الدراسة
النقدية التي قام بها الناقد الكبير اﻻستاذ الفاضل بدر النخلة (Badr Nakla
) عن روايتي (عﻻقة شائكة) خجلى حروفي وقلمي وقرطاسي للتعبير عن الشكر
والتقدير لذلك الناقد اللبيب والذي تبرع مشكورا بهذه الدراسة الوافية لك
خالص تقديري واجﻻل تحية من ارض الرافدين للمغرب بلدي الثاني خالص التحايا
والشكر
الرواية العراقية بين تجديد الخطاب النقدي و تطورات الأدب النسوي: قراءة نقدية في رواية علاقة شائكة للقاصة والروائية رفاه زاير-جونه.
غالبا، ما يتم فهم النقد، على أنه لا يعدو أن يكون هدما مباشرا للنص، وتقويضا له، مهما كان يحتويه النص المدروس من أفكار و معارف قمينة، وجديرة بالاهتمام والتمحيص، تستوجب على الناقد إظهارها وبيانها. هذه الأفكار لا تهمنا إن كانت صالحة أو العكس. ومن ثمة فالنص الفني أو الأدبي، لا يقدم نفسه مباشرة، أو يفصح عن مدلولاته و مكنوناته دفعة واحدة، من قراءة أو نقد أحادي البعد، إنه) النص( نسيج من الحياة والعلاقات الاجتماعية، يظهر المقروء منه، ويتموضع في فجواته الكامن والغامض، والفوقي الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام المقدرة والفهم التأويلي . الشيء الذي يجعلنا نغفل عن الكثير مما يحويه النص، في علاقته المتعددة والمتلونة، بأبعاده وتصوراته. حينئذ، وبهذا الفهم المرتهل، وهذا التحديد السلبي الفضفاض لمفردة "النقد"، يتم ممارسته، ويتجسد كرد فعل طورا، وكترف فكري طورا؛ همه البوح دون روية بما يتوافق ومصالح أو روابط ذات خلفية إيديولجية معينة، وذلك في سبيل الحفاظ على أن يبقى النقد حبيس معرفة طبقية معينة.
لذا، فهذا الفهم أو القصور الذي يصادف الناقد، يكون في غالب الأحايين نابع بالأساس من نزق في الحس النقدي، وعفوية في الأحكام المسبقة... حتى أننا بتنا نشاهد ضروبا من النقد، لا يأتي من خلاله النقد من تلقاء ذاته، بوصفه ضرورة إبداعية وفنية وسياسية تفرضها قاطرة التاريخ، بل يقدم أي –النقد- نفسه كسلعة تُباع وتُشترى، التّشهير والبهرجة، معنى ذلك نقدا تسويقيا، تُحوّل فيه المادة المنتجة باستمرار إلى إعادة الإنتاج، وبالتالي الحفاظ على ثباته وديمومته بأي طريقة كانت، سواء مباشرة أو غير مباشرة.
هذا التحول بطبيعة الحال في جوهر النقد، ارتبط ارتباطا عضويا بالمادة المدروسة والملموسة، التي يحاول الناقد باعتبارها المهمة الأساس، كشف المستتر في بنيتها، والغامض الكحلي في مسعاه إلى الظهور والانكشاف. ولطالما كان الغرض في استهلاك المادة الفنية تحت الطلب بأقرب شكل من الأشكال، كان النقد هنا تابعا للغرض والطلب نفسه، ومن ثمة يصب في اتجاه واحد لا محيد عنه. وبالتالي كان الناقد بدوره بوقا يطلق النعيق.
لا أنكر، انطلاقا من دعوانا، على النقد لم تتطور وتتعدد مناهجه، أو أن هذا الضرب من النقد شيء قبيح يلزم محاربته وإقصاءه، بل على العكس من ذلك، كل ما في الأمر، مع الاحتفاظ بما قلنا أعلاه، على أن الناقد، يظن وهو يطرح جملة من الأسئلة، ويساءل القضايا المطروحة في النص، جاهدا على أن يجعل من هاته المسألة خيطا ناظما ورفيعا، يسلط الضوء من خلاله على الشكل الذي سلكه الكاتب للتعبير عن أفكاره ومشاكله، مستعينا بسيرة المؤلف الذاتية، والعوامل النفسية والعاطفية، ثم التأثيرات التي لحقته من تيارات فكرية أو سياسية معينة، قادرة نسبيا على تشكيل صورة معينة لأعماله الأدبية أو الفنية، أو بطولاته الماجدة. إن الناقد هنا يكون بالضرورة مجترا لأشياء لا قيمة لها. لأن فهم النص الهيروغلفي لا يعدو أن يكون مجموعة من الأحكام والتعاليم، وبالتالي لن يسمن أو يغني من جوع هذا النقد إلا في بوتقته الأكاديمية. حالئذ تنقلب و تؤول جهود الناقد، وجهود المؤلف إلى فشل ذريع، متسرع، آليّ، تبسيطي بلغة " تيري ايغلتون"، رغم أنه وضع على سرير "بروكوست" كل ما احتاج إليه، واستعان به. هذا الأمر حقا، أدى إلى تقلص دور الناقد من الحقل الفني والأدبي، بوصفه الفيصل الذي يحدد الحس النقدي لدى الجمهور، تحول إلى بوق يهدف إلى استحسان الميوعة والاستثمار فيها.
إن دور المؤلف بالضرورة يجب أن يكون ذاتيا، يصمه الاختلاف من كل جانب. وعلى الناقد أن يعي شرط ذاتية المؤلف ولا يتعداها حينما يقحم نفسه، واهما أنه الوحيد القادر على إزالة حجاب النص المدلهم، يجب عليه أن يستوعب تلك الذاتية، ويحاول قدر المستطاع إبرازها دون لف أو دوران، دون تملق، أو افتعال مزعوم لقضايا لم يطرحها المؤلف أو كانت مختبئة في خضم أخاديد بنية النص، إنه يقتل المؤلف ويحييه في نفس الآن، حتى تنهار سلطة المؤلف في يد، وفهم القارئ. ومثال على ذلك: حينما نسمع على أن السارد حاور نظرية العود الأبدي عند نيتشه، أو نظرية العوالم الممكنة أو شيئا من هذا القبيل، والذي للأسف الشديد، نجده صارخا في طيات الكثير من الأعمال النقدية، والتي لو حاولنا حقا إقامة عليها نقدا جينيالوجيا في حفرياتها، لوجدنا أن النص حافيا، منغلقا، إنه هذر معرفي بلغة جاك ديريدا.
أخيرا، وما يجب التنويه عليه غير ما مرة، أن ارتقاء الرواية العربية، أو الفكر بصفة عامة، ليس رهين بكمية المطبوعات السردية التي تفرز أكداسا، وأكواما على مدار السنة، ولا بمدى الجهود النقدية، التي تكون غالبا غير جادة كما أوردنا سالفا، ذلك أن الأمر يسبب تيهان، وتأجيل لا موعد له، على صعيد انتقاء ملامح وخصائص الرواية العربية، التي لازالت مستلبة بفعل المناهج الغربية التي تسقط عليها، وتُقدد عليها قدا وتُفَصّل دون حكمة أو تبصر. ناهيك على سلطة الأنموذج الروائي الغربي باعتباره أيقونة يجب حتما الركوع لها، ومحاكاتها.
في هذا السياق، سنحاول أن نقف قليلا أمام الرواية العربية العراقية، كونها قبل كل شيء، تعيش حراكا، وإنتاجا قويا في الأعمال السردية هذا من جهة، من جهة أخرى أنها تحفل أي الرواية العراقية بوفرة في الأعمال النقدية. وعليه، فإننا نجد، على أن الرواية العراقية والعربية بصفة عامة، ارتكزت على الأعمال الأدبية النسائية، أو بالأحرى نجد وجود هذا النمط من الأدب هو المسيطر والصارخ على الصعيد الفني والإعلامي، يقول الناقد نجم عبد الله كاظم: "إن حضور المرأة العراقية كاتبة في الكتابة الروائية هو اقتحام قوي يفرض نفسه على الناقد والمؤرخ الأدبي، وربما حتى الدارس الاجتماعي، ودارس الجندر"، وذلك راجع بطبيعة الحال إلى ما عاشته المرأة من تهميش وخلخلة، وجروح نرجسية في أنطولوجيتها، وكيف تمت صياغتها وتوظيفها داخل مساق أدبي نسوي. معنى قولي هذا، ليس تصنيفيا، احتكاريا، يستند إلى تمييز جنسي، يتميز برفع شعار الدفاع عن المرأة كما قد يظهر من الوهلة الأولى، إنها دعوى تبين أن المشاركة النسائية الأدبية غدت قوية مقارنة مع الرجل، وبالتالي الأعمال الأدبية جملة، أصبحت تحت اضطلاع المرأة ونقدها. مقامنا لا يسمح بالحديث عن التحولات في الأدب النسوي، سواء على مستوى الموضوعات والبنية كما تظهر جلية في مقال: "تشظيات الرؤية الأنثوية في تقويض السلطة البطريريكية" وفي الكثير من الدراسات الجدية في هذا الموضوع. وغني عن البيان أن نتذكر هنا أعمال كل من الوجودية "سيمون دي بوفوار" و "فيرجينيا وولف"...، وكيف ناضلن لإرساء خصائص جلية ومميزة للأدب والفكر النسوي الغربي، الشيء الذي سيؤثر في نفحة الأدب النسوي العربي بصورة قوية لدى أديبات مرموقات من قبيل: المفكرة العربية "نوال السعداوي"، أو "أحلام مستغاني" والكثيرات. صحيح أن الأدب النسوي ليس بمكان أن نقارنه مع الأدب النسوي الغربي. لكن رغم ذلك، حتى وإن جعلنا الإشكالية الأدب النسوي في مواجهة الهيمنة الذكورية، باعتبار أن هذا الأدب في آخر المطاف، هو نضال، وصراع تاريخي مرتبط بتحرر المرأة من قيود الرجل، وسعيها إلى المساواة. يبقى في الأخير على أن موضوع المرأة، سواء نصفت أو قهرت في الأعمال الأدبية العربية، كانت هي المادة الخام، التي تفرض نفسها بالقوة تاريخيا، ولا يتعداه. إذا، ما نسعى إلى بيانه، ليس له علاقة البتة بمحاولة تفضيل هذا الأدب عن ذاك، أو بالأصح يتم الاعتراف به أي الأدب النسوي إلا في علاقته المباشرة بالأدب الإنساني بالدرجة الأولى من جهة، وما يعالجه من أشياء وموضوعات خاصة بالمرأة من جهة أخرى كما يبين ذلك الناقد: "حسام الخطيب". زد على ذلك، أن هذا التقسيم في الأدب يطرح إشكالات أخرى، زخمة وشائكة، وبالتالي مرفوضة من أديبات وناقدات...
إن المتتبع لمسار أحداث رواية: "علاقة شائكة" للكاتبة "رفاه زاير-جونه"، لا مناص أنه سيدرك، ويلمس عناصر وشخوص تُظهر نفسها للقارئ عيانيا، وبشكل واضح، بسيط جدا، جعلته الكاتبة مادة دسمة للسرد والحبكة، جاعلة من الواقع العراقي ركيزة مرصوصة لاستثمار، و إغناء أحداث الرواية، في قالب يضم مونولوج صريح مع الذات المفعول بها والفاعلة، المقهورة تحت سياط الإمبريالية، وديكتاتورية السلط البيروقراطية، والتي تسعى من خلالها الذات العربية، والتي هي "نضال" إلى الانعتاق من داخل هاته الفوضى، ومن هذا العدم المطبق، وذلك عبر بت وإفشاء الحب والأخلاق، ثم الإيمان بذلك عن طواعية. وتحتل "نضال" رمزا اجتماعيا من رموز هذا التشظي الذي يمزق العراق ومن عليها. هل الكاتبة هنا تعي جيدا على أن نضال هي صورة ميكروسكوبية لهذا البلد العريق؟ الرواية تشي بذلك منذ البداية، وليس لازما أن تبين الكاتبة ذلك، لأن أحداث الرواية وشخوصها كلهم يعيشون اضطرابا وفزعا، هروبا واغترابا، حتى وأننا نجد روحا عالية عربية خالصة تقبع في أعماق أولئك الألى حسبناهم، واعتقدنا أن القيم والأخلاق العربية هجرتهم إلى الأبد، في رجال الشرطة مثلا. كل شيء في العراق ظل هو هو، رجاله ونسائه، بحوره وحيواناته...إنها مُهجة رومانسية تفوح من الرواية كالنسيم والندى، وتذكرنا برومانسية كلاسيكية تلعب لعبة التخفي والظهور، مناجاةٌ أزلية تتجسد في سلوكات وعلائق الشخوص والرموز الأسطورية. ولا يخفى عند تصدينا للعنوان، مقدار الإثارة التي تلتف حول الأخيلة من استهامات وهواجس، من ردود وإيحاءات دافقة، ترتبط جنينيا بالعلائق اليومية، والصراع الذي يتدفق مدرارا من كل صوب وحدب. فالعنوان يحيلنا مباشرة، إلى ما يقع في عوالم العلاقات الإنسانية، من حب وغرام، من خيبة وكآبة، عودنا أنفسنا على التكهن بنتائجها المستميتة، إنها مفارقة يحملها العنوان ولا يجهر بها حتى في المتن، فيضع القارئ أمام أحداث تتجدد في خضمها المشاكل وتستعر، لتضعنا الروائية أمام خبايا العائلات والأسر-ولقد أعطتنا الساردة مثال علاقة الحب التي ستقع فيها نضال مع أخيها دون علم بصلة القرابة التي تجمعهما- وما تحويه من أسرار شخصية لتتحول في المستقبل إلى خاصية اجتماعية غيرية، معنى انتهاك حرمة الفرد من طرف الغير وأحكامهم الجزافية، إنهم الجحيم بلغة "سارتر"، يصوب الفرد سهام النقد قبل المجتمع على نفسه، رغم أنه ضحية كبت معين، أو هوى طائش، يتحكم في مصيره إلى أبد الآبدين. وبعدها تأتي نظرة المجتمع الدونية، بشعة، طائشة دون رحمة أو تقدير، يذكرني هذا الأمر بإستراتيجية "نعوم تشومسكي" التي تحدث عنها في التحكم، والسيطرة على الشعوب والأفراد؛ تلك النظرة الكئيبة للنفس، التي تتولد كرها، وتحيل الفرد إلى كائن منهزم، هامشي، متقوقع داخل إطار اقتصادي وسياسي واجتماعي...، وبأن الشخص هو سبب محوري لمشاكله، هو المسئول عن تشظيه الذاتي، وبالتالي فلا يمكن للفرد أن يفكر، لأن المجتمع هو الذي يفكر مكانه، ويخلص إلى ما يشاء. فالساردة رفاه زاير جونه، استعملت هذا العنوان "علاقة شائكة" لتحديد نوعية المتن، في قالب حواري، يرتبط جدليا بالذوات المشخصة في الرواية، والعاكسة للواقع العراقي المعيش، فكان العنوان كاف، أي أنه ألمّ بالفصول على حدة، واحتواها في تحديد طابع الرواية، ومضمونها الفعلي، ومن ثمة فإنها رواية واقعية، بأحداثها وموضوعاتها. تبقى الشخوص متخيلة داخل النسيج السردي، فتظهر تارة على لسان الراوية أنها العليمة بكل شخص على حدة، و تارة المراقبة المتحدثة عنهم وعن حياتهم، حتى تتقمص الدورين في حُلّة واحدة، ويظهر ذلك جليا، أن الرواية رواية مكان، متمثلة في العراق التي لازالت تعيش أوار التدليس والإرهاب، وكيف أن النظام الإقطاعي ظل حاضرا برهبته وشبحه في رزح رقاب الفقراء والمنكوبين، الكل يسعى إلى نبشها وخرابها، لكنها تظل شامخة أمام مصائب الدهر وحتميته، إنها نفس النظرة التي تفصح عليها الساردة، وتطفح من أعماق الشخوص، ومن متاهات العلاقات، تتوغل في عمق القدرية، وتسلم نفسها خاضعة بما شاء وأحب القدر، لا ترى في الدين أفيونا، أو في المؤسسات النظامية سوى أشخاص يفعلون ما يردون، لهذا تستوجب البداهة أن يكون لضربة الصاع صاعين، تتدخل الأخلاق الفاضلة حينما يعجز القانون. بالنسبة للساردة لا وجود لمؤسسات بعينها، بقدر وجود أشخاص لا تهمهم إلا المصالح الانتهازية، والصفقات الحيوانية، في التجارة بضمائر الناس، وتمويههم بالمثل العليا، والأخلاق الفاضلة. لقد سعت الروائية جاهدة إلى إسدال الحجاب عن سرائر الشعب العراقي، لقد سعت أن نقتفي حيواتهم تحت الخراب والتهديد المسلط بسهامه المسنونة على رقابهم، وذلك يتم عبر أحداث سريعة، وحوارات تظهر من الوهلة الأولى أنه لا دلالة لها، لكنها تعكس العراق من مرآة الأولمب، فتظهر أعماقها فاغرة مهولة، إن ما يخيف كما يقول "نيتشه" الأعماق وليس الأعالي، حيث تحول الصراع من صراع بين الطبيعة، إلى صراع بين الإنسان وأخيه، مسخ، تشويه، هضم للحقوق، وكبت للأحلام وسرقتها من المهد، صراع يعتلي فيه النفوذ ،والخبثاء عرش السلطة، بشر دخلاء، أقاموا متاريس للمواطن العراقي البسيط. هكذا تبدأ الرواية في شخص نضال، إنها العراق تفر هاربة من جرم مفبرك، تعيش البطلة أحداثا شاذة، ملفقة، زائفة، رعب يلتوي على كينونتها في كل لحظة، هروب نحو الهاوية، مفخخ طريقه بدسائس المحنة والقهر. لقد وضعتنا الروائية أمام العراق، جميع النساء هن نضال، جميع الأسر والعائلات منقادة إلى نفس المصير والمعاناة، تنقاد بصورة دوغمائية أرتذوكسية، وبالتالي قسرية صوب موتها غصبا. نلمس إذن صعوبة حتى في وخز الضمير، لقد أصبح نفسه جرما يجب محاربته وقتله. لكن نضال لا ترضخ بسهولة، إنها تتحدى المصائب والأقدار، وتصم آذانها عن ضجيج المؤامرات وكيد النساء وعنجهية الرجل القبلي. بعدها نجد المكان جامدا، لا تتداخل فيه قوة الأماكن، كأن الساردة أيقنت أن المكان في الحقيقة هو العراق في صورة ذرية، يدخ المكان، ويعرض أحداثا لا تنفك عن الثرثرة والنميمة المقبولة، هذا الأمر يذكرنا بتعبير الكاتب "سعيد يقطين" في حديثه عن الأسلوب الكتابي النسوي. الصور ثابتة كأنها لا تتغير قيد أنملة، إنها حيلة سردية تبين لنا الوضع السائد في المجتمع، ومن ثم خاصية فنية مميزة. يأتي بعد ذلك توظيف رمزي للمحاماة والطب، كأن الروائية تستنجي بضرورة انعتاق العراق، على أنها يجب أن تشفى أولا وتحتضن، لكي تصح المدافعة عنها أمام الاستعمار الامبريالي. إن الساردة تراهن رغم ذلك بفوز القضية، والمسألة مسألة وقت وتنظير فقط. إن مساعدة الطبيب كانت فقط مرحلة أولية، عقبها لن تحتاج العراق إلى طبيب، بل إلى محامي قدير ليدافع عنها حتى آخر رمق، مناهض للقانون الوضعي باسم الذي يتغلف بحقوق الإنسان، والتي للأسف الشديد تقتل الإنسان بدل أن تحييه، إنها الحيلة المفتعلة التي استعملتها الروائية، الموت المزعوم، التظاهر بأن العراق ماتت ولا حياة لها بعد الآن، كي يتم على الأقل الابتعاد عنها، ونسيانها لبعض الوقت، لتنهض من جديد، وتجدد حياتها، إنها رمزية العنقاء ثاوية في متن الرواية.
لقد ظلت الكاتبة محافظة ورافعة شعار الدفاع عن المرأة، تحررها، ومساواتها، منشغلة بالعنف السياسي، وعبثية المواقف والقتل اليومي والاغتصاب من طرف الميليشيات. وهمّ الكاتبة هو التأكيد على الهوية النسائية عن طريق استرجاع النوستالجي كما تبين ذلك الكاتبة هيفاء زنكنة، وبالتالي يصح موقف هاته الكاتبة حينما بينت أن الكاتبات العراقيات لم يعالجن العنف السلطوي بجانب الذكوري، ولم يتطرقن إلى الجندر في علاقاته المتلونة بالنفس العراقية، ربما هو ناتج عن خوف يقبع في مخيلة النساء العراقيات أو شيء من هذا القبيل. إنه الخوف من أن تكون المرأة مبدعة، كاتبة، حاملة لهموم المجتمع، والحاضنة والمربية للرجال. هكذا تبين لنا رواية علاقة شائكة، وتقفز الكاتبة رفاه جونه زاير إلى بصم أثرها داخل الأدب النسوي.
الرواية العراقية بين تجديد الخطاب النقدي و تطورات الأدب النسوي: قراءة نقدية في رواية علاقة شائكة للقاصة والروائية رفاه زاير-جونه.
غالبا، ما يتم فهم النقد، على أنه لا يعدو أن يكون هدما مباشرا للنص، وتقويضا له، مهما كان يحتويه النص المدروس من أفكار و معارف قمينة، وجديرة بالاهتمام والتمحيص، تستوجب على الناقد إظهارها وبيانها. هذه الأفكار لا تهمنا إن كانت صالحة أو العكس. ومن ثمة فالنص الفني أو الأدبي، لا يقدم نفسه مباشرة، أو يفصح عن مدلولاته و مكنوناته دفعة واحدة، من قراءة أو نقد أحادي البعد، إنه) النص( نسيج من الحياة والعلاقات الاجتماعية، يظهر المقروء منه، ويتموضع في فجواته الكامن والغامض، والفوقي الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام المقدرة والفهم التأويلي . الشيء الذي يجعلنا نغفل عن الكثير مما يحويه النص، في علاقته المتعددة والمتلونة، بأبعاده وتصوراته. حينئذ، وبهذا الفهم المرتهل، وهذا التحديد السلبي الفضفاض لمفردة "النقد"، يتم ممارسته، ويتجسد كرد فعل طورا، وكترف فكري طورا؛ همه البوح دون روية بما يتوافق ومصالح أو روابط ذات خلفية إيديولجية معينة، وذلك في سبيل الحفاظ على أن يبقى النقد حبيس معرفة طبقية معينة.
لذا، فهذا الفهم أو القصور الذي يصادف الناقد، يكون في غالب الأحايين نابع بالأساس من نزق في الحس النقدي، وعفوية في الأحكام المسبقة... حتى أننا بتنا نشاهد ضروبا من النقد، لا يأتي من خلاله النقد من تلقاء ذاته، بوصفه ضرورة إبداعية وفنية وسياسية تفرضها قاطرة التاريخ، بل يقدم أي –النقد- نفسه كسلعة تُباع وتُشترى، التّشهير والبهرجة، معنى ذلك نقدا تسويقيا، تُحوّل فيه المادة المنتجة باستمرار إلى إعادة الإنتاج، وبالتالي الحفاظ على ثباته وديمومته بأي طريقة كانت، سواء مباشرة أو غير مباشرة.
هذا التحول بطبيعة الحال في جوهر النقد، ارتبط ارتباطا عضويا بالمادة المدروسة والملموسة، التي يحاول الناقد باعتبارها المهمة الأساس، كشف المستتر في بنيتها، والغامض الكحلي في مسعاه إلى الظهور والانكشاف. ولطالما كان الغرض في استهلاك المادة الفنية تحت الطلب بأقرب شكل من الأشكال، كان النقد هنا تابعا للغرض والطلب نفسه، ومن ثمة يصب في اتجاه واحد لا محيد عنه. وبالتالي كان الناقد بدوره بوقا يطلق النعيق.
لا أنكر، انطلاقا من دعوانا، على النقد لم تتطور وتتعدد مناهجه، أو أن هذا الضرب من النقد شيء قبيح يلزم محاربته وإقصاءه، بل على العكس من ذلك، كل ما في الأمر، مع الاحتفاظ بما قلنا أعلاه، على أن الناقد، يظن وهو يطرح جملة من الأسئلة، ويساءل القضايا المطروحة في النص، جاهدا على أن يجعل من هاته المسألة خيطا ناظما ورفيعا، يسلط الضوء من خلاله على الشكل الذي سلكه الكاتب للتعبير عن أفكاره ومشاكله، مستعينا بسيرة المؤلف الذاتية، والعوامل النفسية والعاطفية، ثم التأثيرات التي لحقته من تيارات فكرية أو سياسية معينة، قادرة نسبيا على تشكيل صورة معينة لأعماله الأدبية أو الفنية، أو بطولاته الماجدة. إن الناقد هنا يكون بالضرورة مجترا لأشياء لا قيمة لها. لأن فهم النص الهيروغلفي لا يعدو أن يكون مجموعة من الأحكام والتعاليم، وبالتالي لن يسمن أو يغني من جوع هذا النقد إلا في بوتقته الأكاديمية. حالئذ تنقلب و تؤول جهود الناقد، وجهود المؤلف إلى فشل ذريع، متسرع، آليّ، تبسيطي بلغة " تيري ايغلتون"، رغم أنه وضع على سرير "بروكوست" كل ما احتاج إليه، واستعان به. هذا الأمر حقا، أدى إلى تقلص دور الناقد من الحقل الفني والأدبي، بوصفه الفيصل الذي يحدد الحس النقدي لدى الجمهور، تحول إلى بوق يهدف إلى استحسان الميوعة والاستثمار فيها.
إن دور المؤلف بالضرورة يجب أن يكون ذاتيا، يصمه الاختلاف من كل جانب. وعلى الناقد أن يعي شرط ذاتية المؤلف ولا يتعداها حينما يقحم نفسه، واهما أنه الوحيد القادر على إزالة حجاب النص المدلهم، يجب عليه أن يستوعب تلك الذاتية، ويحاول قدر المستطاع إبرازها دون لف أو دوران، دون تملق، أو افتعال مزعوم لقضايا لم يطرحها المؤلف أو كانت مختبئة في خضم أخاديد بنية النص، إنه يقتل المؤلف ويحييه في نفس الآن، حتى تنهار سلطة المؤلف في يد، وفهم القارئ. ومثال على ذلك: حينما نسمع على أن السارد حاور نظرية العود الأبدي عند نيتشه، أو نظرية العوالم الممكنة أو شيئا من هذا القبيل، والذي للأسف الشديد، نجده صارخا في طيات الكثير من الأعمال النقدية، والتي لو حاولنا حقا إقامة عليها نقدا جينيالوجيا في حفرياتها، لوجدنا أن النص حافيا، منغلقا، إنه هذر معرفي بلغة جاك ديريدا.
أخيرا، وما يجب التنويه عليه غير ما مرة، أن ارتقاء الرواية العربية، أو الفكر بصفة عامة، ليس رهين بكمية المطبوعات السردية التي تفرز أكداسا، وأكواما على مدار السنة، ولا بمدى الجهود النقدية، التي تكون غالبا غير جادة كما أوردنا سالفا، ذلك أن الأمر يسبب تيهان، وتأجيل لا موعد له، على صعيد انتقاء ملامح وخصائص الرواية العربية، التي لازالت مستلبة بفعل المناهج الغربية التي تسقط عليها، وتُقدد عليها قدا وتُفَصّل دون حكمة أو تبصر. ناهيك على سلطة الأنموذج الروائي الغربي باعتباره أيقونة يجب حتما الركوع لها، ومحاكاتها.
في هذا السياق، سنحاول أن نقف قليلا أمام الرواية العربية العراقية، كونها قبل كل شيء، تعيش حراكا، وإنتاجا قويا في الأعمال السردية هذا من جهة، من جهة أخرى أنها تحفل أي الرواية العراقية بوفرة في الأعمال النقدية. وعليه، فإننا نجد، على أن الرواية العراقية والعربية بصفة عامة، ارتكزت على الأعمال الأدبية النسائية، أو بالأحرى نجد وجود هذا النمط من الأدب هو المسيطر والصارخ على الصعيد الفني والإعلامي، يقول الناقد نجم عبد الله كاظم: "إن حضور المرأة العراقية كاتبة في الكتابة الروائية هو اقتحام قوي يفرض نفسه على الناقد والمؤرخ الأدبي، وربما حتى الدارس الاجتماعي، ودارس الجندر"، وذلك راجع بطبيعة الحال إلى ما عاشته المرأة من تهميش وخلخلة، وجروح نرجسية في أنطولوجيتها، وكيف تمت صياغتها وتوظيفها داخل مساق أدبي نسوي. معنى قولي هذا، ليس تصنيفيا، احتكاريا، يستند إلى تمييز جنسي، يتميز برفع شعار الدفاع عن المرأة كما قد يظهر من الوهلة الأولى، إنها دعوى تبين أن المشاركة النسائية الأدبية غدت قوية مقارنة مع الرجل، وبالتالي الأعمال الأدبية جملة، أصبحت تحت اضطلاع المرأة ونقدها. مقامنا لا يسمح بالحديث عن التحولات في الأدب النسوي، سواء على مستوى الموضوعات والبنية كما تظهر جلية في مقال: "تشظيات الرؤية الأنثوية في تقويض السلطة البطريريكية" وفي الكثير من الدراسات الجدية في هذا الموضوع. وغني عن البيان أن نتذكر هنا أعمال كل من الوجودية "سيمون دي بوفوار" و "فيرجينيا وولف"...، وكيف ناضلن لإرساء خصائص جلية ومميزة للأدب والفكر النسوي الغربي، الشيء الذي سيؤثر في نفحة الأدب النسوي العربي بصورة قوية لدى أديبات مرموقات من قبيل: المفكرة العربية "نوال السعداوي"، أو "أحلام مستغاني" والكثيرات. صحيح أن الأدب النسوي ليس بمكان أن نقارنه مع الأدب النسوي الغربي. لكن رغم ذلك، حتى وإن جعلنا الإشكالية الأدب النسوي في مواجهة الهيمنة الذكورية، باعتبار أن هذا الأدب في آخر المطاف، هو نضال، وصراع تاريخي مرتبط بتحرر المرأة من قيود الرجل، وسعيها إلى المساواة. يبقى في الأخير على أن موضوع المرأة، سواء نصفت أو قهرت في الأعمال الأدبية العربية، كانت هي المادة الخام، التي تفرض نفسها بالقوة تاريخيا، ولا يتعداه. إذا، ما نسعى إلى بيانه، ليس له علاقة البتة بمحاولة تفضيل هذا الأدب عن ذاك، أو بالأصح يتم الاعتراف به أي الأدب النسوي إلا في علاقته المباشرة بالأدب الإنساني بالدرجة الأولى من جهة، وما يعالجه من أشياء وموضوعات خاصة بالمرأة من جهة أخرى كما يبين ذلك الناقد: "حسام الخطيب". زد على ذلك، أن هذا التقسيم في الأدب يطرح إشكالات أخرى، زخمة وشائكة، وبالتالي مرفوضة من أديبات وناقدات...
إن المتتبع لمسار أحداث رواية: "علاقة شائكة" للكاتبة "رفاه زاير-جونه"، لا مناص أنه سيدرك، ويلمس عناصر وشخوص تُظهر نفسها للقارئ عيانيا، وبشكل واضح، بسيط جدا، جعلته الكاتبة مادة دسمة للسرد والحبكة، جاعلة من الواقع العراقي ركيزة مرصوصة لاستثمار، و إغناء أحداث الرواية، في قالب يضم مونولوج صريح مع الذات المفعول بها والفاعلة، المقهورة تحت سياط الإمبريالية، وديكتاتورية السلط البيروقراطية، والتي تسعى من خلالها الذات العربية، والتي هي "نضال" إلى الانعتاق من داخل هاته الفوضى، ومن هذا العدم المطبق، وذلك عبر بت وإفشاء الحب والأخلاق، ثم الإيمان بذلك عن طواعية. وتحتل "نضال" رمزا اجتماعيا من رموز هذا التشظي الذي يمزق العراق ومن عليها. هل الكاتبة هنا تعي جيدا على أن نضال هي صورة ميكروسكوبية لهذا البلد العريق؟ الرواية تشي بذلك منذ البداية، وليس لازما أن تبين الكاتبة ذلك، لأن أحداث الرواية وشخوصها كلهم يعيشون اضطرابا وفزعا، هروبا واغترابا، حتى وأننا نجد روحا عالية عربية خالصة تقبع في أعماق أولئك الألى حسبناهم، واعتقدنا أن القيم والأخلاق العربية هجرتهم إلى الأبد، في رجال الشرطة مثلا. كل شيء في العراق ظل هو هو، رجاله ونسائه، بحوره وحيواناته...إنها مُهجة رومانسية تفوح من الرواية كالنسيم والندى، وتذكرنا برومانسية كلاسيكية تلعب لعبة التخفي والظهور، مناجاةٌ أزلية تتجسد في سلوكات وعلائق الشخوص والرموز الأسطورية. ولا يخفى عند تصدينا للعنوان، مقدار الإثارة التي تلتف حول الأخيلة من استهامات وهواجس، من ردود وإيحاءات دافقة، ترتبط جنينيا بالعلائق اليومية، والصراع الذي يتدفق مدرارا من كل صوب وحدب. فالعنوان يحيلنا مباشرة، إلى ما يقع في عوالم العلاقات الإنسانية، من حب وغرام، من خيبة وكآبة، عودنا أنفسنا على التكهن بنتائجها المستميتة، إنها مفارقة يحملها العنوان ولا يجهر بها حتى في المتن، فيضع القارئ أمام أحداث تتجدد في خضمها المشاكل وتستعر، لتضعنا الروائية أمام خبايا العائلات والأسر-ولقد أعطتنا الساردة مثال علاقة الحب التي ستقع فيها نضال مع أخيها دون علم بصلة القرابة التي تجمعهما- وما تحويه من أسرار شخصية لتتحول في المستقبل إلى خاصية اجتماعية غيرية، معنى انتهاك حرمة الفرد من طرف الغير وأحكامهم الجزافية، إنهم الجحيم بلغة "سارتر"، يصوب الفرد سهام النقد قبل المجتمع على نفسه، رغم أنه ضحية كبت معين، أو هوى طائش، يتحكم في مصيره إلى أبد الآبدين. وبعدها تأتي نظرة المجتمع الدونية، بشعة، طائشة دون رحمة أو تقدير، يذكرني هذا الأمر بإستراتيجية "نعوم تشومسكي" التي تحدث عنها في التحكم، والسيطرة على الشعوب والأفراد؛ تلك النظرة الكئيبة للنفس، التي تتولد كرها، وتحيل الفرد إلى كائن منهزم، هامشي، متقوقع داخل إطار اقتصادي وسياسي واجتماعي...، وبأن الشخص هو سبب محوري لمشاكله، هو المسئول عن تشظيه الذاتي، وبالتالي فلا يمكن للفرد أن يفكر، لأن المجتمع هو الذي يفكر مكانه، ويخلص إلى ما يشاء. فالساردة رفاه زاير جونه، استعملت هذا العنوان "علاقة شائكة" لتحديد نوعية المتن، في قالب حواري، يرتبط جدليا بالذوات المشخصة في الرواية، والعاكسة للواقع العراقي المعيش، فكان العنوان كاف، أي أنه ألمّ بالفصول على حدة، واحتواها في تحديد طابع الرواية، ومضمونها الفعلي، ومن ثمة فإنها رواية واقعية، بأحداثها وموضوعاتها. تبقى الشخوص متخيلة داخل النسيج السردي، فتظهر تارة على لسان الراوية أنها العليمة بكل شخص على حدة، و تارة المراقبة المتحدثة عنهم وعن حياتهم، حتى تتقمص الدورين في حُلّة واحدة، ويظهر ذلك جليا، أن الرواية رواية مكان، متمثلة في العراق التي لازالت تعيش أوار التدليس والإرهاب، وكيف أن النظام الإقطاعي ظل حاضرا برهبته وشبحه في رزح رقاب الفقراء والمنكوبين، الكل يسعى إلى نبشها وخرابها، لكنها تظل شامخة أمام مصائب الدهر وحتميته، إنها نفس النظرة التي تفصح عليها الساردة، وتطفح من أعماق الشخوص، ومن متاهات العلاقات، تتوغل في عمق القدرية، وتسلم نفسها خاضعة بما شاء وأحب القدر، لا ترى في الدين أفيونا، أو في المؤسسات النظامية سوى أشخاص يفعلون ما يردون، لهذا تستوجب البداهة أن يكون لضربة الصاع صاعين، تتدخل الأخلاق الفاضلة حينما يعجز القانون. بالنسبة للساردة لا وجود لمؤسسات بعينها، بقدر وجود أشخاص لا تهمهم إلا المصالح الانتهازية، والصفقات الحيوانية، في التجارة بضمائر الناس، وتمويههم بالمثل العليا، والأخلاق الفاضلة. لقد سعت الروائية جاهدة إلى إسدال الحجاب عن سرائر الشعب العراقي، لقد سعت أن نقتفي حيواتهم تحت الخراب والتهديد المسلط بسهامه المسنونة على رقابهم، وذلك يتم عبر أحداث سريعة، وحوارات تظهر من الوهلة الأولى أنه لا دلالة لها، لكنها تعكس العراق من مرآة الأولمب، فتظهر أعماقها فاغرة مهولة، إن ما يخيف كما يقول "نيتشه" الأعماق وليس الأعالي، حيث تحول الصراع من صراع بين الطبيعة، إلى صراع بين الإنسان وأخيه، مسخ، تشويه، هضم للحقوق، وكبت للأحلام وسرقتها من المهد، صراع يعتلي فيه النفوذ ،والخبثاء عرش السلطة، بشر دخلاء، أقاموا متاريس للمواطن العراقي البسيط. هكذا تبدأ الرواية في شخص نضال، إنها العراق تفر هاربة من جرم مفبرك، تعيش البطلة أحداثا شاذة، ملفقة، زائفة، رعب يلتوي على كينونتها في كل لحظة، هروب نحو الهاوية، مفخخ طريقه بدسائس المحنة والقهر. لقد وضعتنا الروائية أمام العراق، جميع النساء هن نضال، جميع الأسر والعائلات منقادة إلى نفس المصير والمعاناة، تنقاد بصورة دوغمائية أرتذوكسية، وبالتالي قسرية صوب موتها غصبا. نلمس إذن صعوبة حتى في وخز الضمير، لقد أصبح نفسه جرما يجب محاربته وقتله. لكن نضال لا ترضخ بسهولة، إنها تتحدى المصائب والأقدار، وتصم آذانها عن ضجيج المؤامرات وكيد النساء وعنجهية الرجل القبلي. بعدها نجد المكان جامدا، لا تتداخل فيه قوة الأماكن، كأن الساردة أيقنت أن المكان في الحقيقة هو العراق في صورة ذرية، يدخ المكان، ويعرض أحداثا لا تنفك عن الثرثرة والنميمة المقبولة، هذا الأمر يذكرنا بتعبير الكاتب "سعيد يقطين" في حديثه عن الأسلوب الكتابي النسوي. الصور ثابتة كأنها لا تتغير قيد أنملة، إنها حيلة سردية تبين لنا الوضع السائد في المجتمع، ومن ثم خاصية فنية مميزة. يأتي بعد ذلك توظيف رمزي للمحاماة والطب، كأن الروائية تستنجي بضرورة انعتاق العراق، على أنها يجب أن تشفى أولا وتحتضن، لكي تصح المدافعة عنها أمام الاستعمار الامبريالي. إن الساردة تراهن رغم ذلك بفوز القضية، والمسألة مسألة وقت وتنظير فقط. إن مساعدة الطبيب كانت فقط مرحلة أولية، عقبها لن تحتاج العراق إلى طبيب، بل إلى محامي قدير ليدافع عنها حتى آخر رمق، مناهض للقانون الوضعي باسم الذي يتغلف بحقوق الإنسان، والتي للأسف الشديد تقتل الإنسان بدل أن تحييه، إنها الحيلة المفتعلة التي استعملتها الروائية، الموت المزعوم، التظاهر بأن العراق ماتت ولا حياة لها بعد الآن، كي يتم على الأقل الابتعاد عنها، ونسيانها لبعض الوقت، لتنهض من جديد، وتجدد حياتها، إنها رمزية العنقاء ثاوية في متن الرواية.
لقد ظلت الكاتبة محافظة ورافعة شعار الدفاع عن المرأة، تحررها، ومساواتها، منشغلة بالعنف السياسي، وعبثية المواقف والقتل اليومي والاغتصاب من طرف الميليشيات. وهمّ الكاتبة هو التأكيد على الهوية النسائية عن طريق استرجاع النوستالجي كما تبين ذلك الكاتبة هيفاء زنكنة، وبالتالي يصح موقف هاته الكاتبة حينما بينت أن الكاتبات العراقيات لم يعالجن العنف السلطوي بجانب الذكوري، ولم يتطرقن إلى الجندر في علاقاته المتلونة بالنفس العراقية، ربما هو ناتج عن خوف يقبع في مخيلة النساء العراقيات أو شيء من هذا القبيل. إنه الخوف من أن تكون المرأة مبدعة، كاتبة، حاملة لهموم المجتمع، والحاضنة والمربية للرجال. هكذا تبين لنا رواية علاقة شائكة، وتقفز الكاتبة رفاه جونه زاير إلى بصم أثرها داخل الأدب النسوي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق