت الإنعكاساتُ اللونيةُ مبهرةً لحدِّ الإبداع. بَشرةُ الوجهِ بدت بشرةُ تصويرٍ فوتوغرافيٍّ مُبهر، انسحبت على بعض أجزاء الذراعين. إنَّ التركيزَ اللوني يُخلِّص الفنان أحيانًا من ابراز المعالمِ التشريحيةِ، وكان بِودي إبرازها أكثر في أصابع اليَدين التي امتصَّت الإنعكاسَ اللونيَّ رغم تقابلها مع زاوية الإسقاط الضوئي.
ويبدو أن فناننا التشكيلي قد حسب بدقةٍ حركةَ الجسدِ وتجسيدها. ونرى الرقةَ في مسك الوردة وحصرها بين السبابة والإبهام مع انفراج إصبعَي الوسط، وهذا طبيعيٌّ عندما تتحمل الذراعُ جزءً من وزن الجسم، وكذا الحالُ بالنسبة لأصابعِ اليدِ اليمنى، حيث انفراج الإبهام. كما أن المساحاتِ المعتمةَ خلف الموديل أعطت بروزًا وتجسيدًا ساعدت الإنعكاساتُ اللونيةُ للوجهِ خاصة في ابرازه، وربما لكي لاتكون المرأةُ غريبةً وغير متوحدةٍ ومنسجمةٍ مع محيطها. لقد حاول التشكيلي "صالح رضا" وبجهودٍ لافتة توحيدَها باستعمال الألوان المنسجمة مع ثوبها وما تتوشحُ به على رأسها.
اللوحةُ تركيزٌ رائعٌ يعكسُ الحبَّ والوداعةَ والرغبةَ في الاستقرار والأمان. وردةٌ من أخٍ أو زوجٍ أو حبيبٍ تُعطي فسحةَ أملٍ قادم. إن فرشاةَ الفنان تعكسُ واقعَهُ وبحثَهُ عن النقاء وزرعٍهِ في نفوسنا، فلا بُدَّ للفنِّ أن يقولَ شيئًا، وما أجملُ النقاءِ عندما يَغمرُ الفنان فرشاتَهُ ويمزجُ ألوانه ليرسمَ التفاؤلَ والأملَ وفي كل الامور، لابد من إنتظار مزيدٍ من الإبداعِ من فناننا التشكيلى المبدع "صالح رضا". ولابدَّ لَمَن أهدى تلكَ الوردةِ الحمراءَ من عودةٍ قبل الذبولِ. ياليته يعود... وأراني سامعٌ صدىً يَسري في الأعماقِ صادحًا يخاطبُ صاحبةَ الوردةِ الحمراء:
يانجمةً تضييءُ عُتمَةَ الليلِ
وَيَخجَلُ منها النهارُ
أحبُّها بانبِهار
فوقَ الأرضِ أكونُ أو
تحتَ الترابِ مَدفونٌ مدفون....
علي البدر / قاص وناقد أدبي وتشكيلي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق