ذاكرة الحرب وشعرنة الجزئيات
حين جاءت الحرب
بلا سماء
ذهب أبي إلى سواتِرها
ذهب ولم يعد
فتشنا في كل القوائم
الشهداء والأسرى
لم نعثر على أسمه
فسُجل مفقودا
وقد انتهت الحرب
منذ أعوام
ولكنها استعرت
في بيتنا
فأمي قبل ذهاب أبي
خاطت أزرار قميصه
إلا واحد نسته
ومن يومها
أخذت تحدثنا عن ذنبها
وأهمية هذا الزر
في حفظه من الأقدار
في الحروب
و...و
واضطررنا لإرضائها
بتشييع هذا الزر
إلى المقبرة
وإقامة مأتم عليه
تحولت أمي إلى إبرة
تخيط كل زر تجده أمامها
ومنذ تاريخها
لم نستطع أن ننزع
قمصاننا
لكثرة أزرارها
وإبرة أمي مازالت تخيط
حتى ذاكرتنا.....!
وأبي مازال مفقوداً
في أزرار أمي .
تحفل مجموعة الشاعر عباس باني المالكي (حين يهدأ الصمت) الصادرة عام 2010 بالعديد من الصور الشعرية المبتكرة التي توزعت على قصائدها، وربما نستطيع التأكيد أنَّ قصيدة (مأتم الأزرار) تعد أنموذجاً حياً لأسلوب الشاعر في ملاحقة الجزئيات والتفاصيل بغية استثمارها لإنتاج نصه الشعري.
أول ما يلفت الانتباه في هذه القصيدة بناؤها السردي الذي يعيد إلى الأذهان الحديث عن علاقة قصيدة النثر بالقصة القصيرة، هذه العلاقة التي أشار إليها أكثر من باحث، وفي مقدمتهم سوزان برنار في كتابها(قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا). وربما يوجز العنوان الذي اقترحه الشاعر(مأتم الأزرار) البعد الدلالي القاتم للقصيدة كلها، فالحديث السردي المهيمن في النص يقوم على الفقد وما يتبعه من مراسيم للحزن يمثلها(المأتم)، وتتحقق أول مظاهر الشعرية في النص من خلال هذا العنوان الذي يخرق أفق توقع القارئ عبر الانزياح المتحقق بإسناد لفظة(المأتم) إلى(الأزرار)، وهنـا بالتحديد تتشكل أولى أسئلة القراءة التي لا يمكن أنْ يجيب عنها المقطع الأول من القصيدة الذي جاء بلغة سردية أقرب إلى المباشرة :
حين جاءت الحرب بلا سماء
ذهب أبي إلى سواترها
ذهب ولم يعد
فتشنا في كل القوائم
الشهداء والأسرى
لم نعثر على اسمه فسجل مفقوداً (ص:9)
وبعد هذه اللغة المباشرة تتحول القصيدة إلى مستوى آخر عبر سعي واضح إلى شعرنة جزئيات الحدث(الزر) الذي يظهر بصورة التميمة التي تحمي صاحبها : فأمي قبل ذهاب أبي خاطت أزرار قميصه الا واحدا نسته ومن يومها خذت تحدثنا عن ذنبها وأهمية هذا الزر في حفظه من الأقدار في الحروب ومع تصاعد خطية القراءة تنفتح احتمالاتها وتتعدد إذ نلمح في المقطع السابق ابتعاداً جزئياً عن اللغة المباشرة المألوفة يزداد حدة في المقطع الذي يليه، حيث نلحظ سعياً واضحاً إلى تغريب الحدث (من الغرابة) وإبعاده عن المألوف، وصل ذروته في نهاية القصيدة حيث نسمع صوت الأبناء المفجوعين وهم يحاولون التخفيف من شعور الأم بالذنب:
واضطررنا لإرضائها
بتشييع هذا الزر
إلى المقبرة
وإقامة مأتم عليه
تحولت أمي إلى إبرة
تخيط كل زر تجده أمامها
ومنذ تاريخها
لم نستطع أن ننزع
قمصاننا
لكثرة أزرارها
وإبرة أمي ما زالت تخيط
حتى ذاكرتنا .... !
وأبي مازال مفقودا(ص : 101 - 102)
ونستطيع القول انَّ جانباً مهما من جمالية هذه القصيدة يكمن في غرائبية اللغة السردية التي حفل بها المقطع الأخير منها، هذه الغرائبية التي تجسدت في النص من خلال عبارات منها: (تحولت أمي إلى إبرة)،(إبرة أمي ما زالت تخيط حتى ذاكرتنا)... مما لاشك فيه أنَّ متعة القارئ تزداد كلما جوبه بمثل هذه العبارات التي تشاكسه وتدعوه للولوج إلى عالم النص للبحث في أسراره وخفاياه..
بلا سماء
ذهب أبي إلى سواتِرها
ذهب ولم يعد
فتشنا في كل القوائم
الشهداء والأسرى
لم نعثر على أسمه
فسُجل مفقودا
وقد انتهت الحرب
منذ أعوام
ولكنها استعرت
في بيتنا
فأمي قبل ذهاب أبي
خاطت أزرار قميصه
إلا واحد نسته
ومن يومها
أخذت تحدثنا عن ذنبها
وأهمية هذا الزر
في حفظه من الأقدار
في الحروب
و...و
واضطررنا لإرضائها
بتشييع هذا الزر
إلى المقبرة
وإقامة مأتم عليه
تحولت أمي إلى إبرة
تخيط كل زر تجده أمامها
ومنذ تاريخها
لم نستطع أن ننزع
قمصاننا
لكثرة أزرارها
وإبرة أمي مازالت تخيط
حتى ذاكرتنا.....!
وأبي مازال مفقوداً
في أزرار أمي .
تحفل مجموعة الشاعر عباس باني المالكي (حين يهدأ الصمت) الصادرة عام 2010 بالعديد من الصور الشعرية المبتكرة التي توزعت على قصائدها، وربما نستطيع التأكيد أنَّ قصيدة (مأتم الأزرار) تعد أنموذجاً حياً لأسلوب الشاعر في ملاحقة الجزئيات والتفاصيل بغية استثمارها لإنتاج نصه الشعري.
أول ما يلفت الانتباه في هذه القصيدة بناؤها السردي الذي يعيد إلى الأذهان الحديث عن علاقة قصيدة النثر بالقصة القصيرة، هذه العلاقة التي أشار إليها أكثر من باحث، وفي مقدمتهم سوزان برنار في كتابها(قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا). وربما يوجز العنوان الذي اقترحه الشاعر(مأتم الأزرار) البعد الدلالي القاتم للقصيدة كلها، فالحديث السردي المهيمن في النص يقوم على الفقد وما يتبعه من مراسيم للحزن يمثلها(المأتم)، وتتحقق أول مظاهر الشعرية في النص من خلال هذا العنوان الذي يخرق أفق توقع القارئ عبر الانزياح المتحقق بإسناد لفظة(المأتم) إلى(الأزرار)، وهنـا بالتحديد تتشكل أولى أسئلة القراءة التي لا يمكن أنْ يجيب عنها المقطع الأول من القصيدة الذي جاء بلغة سردية أقرب إلى المباشرة :
حين جاءت الحرب بلا سماء
ذهب أبي إلى سواترها
ذهب ولم يعد
فتشنا في كل القوائم
الشهداء والأسرى
لم نعثر على اسمه فسجل مفقوداً (ص:9)
وبعد هذه اللغة المباشرة تتحول القصيدة إلى مستوى آخر عبر سعي واضح إلى شعرنة جزئيات الحدث(الزر) الذي يظهر بصورة التميمة التي تحمي صاحبها : فأمي قبل ذهاب أبي خاطت أزرار قميصه الا واحدا نسته ومن يومها خذت تحدثنا عن ذنبها وأهمية هذا الزر في حفظه من الأقدار في الحروب ومع تصاعد خطية القراءة تنفتح احتمالاتها وتتعدد إذ نلمح في المقطع السابق ابتعاداً جزئياً عن اللغة المباشرة المألوفة يزداد حدة في المقطع الذي يليه، حيث نلحظ سعياً واضحاً إلى تغريب الحدث (من الغرابة) وإبعاده عن المألوف، وصل ذروته في نهاية القصيدة حيث نسمع صوت الأبناء المفجوعين وهم يحاولون التخفيف من شعور الأم بالذنب:
واضطررنا لإرضائها
بتشييع هذا الزر
إلى المقبرة
وإقامة مأتم عليه
تحولت أمي إلى إبرة
تخيط كل زر تجده أمامها
ومنذ تاريخها
لم نستطع أن ننزع
قمصاننا
لكثرة أزرارها
وإبرة أمي ما زالت تخيط
حتى ذاكرتنا .... !
وأبي مازال مفقودا(ص : 101 - 102)
ونستطيع القول انَّ جانباً مهما من جمالية هذه القصيدة يكمن في غرائبية اللغة السردية التي حفل بها المقطع الأخير منها، هذه الغرائبية التي تجسدت في النص من خلال عبارات منها: (تحولت أمي إلى إبرة)،(إبرة أمي ما زالت تخيط حتى ذاكرتنا)... مما لاشك فيه أنَّ متعة القارئ تزداد كلما جوبه بمثل هذه العبارات التي تشاكسه وتدعوه للولوج إلى عالم النص للبحث في أسراره وخفاياه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق