وبذكاء استعمل القاص النمر كسيمياء symbol تكسوها هالة من الكبرياء والشموخ واستطاع باستدراج حواري dialogue، قُطِعَ أحيانا بحوار داخلي مع النفس monologue ، بعيد عن تعقيدات السرد القصصي، أن يوصلنا الى الترويض التام للنمر. ولاضير من إكسابه الصفة البشرية ضمن عملية أنسنة personification رائعة.
ولكي لا تحدث ردة الفعل إثناء عملية التجويع، يباشر المروض بخلق حاجز نفسي يساهم في التعجيل في زرع مشاعر الذل والمهانة والخنوع ويصبح الحاكم " ربكم الأعلى". ، تكون لقمة الخبز هي العامل الحاسم في بقاء الإنسان. وتبدأ عملية الإستهزاء واستصغار النمر بسؤال تهكمي: " كيف حال ضيفنا العزيز؟
. ويستمر النمر بزهوه : " لا أحد يأمر النمور. لن أكون عبداً لأحد." ونلاحظ أن المروض لا يتحدث كرد فعل عفوي وإنما عن حنكة ودراية، نتجت من تدريب مدروس للوصول الى الهدف النهائي الذي هو الترويض taming. والخوفfear هو تهديد البيئه للفرد، وإن استمر المحيط بسحب الأمان من الفرد فأنه يتحول إلى قلق worry ، وهو خوف مستمر أي تهديد البيئة المستمر. والقلق يؤدي الى استنفاذ الطاقة العصبية التي تُضْعِفُ بِدَورها مقاومة الفرد وتسحب منه ثقته بالنفس ليصبح بالتالي سلبيا خانعا وسهلَ الإنقياد، في وطن عبارة عن سجن كبير ويصبح مبدأ "الرأس المرفوع لا يشبع معدة فارغة"، مبدءً غاية في الخطورة حيث يتوجب الخضوع وتنكيس الرأس وانحناء الظهر، من أجل الحصول على لقمة العيش. والمجتمعات ذات الحكم الشمولي ينطبق عليها قانون البقاء للأقوى وللأصلح، وهذا المبدأ الداروني Charles Darwin يطبق على بيئة الغابة أي على الحيوانات، وقد تمَّ توظيفه لتطبيقه على المجتمع الإنساني.
. وجملة "أنا جائع"، عندما يكررها الإنسان، تكون مرتبطةً بلغةٍ أخرى رديفة هي لغة الحركة Language of gestures أو ما تسمى body language حيث التعبير عن الجوع يصاحبه قسمات وجهٍ ذليلةٍ وحركةِ جسدٍ توحي بالضعف . وهنا تكمن الكارثة، عندما يعتاد على هذه الجملة الملايين من البشر، وتتجه عملية الترويض نحو السهولة حيث تكون صِفَتا الذلِّ humiliation والمسكنة wretchedness من صفات الشخصية. وعندما يفقد الإنسان ماء وجهه، فإن الكثير من الأمور تهون عليه: " وحين أقول لك: قف، فعليك أن تقف.”. وهنا يقترن الوقوف بالشبع، حيث يبادر النمر " أنا جائع فاطلب مني أن أقف." . وما الوقوف إلا منبه لاستجابة لاحقة هي الطعام وبالتكرار، يتحد المُنبِّه بالإستجابة لينتج عادة. والعادة هي تكرار لاشعوري يمارسه الفرد لتعطيه نوعاً من الأطمئنان والأستقرار. وتستمر سهولة الإنقياد وتنفيذ الأوامر لدرجة استعداد النمر لتقليد مواء القط، حيث يَكْظُمُ غَيْظَهُ ويقول لنفسه " سأتسلى إذا قلدت مواءَ القط.". ولكن خطة الترويض أبعد من ذلك فالمُرَوِّضُ يرفض تقليد النمر لمواء القط لعدم إجادته ذلك، ويعطيه مهلة للتدريب حيث يتركه يوما كاملا بدون طعام، ليعود ويسمع مواءه ويتظاهر بالاقتناع حيث يرمي " إليه قطعة كبيرة من اللحم" ، موجهاً أقسى كلام إليه " عظيم.. تموء كقطة في شباط." . ثم يتحول الأمر إلى تقليد نهيق الحمار حيث يفشل النمر لكن المروض هذه المرة يرمي إليه قطعة أخرى من اللحم مدعيا أنه يشفق عليه.
وقد نتساءل: هل أن القاص زكريا تامر جعل المواطن سلبياً جباناً يميل للخنوع والذل؟ وللإجابة على هذا التساؤل لابد أن نركز على أن ثيمةَ القصةِ تَتَمَحْورُ حَول استغلالِ الإنسانِ لأخيه الإنسان وكيفية ترويضه عن طريق لقمة العيش، فهي إذن صعقة لابد أن تتلاشى في يوم من الأيام. وصراع المتناقضات لابد أن يُحْسَم في يوم ما، وقد حَسَمتْهُ الكثير من الشعوب لصالحها حيث يشعر الفرد بالأمان وهو وسط مجتمع خالٍ من التسلط والإستغلال، لا أن يشعر بالإغتراب alienation نتيجة جوعه ولهاثه من أجل البحث عن لقمة العيش له ولعائلته.
وأخيرا لابد من التذكير بالدرس الرائع الذي اكتسبتُهُ من أحد طلابي، حيث نهض رافعًا ذراعه بانفعال قائلًا: "عفوك يا استاذ.. أجع كلبك يأكلك.. قد يتبعنا أياما لكنه سينقض على مستغليه يوما ما، وهذا منطق التأريخ."
علي البدر/ العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق