1) ألعرض النقدي التحليلي:
"جاءني صوت زياد منهمرا كالمطر:"مازن...يا مازن ..هيّا.. هيّا بنا ننزل إلى السّوقْ"
قلت متردّدا:"خير لماذا الآن بالذات، هل طارت الدنيا، ننزل غدا؟"
أجابني مقهقها: " لا.. ألا ترى الريح شديدة اليوم!"
يبدأ القاص بومضة flash point تحثنا على المتابعة المتأنية لنعرف سبب تلك العجلة ، التي سرعان ما يحلُّ لُغزها.. أجل.. الريح شديدة اليوم.. وهنا دخلنا في بداية السيناريو خلال حبكة plot أدخلنا بها القاص للغور في ثيمة القصة الرئيسية main theme التي لابد من البحث عنها، وعليه فان الكشف عن اسميْ زياد ومازن في مستهل القصة لا يعني ،وبرأيي المتواضع، اِضعافاً للحبكة السردية، باعتبارها معلومة سهلة ومباشرة. وهنا يأتي الربط بين الريح و " أجابني مقهقهاً"، حيث ينكشف لنا انفعالٌ ايجابيٌّ مفرحٌ، ومقترنٌ بالريح التي تجعل الشبابيكَ " تئنُّ صافرة "، والأنين هنا رمز الألم لا الفرح، وقد نفخ الكاتب فيها روحاً من عنده personifying spirit وأنسنها، وجعلها تئن حسرة وألماً، وكأنها انسان..فالريحُ سيمياء symbol ألمٍ بدلالة الأنين، وفرح بدلالة القهقهة . انها بالحقيقة ترميزة تعطي معنى تناقضيّاً أخّاذاً contradictory sense . ويستمر الصديقان بالتفرج " على ما تخبئه الفساتين من عاج وكستناء، وما تُخفيه من حمرة وصفرة تحتها." حيث تتطاير الأثواب " كمظلة مقلوبةٍ ويطيرُ قلبانا معها...." ثم يقودنا الكاتب لعمق الكارثة التي تعبر عن التناقض في تصرفاتنا. أجل ننظرُ ونتغزّلُ بأعراض الناس، لكننا نستهْجِن ونثور إن تحرّشَ أو نظر أو غازل الاخرون أعراضنا. حتى الشاب الساقط خلقيّاً يرفضُ وبشدة التحرش باختِهِ، زوجتِهِ أو أي أُنثى من عائلته حيث تأخذه الغيرة والحمية لتقوده الى الشجار أحياناً وسط الناس وداخل الاسواق، أ كان جاهلاً أميّاً عبثياً أو مثقفاً واعياً. " وفيما نحن سائران وقع نظري على فتاة لا أجمل ولا أبهى، تسير مثل ريمٍ بين كوكبة ظباء، واثقة من نفسها، لا تأبه للريح التي راحت تحاول عبثاً زعزعة ثوبها الذي ضاق عند الركبتين، والتصق بمؤخّرتها، متشبثًاً بها خوف الانفلات من عقاله." وهنا يحثّ مازن صديقه بالوقوف والنظر والتغزل بها بصوتٍ مسموعٍ : " انظر إلى عشتارَ تمشي على الأرض، هيا بنا نتابعها يا أدونيس" ، حيث أطلقَ زياد " صفرة الاعجاب التي أتقنها، واشتهر بها.
ثم قال صدقت يا مازن." واستمر الاثنان بمتابعتها بينما يحاول الكاتب مفاجأتنا بالقفلة تدريجياً، عندما يستمران بمتابعة الفتاة متغزلين بها. " تعال نلحق بها، لعلنا نعرف أين تسكن، فنبني صداقة معها." لكن زياداً قد تلكّأ وأبدى عدم الرغبة في متابعة السير.." وهنا يبدع الكاتب عندما يمهّدنا للكارثة التي تفسّر وتبرّر وقوفه ، حيث ألح عليه مازن فانصاع للأمر لكنه سرعان ما " أبدى امتعاضه من فسحتنا" ، وهذا تمهيد اخر للقفلة النهائية ، خاصة عندما اتجهت لنفس المحلة التي يسكناها وتدخل الطريق الفرعي الموصل الى بيت زياد وتقف أمام باب المنزل الخارجي وتُخرج مفتاحاً من جيبها ثم سرقت "نظرة خاطفة ساخطة..." ورأيت " وجهه كوجه بوم غاضب يزفر زفير المغلوب على أمره.. يحاول أن يخفي امتعاضه بابتسامة بلهاء فأرى وجهه كوجه منغولي أبرص." موقف يتمنى الانسان أن تبتلعه الأرض ولكن لا بد من الجزاء... وهل يكفي أن تغور في أعماقك وتصرخ نادماً أو تعلن أسفاً؟ "... فَغَرْتُ فمًي دهشة وهلعاً كما لو هِرٌ فوجِيء بسلوقي جائع. أحسست بنفسي أتضاءل وأصغر، حتى لم أعُد أرى نفسي. طأطأت رأسي وتابعت سيري نحو بيتي دون أن ألتفت لنداءات صديقي التي راحت تصفع قفاي."
وهكذا تكون القصة درساً قاسياً لظاهرة أصبحت عادية، وهي الايغال بسلوك متطرف. كالتحرّش بالجنس اللطيف ويبدو انها ستستمر الى ما لا نهاية. ومشكلة الجنس وأنوثة المرأة قد وجدت لها مساحة واسعة جداً منذ أزمان بعيدة وحتى لوقت غير بعيد، وقد تطرف بعض العلماء باعتبار الجنس المحرك الأساسي لسلوك الفرد كما هو الحال عند العالم النمساوي Sigmund Freud وأصحاب مدرسة التحليل النفسي، حيث يسبب الكبت قلقاً نتيجته ضغط انفعالي يقوم الفرد بتصريفه بوسائل عديدة منها الأحلام أو النظر بعين جائعة أو الغزل وغيرها. وبالتأكيد تزداد هذه الظاهرة وتقل حسب ثقافة ونوع المجتمع وعدم تسهيل الزواج بالنسبة للشباب خاصة. ومن الممكن أن نحمل المرأة أيضاً سريان هكذاحالة. ومن الملاحظ أن القصة تناولت حالة مستشرية باسلوب غير مثير وانما عقلاني لأن الهدف هو تربوي لا غبار عليه. وقد استعمل الكاتب أساليب حوارية مختلفة منها حواره مع القاريء مرة: " جاءني صوت زياد منهمراً كالمطر.." وأيضاً " رحت أرتدي ملابسي على عجل وفي ذهني صور شتى لما أرى.." وسرد مختصر يقطعه بحوار مع النفس تارة monologue أو محاوره dialogue، ليضعنا في سيناريو محكم تماماً خلال نص كتب بعنايةٍ ودرايةِ كاتبٍ يمتلك مفاتيح كتابة القصة القصيرة mechanism . ولنتساءل..لماذا جعل ثياب الفتيات تتطاير وتصبح " كمظلة مقلوبة " ، بينما جعل ثوب تلك الفتاة التي هي على الأرجح أخت صديقه زياد ضيقاً عند الركبتين؟" . أجل لماذا لم " يظهر المخبوء من أخت صديقه جراء ثوب فضفاض بدلاً من ثوب ضيق من المستحيل أن يتطاير؟ والجواب يعتمد على سببين. الأول محاولة إبقاء الكاتب على جزء من هالة الأحترام للجار وعدم رغبته بالخدش المعنوي moral harm لتلك العلاقات التي يعتبرها تراثاً مقدساً، وهذا بدوره يساعد الصديقين على الاستمرار بعلاقتهما الطبيعية تدريجياً . والسبب الثاني هو رغبة الكاتب بعدم استعمال قفلة مؤلمة ومهينة وإنما قفلة مؤثرة تعطي عبرة بأقل خسارة وهدر انفعالي. وحتى الريح عجزت عن رفع مايسترها وها هي " تسير مثل ريم بين كوكبة ظباء، واثقة من نفسها لا تأبه الريح التي راحت تحاول عبثاً زحزحة ثوبها الذي ضاق عند الركبتين .." وإنّ التصاق الثوب بمؤخرتها قد جعل مازن يدفع الثمن غاليا رغم أن الوصف أقل اثارة وجرأة، وأعتقد أن القيم العليا للكاتب ساهمت في ذلك فهو يعكس نفسه He reveals himself عندما هزمت البطلة الريح التي عجزت عن رفع ثوبها اضافة لنظرة الاستصغار لمن أسمعها غزلاَ والتي عكست قوة شخصيتها في سيناريو كتب بسلاسة وألزمنا على إعادة قراءة القصة بلهفة لزيادة المتعة ونحن نغور وسط تفاصيلها....
==============================
2) ألقصة:
جاءني صوت زياد منهمرا كالمطر:"مازن...يا مازن ..هيّا.. هيّا بنا ننزل إلى السّوقْ"
قلت متردّدا:"خير لماذا الآن بالذات، هل طارت الدنيا، ننزل غدا؟"
أجابني مقهقها: " لا.. ألا ترى الريح شديدة اليوم!"
آ آ آ.. الريح.. الريح دقائق وأكون بين يديك!!
رحت أرتدي ملابسي على عجل، وفي ذهني صور شتى لما سأرى، فيوم الريح فرصتنا التي لا نضيّع ساعة منها، فها هي بدأت تثور غاضبة تلفّ المكان بعويلها، وتنفخ في الشبابيك فتئنّ صافرةً، بعد غدٍ ستفتح المدارس أبوابها، فالسوق اليوم مكتظّةً بالفتيات الجميلات، بفساتينهن القصيرة الهفهافة، والتنانير المنبسطة كمظلّة صيف، أردية متنوّعة هي ملعب للريح، عادة درجنا عليها وصديقي زيادًا، ننزل السوق كلّما هبّت الريح، للتفرّج على ما تخبئه الفساتين من عاج و كستناء، وما تخفيه من حمرة وصفرة تحتها.
بعد أقل من نصف ساعة كنّا في السوق نسير متمهّلَيْنِ، كسلاحف بحرية وضعت بيوضها للتو، نحثّ الريح أن تشتدّ قليلا، وتلفّ كثيرا، وكأنّي بها استجابت لدعوانا، فراحت تأتي الصبايا من حيث لا يتوقّعون وتراوغهن كثعلب بين دجاجات، تهبّ هنا، فيطيرُ فستانٌ كعصفور دوري، تتلقاه يدا الفتاة برشاقة راقصة باليه، تقرفص أحيانا لاجمة فكي الريح إن أعياها ردّه، فتلملم ثوبها ثم تقف مع هدأتها. حتى إذا اشتد العصف ودارت الريح دورتها تطاير الثوب كمظلة مقلوبة، ليطير قلبانا معه، إذ يظهر المخبوء، ويلمعُ بياضٌ متيّم تحت عتمة القماش.
وفيما نحن سائران وقع نظري على فتاة لا أجمل ولا أبهى، تسير مثل ريمٍ بين كوكبة ظباء، واثقة من نفسها، لا تأبه للريح التي راحت تحاول عبثا زعزعة ثوبها الذي ضاق عند الركبتين، والتصق بمؤخّرتها، متشبثًا بها خوف الانفلات من عقاله.
هتفت بصديقي أن قفْ وانظرْ، وقلت على مسمع من الفتاة:"انظر إلى عشتارَ تمشي على الأرض، هيا بنا نتابعها يا أدونيس"
مدّ زياد بصره حيث أشرْتُ، تمهّل برهة، فكانَ بين المندَهِشِ والقابِضِ على الجَمْرِ، لكنّه أطلق صفْرة الإعجاب التي أتقنها واشتُهر بها، ثمّ قال: "صدقت يا مازن إنّها جميلة فعلاً"
أخذني جمالها، وراحَ يطوّح بي ككرة في ملعب العاصفة قلت:
"زياد إنّها تمضي خارج السوق، تعال نلحق بها، لعلّنا نعرف أين تسكن، فنبني صداقة معها"
أحسّت الفتاة بوجودنا، بل تعمّدْنا أن تُصَافِحَ كلماتُ الغزلِ التي رشقناها بها أُذُنَيْها، فمدّت إلينا بصرَها من خلال لوزتين خضراوين و خيمةٍ من أهداب نيسان، خُيِّل إليّ بأنّها ترسل لي غمزة أرفَقَتْها بابتسامةٍ، والحق أقول إنّها ربّما لم تَكُنْ تخصّني بهما، بل كانتا لصديقي زيادِ الأكثرِ وسامةً منّي، والأمشق طولا.
تلكّأ زياد قليلا وأبدى عدمَ الرّغبةِ في متابعَةِ السير، ولكن مع بعضِ الرّجاء، وقليلٍ من ضراعةٍ وتوسّل اعتدْتُ إتقانَها، رضيَ ومشى صامتاً، ولَمّا لم يعد يشارِكُني كلامَ الغَزَلِ، جارَيْتُهُ وسِرْنا صامتيْنِ، كراهِبَيْن يتقدمان قدّاسًا، لقد اعتدت على تصرّفات زياد ، وتقلباته المفاجئة، رغم أنّ معرفتي له لم تتجاوَزْ عدةَ أشهر، حيث كنّا نلتقي بين الحين والآخر في المقهى القريب من حارتنا، التي سكن أهلُهُ فيها منذ سنةٍ، وفي المقهى جاءتنا فكرةُ الريحِ فقد هَبَّتْ فجأة، وقلبت فستانَ إحدى الصبايا رأساً على عَقِبٍ، فصرنا كلّما أقبلتِ الريحُ بصخَبِها ومجونِها، نَغْتَنِمُها فسحةً للبصر، أمّا اليوم فعلى غير عادَتِهِ أبدى امتعاضاً من فُسحتنا، فلم أشأ أن أسأَلَ ما الذي غيّره. لكنّنا تابعنا سيرنا خلف الفتاة، أو هكذا خيّل إلي، وكنّا إذا غذّتِ السيرَ غذذْنا، وإن ما أبطأَتْ تَمَاهلْنا، أو تشاغَلْنا بالنظر هنا وهناك، كيما نبعد الشك عنّا.
و لشدّ ما كانت دهشتي كبيرة، عندما رأيتها تلتف حول السوقالشمالية، وتتجه صوب حارتنا، نظرت نحو زياد، فرأيت وجهه مربدّا كوجه بوم غاضب، يزفر زفيرَ المغلوب على أمرِهِ، فكانَ زفيراً أشبه بنقنقة ضفدع جائع، تارةً يبلعُ بريقه فيغُصُّ به لجفافِهِ، وتارةً يحاولُ أن يخفي امتعاضَهُ بابتسامَةٍ بلهاءَ فأرى وجهه كوجهِ منغوليٍّ أبْرَصَ، قلت محرّكا غيرته علّه ينتفض من شروده:
"أيكون هذا الغزالُ من حارتِنا ولا ندري، لا ..لا..أصدّق عينيّ؟"
فيردّ زياد منفعلاً:"ولتَكُنْ يا مازنُ ما همّكَ أنتَ في ذلك؟"
تركته لغضَبِهِ، ورحْتُ أراقبُ وجهةَ الفتاةِ، فإذا بها تَدْخُلُ الطريق الفرعيَّ الموصلَ إلى بيْتِ زيادٍ، وتَقِفُ أمامَ بابِ المنزلِ الخارجيِّ، تخرجُ مفتاحا من جيبها، تفتحُ البابَ وتدخل ببساطةٍ وهي تسرق نظرةً خاطفةً ساخطةً نحوي.
تقوّس حاجباي عجبا حتى صارا كقوس نصر بلا نصر، فَغَرْتُ فمي دهشةً وهلعا كما لو هرٌّ فوجئ بسلوقيّ جائع، أحسست بنفسي أتضاءَلُ وأصغُرُ، حتى لم أعدْ أرى نفسي. طأطأْتُ رأسي وتابَعْتُ سيري نحو بيتي دونَ أن ألتفِ
لنداءاتِ صديقي التي راحَتْ تَصْفَعُ قَفَاي...
ألقاص عادل نايف البعيني
علي البدر
قاص وناقد
16/2/2017
"جاءني صوت زياد منهمرا كالمطر:"مازن...يا مازن ..هيّا.. هيّا بنا ننزل إلى السّوقْ"
قلت متردّدا:"خير لماذا الآن بالذات، هل طارت الدنيا، ننزل غدا؟"
أجابني مقهقها: " لا.. ألا ترى الريح شديدة اليوم!"
يبدأ القاص بومضة flash point تحثنا على المتابعة المتأنية لنعرف سبب تلك العجلة ، التي سرعان ما يحلُّ لُغزها.. أجل.. الريح شديدة اليوم.. وهنا دخلنا في بداية السيناريو خلال حبكة plot أدخلنا بها القاص للغور في ثيمة القصة الرئيسية main theme التي لابد من البحث عنها، وعليه فان الكشف عن اسميْ زياد ومازن في مستهل القصة لا يعني ،وبرأيي المتواضع، اِضعافاً للحبكة السردية، باعتبارها معلومة سهلة ومباشرة. وهنا يأتي الربط بين الريح و " أجابني مقهقهاً"، حيث ينكشف لنا انفعالٌ ايجابيٌّ مفرحٌ، ومقترنٌ بالريح التي تجعل الشبابيكَ " تئنُّ صافرة "، والأنين هنا رمز الألم لا الفرح، وقد نفخ الكاتب فيها روحاً من عنده personifying spirit وأنسنها، وجعلها تئن حسرة وألماً، وكأنها انسان..فالريحُ سيمياء symbol ألمٍ بدلالة الأنين، وفرح بدلالة القهقهة . انها بالحقيقة ترميزة تعطي معنى تناقضيّاً أخّاذاً contradictory sense . ويستمر الصديقان بالتفرج " على ما تخبئه الفساتين من عاج وكستناء، وما تُخفيه من حمرة وصفرة تحتها." حيث تتطاير الأثواب " كمظلة مقلوبةٍ ويطيرُ قلبانا معها...." ثم يقودنا الكاتب لعمق الكارثة التي تعبر عن التناقض في تصرفاتنا. أجل ننظرُ ونتغزّلُ بأعراض الناس، لكننا نستهْجِن ونثور إن تحرّشَ أو نظر أو غازل الاخرون أعراضنا. حتى الشاب الساقط خلقيّاً يرفضُ وبشدة التحرش باختِهِ، زوجتِهِ أو أي أُنثى من عائلته حيث تأخذه الغيرة والحمية لتقوده الى الشجار أحياناً وسط الناس وداخل الاسواق، أ كان جاهلاً أميّاً عبثياً أو مثقفاً واعياً. " وفيما نحن سائران وقع نظري على فتاة لا أجمل ولا أبهى، تسير مثل ريمٍ بين كوكبة ظباء، واثقة من نفسها، لا تأبه للريح التي راحت تحاول عبثاً زعزعة ثوبها الذي ضاق عند الركبتين، والتصق بمؤخّرتها، متشبثًاً بها خوف الانفلات من عقاله." وهنا يحثّ مازن صديقه بالوقوف والنظر والتغزل بها بصوتٍ مسموعٍ : " انظر إلى عشتارَ تمشي على الأرض، هيا بنا نتابعها يا أدونيس" ، حيث أطلقَ زياد " صفرة الاعجاب التي أتقنها، واشتهر بها.
ثم قال صدقت يا مازن." واستمر الاثنان بمتابعتها بينما يحاول الكاتب مفاجأتنا بالقفلة تدريجياً، عندما يستمران بمتابعة الفتاة متغزلين بها. " تعال نلحق بها، لعلنا نعرف أين تسكن، فنبني صداقة معها." لكن زياداً قد تلكّأ وأبدى عدم الرغبة في متابعة السير.." وهنا يبدع الكاتب عندما يمهّدنا للكارثة التي تفسّر وتبرّر وقوفه ، حيث ألح عليه مازن فانصاع للأمر لكنه سرعان ما " أبدى امتعاضه من فسحتنا" ، وهذا تمهيد اخر للقفلة النهائية ، خاصة عندما اتجهت لنفس المحلة التي يسكناها وتدخل الطريق الفرعي الموصل الى بيت زياد وتقف أمام باب المنزل الخارجي وتُخرج مفتاحاً من جيبها ثم سرقت "نظرة خاطفة ساخطة..." ورأيت " وجهه كوجه بوم غاضب يزفر زفير المغلوب على أمره.. يحاول أن يخفي امتعاضه بابتسامة بلهاء فأرى وجهه كوجه منغولي أبرص." موقف يتمنى الانسان أن تبتلعه الأرض ولكن لا بد من الجزاء... وهل يكفي أن تغور في أعماقك وتصرخ نادماً أو تعلن أسفاً؟ "... فَغَرْتُ فمًي دهشة وهلعاً كما لو هِرٌ فوجِيء بسلوقي جائع. أحسست بنفسي أتضاءل وأصغر، حتى لم أعُد أرى نفسي. طأطأت رأسي وتابعت سيري نحو بيتي دون أن ألتفت لنداءات صديقي التي راحت تصفع قفاي."
وهكذا تكون القصة درساً قاسياً لظاهرة أصبحت عادية، وهي الايغال بسلوك متطرف. كالتحرّش بالجنس اللطيف ويبدو انها ستستمر الى ما لا نهاية. ومشكلة الجنس وأنوثة المرأة قد وجدت لها مساحة واسعة جداً منذ أزمان بعيدة وحتى لوقت غير بعيد، وقد تطرف بعض العلماء باعتبار الجنس المحرك الأساسي لسلوك الفرد كما هو الحال عند العالم النمساوي Sigmund Freud وأصحاب مدرسة التحليل النفسي، حيث يسبب الكبت قلقاً نتيجته ضغط انفعالي يقوم الفرد بتصريفه بوسائل عديدة منها الأحلام أو النظر بعين جائعة أو الغزل وغيرها. وبالتأكيد تزداد هذه الظاهرة وتقل حسب ثقافة ونوع المجتمع وعدم تسهيل الزواج بالنسبة للشباب خاصة. ومن الممكن أن نحمل المرأة أيضاً سريان هكذاحالة. ومن الملاحظ أن القصة تناولت حالة مستشرية باسلوب غير مثير وانما عقلاني لأن الهدف هو تربوي لا غبار عليه. وقد استعمل الكاتب أساليب حوارية مختلفة منها حواره مع القاريء مرة: " جاءني صوت زياد منهمراً كالمطر.." وأيضاً " رحت أرتدي ملابسي على عجل وفي ذهني صور شتى لما أرى.." وسرد مختصر يقطعه بحوار مع النفس تارة monologue أو محاوره dialogue، ليضعنا في سيناريو محكم تماماً خلال نص كتب بعنايةٍ ودرايةِ كاتبٍ يمتلك مفاتيح كتابة القصة القصيرة mechanism . ولنتساءل..لماذا جعل ثياب الفتيات تتطاير وتصبح " كمظلة مقلوبة " ، بينما جعل ثوب تلك الفتاة التي هي على الأرجح أخت صديقه زياد ضيقاً عند الركبتين؟" . أجل لماذا لم " يظهر المخبوء من أخت صديقه جراء ثوب فضفاض بدلاً من ثوب ضيق من المستحيل أن يتطاير؟ والجواب يعتمد على سببين. الأول محاولة إبقاء الكاتب على جزء من هالة الأحترام للجار وعدم رغبته بالخدش المعنوي moral harm لتلك العلاقات التي يعتبرها تراثاً مقدساً، وهذا بدوره يساعد الصديقين على الاستمرار بعلاقتهما الطبيعية تدريجياً . والسبب الثاني هو رغبة الكاتب بعدم استعمال قفلة مؤلمة ومهينة وإنما قفلة مؤثرة تعطي عبرة بأقل خسارة وهدر انفعالي. وحتى الريح عجزت عن رفع مايسترها وها هي " تسير مثل ريم بين كوكبة ظباء، واثقة من نفسها لا تأبه الريح التي راحت تحاول عبثاً زحزحة ثوبها الذي ضاق عند الركبتين .." وإنّ التصاق الثوب بمؤخرتها قد جعل مازن يدفع الثمن غاليا رغم أن الوصف أقل اثارة وجرأة، وأعتقد أن القيم العليا للكاتب ساهمت في ذلك فهو يعكس نفسه He reveals himself عندما هزمت البطلة الريح التي عجزت عن رفع ثوبها اضافة لنظرة الاستصغار لمن أسمعها غزلاَ والتي عكست قوة شخصيتها في سيناريو كتب بسلاسة وألزمنا على إعادة قراءة القصة بلهفة لزيادة المتعة ونحن نغور وسط تفاصيلها....
==============================
2) ألقصة:
جاءني صوت زياد منهمرا كالمطر:"مازن...يا مازن ..هيّا.. هيّا بنا ننزل إلى السّوقْ"
قلت متردّدا:"خير لماذا الآن بالذات، هل طارت الدنيا، ننزل غدا؟"
أجابني مقهقها: " لا.. ألا ترى الريح شديدة اليوم!"
آ آ آ.. الريح.. الريح دقائق وأكون بين يديك!!
رحت أرتدي ملابسي على عجل، وفي ذهني صور شتى لما سأرى، فيوم الريح فرصتنا التي لا نضيّع ساعة منها، فها هي بدأت تثور غاضبة تلفّ المكان بعويلها، وتنفخ في الشبابيك فتئنّ صافرةً، بعد غدٍ ستفتح المدارس أبوابها، فالسوق اليوم مكتظّةً بالفتيات الجميلات، بفساتينهن القصيرة الهفهافة، والتنانير المنبسطة كمظلّة صيف، أردية متنوّعة هي ملعب للريح، عادة درجنا عليها وصديقي زيادًا، ننزل السوق كلّما هبّت الريح، للتفرّج على ما تخبئه الفساتين من عاج و كستناء، وما تخفيه من حمرة وصفرة تحتها.
بعد أقل من نصف ساعة كنّا في السوق نسير متمهّلَيْنِ، كسلاحف بحرية وضعت بيوضها للتو، نحثّ الريح أن تشتدّ قليلا، وتلفّ كثيرا، وكأنّي بها استجابت لدعوانا، فراحت تأتي الصبايا من حيث لا يتوقّعون وتراوغهن كثعلب بين دجاجات، تهبّ هنا، فيطيرُ فستانٌ كعصفور دوري، تتلقاه يدا الفتاة برشاقة راقصة باليه، تقرفص أحيانا لاجمة فكي الريح إن أعياها ردّه، فتلملم ثوبها ثم تقف مع هدأتها. حتى إذا اشتد العصف ودارت الريح دورتها تطاير الثوب كمظلة مقلوبة، ليطير قلبانا معه، إذ يظهر المخبوء، ويلمعُ بياضٌ متيّم تحت عتمة القماش.
وفيما نحن سائران وقع نظري على فتاة لا أجمل ولا أبهى، تسير مثل ريمٍ بين كوكبة ظباء، واثقة من نفسها، لا تأبه للريح التي راحت تحاول عبثا زعزعة ثوبها الذي ضاق عند الركبتين، والتصق بمؤخّرتها، متشبثًا بها خوف الانفلات من عقاله.
هتفت بصديقي أن قفْ وانظرْ، وقلت على مسمع من الفتاة:"انظر إلى عشتارَ تمشي على الأرض، هيا بنا نتابعها يا أدونيس"
مدّ زياد بصره حيث أشرْتُ، تمهّل برهة، فكانَ بين المندَهِشِ والقابِضِ على الجَمْرِ، لكنّه أطلق صفْرة الإعجاب التي أتقنها واشتُهر بها، ثمّ قال: "صدقت يا مازن إنّها جميلة فعلاً"
أخذني جمالها، وراحَ يطوّح بي ككرة في ملعب العاصفة قلت:
"زياد إنّها تمضي خارج السوق، تعال نلحق بها، لعلّنا نعرف أين تسكن، فنبني صداقة معها"
أحسّت الفتاة بوجودنا، بل تعمّدْنا أن تُصَافِحَ كلماتُ الغزلِ التي رشقناها بها أُذُنَيْها، فمدّت إلينا بصرَها من خلال لوزتين خضراوين و خيمةٍ من أهداب نيسان، خُيِّل إليّ بأنّها ترسل لي غمزة أرفَقَتْها بابتسامةٍ، والحق أقول إنّها ربّما لم تَكُنْ تخصّني بهما، بل كانتا لصديقي زيادِ الأكثرِ وسامةً منّي، والأمشق طولا.
تلكّأ زياد قليلا وأبدى عدمَ الرّغبةِ في متابعَةِ السير، ولكن مع بعضِ الرّجاء، وقليلٍ من ضراعةٍ وتوسّل اعتدْتُ إتقانَها، رضيَ ومشى صامتاً، ولَمّا لم يعد يشارِكُني كلامَ الغَزَلِ، جارَيْتُهُ وسِرْنا صامتيْنِ، كراهِبَيْن يتقدمان قدّاسًا، لقد اعتدت على تصرّفات زياد ، وتقلباته المفاجئة، رغم أنّ معرفتي له لم تتجاوَزْ عدةَ أشهر، حيث كنّا نلتقي بين الحين والآخر في المقهى القريب من حارتنا، التي سكن أهلُهُ فيها منذ سنةٍ، وفي المقهى جاءتنا فكرةُ الريحِ فقد هَبَّتْ فجأة، وقلبت فستانَ إحدى الصبايا رأساً على عَقِبٍ، فصرنا كلّما أقبلتِ الريحُ بصخَبِها ومجونِها، نَغْتَنِمُها فسحةً للبصر، أمّا اليوم فعلى غير عادَتِهِ أبدى امتعاضاً من فُسحتنا، فلم أشأ أن أسأَلَ ما الذي غيّره. لكنّنا تابعنا سيرنا خلف الفتاة، أو هكذا خيّل إلي، وكنّا إذا غذّتِ السيرَ غذذْنا، وإن ما أبطأَتْ تَمَاهلْنا، أو تشاغَلْنا بالنظر هنا وهناك، كيما نبعد الشك عنّا.
و لشدّ ما كانت دهشتي كبيرة، عندما رأيتها تلتف حول السوقالشمالية، وتتجه صوب حارتنا، نظرت نحو زياد، فرأيت وجهه مربدّا كوجه بوم غاضب، يزفر زفيرَ المغلوب على أمرِهِ، فكانَ زفيراً أشبه بنقنقة ضفدع جائع، تارةً يبلعُ بريقه فيغُصُّ به لجفافِهِ، وتارةً يحاولُ أن يخفي امتعاضَهُ بابتسامَةٍ بلهاءَ فأرى وجهه كوجهِ منغوليٍّ أبْرَصَ، قلت محرّكا غيرته علّه ينتفض من شروده:
"أيكون هذا الغزالُ من حارتِنا ولا ندري، لا ..لا..أصدّق عينيّ؟"
فيردّ زياد منفعلاً:"ولتَكُنْ يا مازنُ ما همّكَ أنتَ في ذلك؟"
تركته لغضَبِهِ، ورحْتُ أراقبُ وجهةَ الفتاةِ، فإذا بها تَدْخُلُ الطريق الفرعيَّ الموصلَ إلى بيْتِ زيادٍ، وتَقِفُ أمامَ بابِ المنزلِ الخارجيِّ، تخرجُ مفتاحا من جيبها، تفتحُ البابَ وتدخل ببساطةٍ وهي تسرق نظرةً خاطفةً ساخطةً نحوي.
تقوّس حاجباي عجبا حتى صارا كقوس نصر بلا نصر، فَغَرْتُ فمي دهشةً وهلعا كما لو هرٌّ فوجئ بسلوقيّ جائع، أحسست بنفسي أتضاءَلُ وأصغُرُ، حتى لم أعدْ أرى نفسي. طأطأْتُ رأسي وتابَعْتُ سيري نحو بيتي دونَ أن ألتفِ
لنداءاتِ صديقي التي راحَتْ تَصْفَعُ قَفَاي...
ألقاص عادل نايف البعيني
علي البدر
قاص وناقد
16/2/2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق