لقد كانَ و لا يزالُ للأدب علاقة متينة بالحياة، فكلٌّ منهما يرتبط بالآخر ارتباطاً حتميّاً، لارتباط كليهما بالإنسان، و الإنسان هو الهدف و الوجود معاً، فكلّ ما يجري بالكون مسخّرٌ لأجله. و على ذلك فإنَّ قيمة الأدب مرتبطةٌ في مدى ارتباطه بحياة النّاس و همومهم و معاناتهم, و هذا النّوع من الأدب هو الذي يستمد قوة الوجود و يستحق الديمومة و الاستمرار.
فالأدب ليس شخصيّاً فحسب بل هو عامٌّ في غالب الأحيان، و حتى الشخصي منه، عندما يصل للنّاس يصبح عامّا. فالأديب لا يمثّل نفسه فقط، بل يمثل الواقع الذي يحيط به، و يعيش فيه، و يتحدّث باسمه. و كما كان شاعر القبيلة منذ عصر الجاهلية يمثّل صوت قبيلته، و ينطق باسمها، ذاكرا أمجادها و مدافعاً عنها، هو كذلك اليوم، يؤرّخ لبلاده، مسجّلاً معاناة أهلها، مفتخراً بأمجادها، راسماً مستقبلها. فالناقد الإنجليزي (كولردج) يقول: "الأدب هو نقد للحياة" بينما الأديب و الشاعر اللبناني ميخائيل نعيمة يقول، بأنّ " الشعر هو الحياة باكية و ضاحكة، ناطقة و صامتة، مولولة و مهللة، شاكية و مسبّحة، مقبلة و مدبرة
فهل الأدب فعلاً مرآة للواقع؟ أم انعكاس لموقف الأديب من هذا الواقع؟.
للإجابة عن هذينِ السؤالين سأنطلق ممّا أنا بصدد تقديمه للقرّاء، من كتاب ( ذاكرة من رماد ) أبدع كاتبه و هو يصوّر مأساة بلاده مؤرّخا و موثّقاً لأحداثٍ تركت في نفسه أثراً لا يُمْحى. فبين أيدينا ديوان للشّاعر أمين خديدا سيفو، شاعر لا زال طريَّ العود،. عاش مأساة بلاده و عاينها و تأثّر بها، حينما تعرّض وطنه، و مسقط رأسه، لأوحشِ مجزرة عرفتها البشريّة في العصر الحديث، على يد تنظيم الدّولة الإسلاميّة الإرهابي، الذي اقتحم بلاده سنجار (شنكال)، و ريفها بهمجيّة و وحشيّة، فاجتاحوا البلاد و أمعنوا فيها القتل و التّدمير، و الاعتقال و الاغتصاب للنّساء و الأطفال، مما ترك أثراً لا يُمحى في عقول و قلوب من عاش تلك الجائحة، و أخصُّ بالذّكر الشّعراء و الأدباء. حيث سالَتْ أقلامُهُم تصوّرُ الواقع المأساوي المرير الذي عانت منه بلادهم من تدمير و تكفير و قتل و اغتصاب و تعذيب.. و من هؤلاء الشّعراء الذين صوّروا مأساة بلادهم، و سلّطوا الضّوء على معاناة أهله و شعبه في تلك المنطقة الشّاعر أمين خديدا سيفو هذا الشّاعر الرّقيق المشاعر، و الذي عانى ضروباً من الألم و الحزن لما رأى و عاين، فإذا به يوثّق ما مرّ عليه، واصفاً بأسلوبه الإبداعيّ مجريات ما جرى بأسلوب بلاغي مدهش، فقد حمل الشّاعر همّ الوطن، فكان موجوداً في غالبيّة قصائده، فهو المختلف عن غير من عشّاق البلاد ، لأنه لم يبحث عن حبيبة ليراها، بل وضع الوطن في جيبه، و خبّأ شمس الحقيقة خلف حديقته، و زرع القمر بين نهدي القصيدة، راجياً لقاء جديد، لقاء يكون مشرقاً و وضّاءً يقول:
أمّا أنا فمخْتَلفٌ
عنهم تماماً ،
أضعُ الوطنَ في جيبي
و أخبِّئ الشّمسَ
خلفَ حديقتِنا
و ازرَعُ القمرَ
بين نهديِّ القصيدةِ
لعلّها تُثمِرُ لنا
لقاءً جديداً
و تراه في قصيدة أخرى يصوّر المأساة، و هجرة أهله و يشبهها بالمسافر على عجل، فهم لم يحملوا حقائبهم، و لم يوضبوا أنفسهم، فالجيوش تزحف ، و الحكّام الطّغاة تطلق الرّصاص العشوائي:
تَرَكْنا حقائِبَنا في
جيبِ الوَدَاع و رَسَمْنا
البعضَ بِالدُّخانِ ،
جيوشٌ تزحَفُ نحو
الحدودِ ،
و طُغاةٌ تَحْكُمُ
النّقاطَ بلا رَحْمَةٍ
رصاصاتٌ
تمرُّ عبر أَحشاءِ العشَّاقِ
فالجميع واقعون في حيرة فيما يحصل، متعبون حدّ التلاشي، فتاة تصفع وجه الليل، تبحث عن حبيبها الذي يتعذّب في الزّنازين، لا أمل في الأفق، لا شمس تبزغ، و لا قمر ينير،ليختم الفكرة بالترحّم على أمّة تدفن أمنيات شعبها:
جَميعُ المسافرينَ متعبونَ
حدَّ التّلاشِي
كجدارِ مَعْبدٍ قديمٍ ،
فتاةٌ تصفَعُ وَجْهَ
الظّلامِ لأجْلِ شابٍّ
مازالَ
في الزّنزانَةِ
يتعذّبُ منذ أوّلِ لقاءٍ،
لا بُزُوغَ شَمْسٍ
و لا ضوءَ قَمرٍ يُنيرُ
دروبَ الوَجعِ في القَصيدةِ ،
فكلُّ الحروفِ مُقَيّدةٌ
بسَلاسِلَ من آهٍ ،
سلاماً على أمّةٍ
تدفُنُ أُمْنِياتِ شعبِها
و يصل التّشاؤم و الإحباط ذروته في آخر النّص ، فكلّما توصّل لذاكرته، و تذكّر ما حدث، يحاول أن يهدأ، لكنّ دخان القهر و الغضب يتصاعد فوق أشجار روحه، مشبّها نفسه بغابة مهملة أو بمتسوّل أو كتلة من الحزن:
كلّما أتوصّلُ لذاكِرتي
كي تَهْدأَ
يَتَصاعَدُ الدّخانُ فوقَ
أشْجارِ روحي
كأنّي غابةٌ مهملةٌ
أو متسولٌ
أو كتلةٌ من الحزنِ
و في قصيدة تحت عنوان موت معجّل، يطالعنا الشّاعر بإبداعه الذي لا يتوقف ، متأوّها للسّنوات السّتّ التي مرّت و هو و غيره بين مطرقة النّزوح، و سندان التّهجير، بينما المقابر لا تزال تعصر الأرواح، صور جميلة ممتعة و مميزة، في لغة شعريّة تبعث الأمل في الروح:
آهٍ من سنواتِ
قَضَتْ
على أَعْمارِنا
بينَ مطرقَةِ النُّزُوحِ
و سِندانِ الهِجرة ،
سِتُّ سنواتٍ
و مازالَتْ
المقابِرُ تَعْصُرُ أَرواحاً
كادَت أنْ تَطيرَ
كالفراشاتِ
لقد تركت المأساة في قلب الشّاعر حزناً كبيراً، جعلته يصف حالته موجّهاً حديثه لأمّه، معرّفا بنفسه في لغة حزينة مؤلمة، فالحزنُ كثيفٌ، و الأحلام بطيئةٌ كالسّلحفاة، و إنّه مجموعة انكسارات و خيبات حيث يقول نثراً:
هذا الحُزْنُ كثيفٌ جدّاً،سلاماً لأحلامٍ كالسّلحفاةِ تُحاوِلُ الوصولَ إلى الضِّفَّةِ الأخرى ، سلاماً لغاباتِ الحزنِ و الشَّجَنِ .
أنا مجموعَةٌ من الانكساراتِ و الكثيرِ من الخَيْباتِ، و حقيبةٌ مليئةٌ برمادِ أمّي.
و من جميل ما جاء في ديوان الشاعر، و بسبب شدّة ألمه يتوجّه إلى الله معاتبا حيث ترك شعبه يموت تلك الميتة، و يراه مهزوماً أمام جنود الخلافة، الذين قتلوا و شرّعوا ما لا يُشرّع باسم الله و كفّروا النّاس لأنّهم لا يمجّدون الله بالسيف مثلهم، و تلك صورة مميزة ورائعة:
أصْبَحْنا يَتَامَى
حتَّى اللهُ تَرَكَنا
هناك بينَ جُنُودِ
الخِلافَةِ.
رَأَيْتُهُ يُهْزَمُ من شَرْعِ
البلادِ
كانَ خائِفاً
جِدّاً مِثْلَ أخْتِي
الْمُعَوَّقَة !
كُفّارٌ نحنُ في
مُعْتَقَدِهمْ لأنَّنا
لا نُمّجّدُ اللهَ بالسّيفِ ،
و رغم ذلك فإنّ هذا الإغراق بالحزن لا يستمر طويلاً، فتراه يطل علينا بين الفينة و الأخرى بجرعة من الأمل يختم بها نصا، أو لهفة روح تمرّ عابرة بين حروف القصيدة :
و تَبْقَى الابْتِسامَةُ
إحدَى أَسْرارِ
الواعِديَن
أو حين يرسل السلام لرمزه الطقسي (لالش) و مدينة أوروك و العتبة العباسية:
سلاماً لِظلالِ أَشْجارِ
النّخيلِ
و حُبّاً للعَتَبَةِ العَبّاسِيَّةِ
و سلاماً لأرضِ
لالِشَ حينَ
تَحْمِلُ في عُروقِها
نَسيمَ مدينةِ
أُوْرُوكَ السّومَرِيَّةِ
و في قصيدة " الحزن ضيف ثقيل" يبرز التفاؤل جليا في نبرة الشاعر، فهو يؤمن بأن هذا الحزن لن يدوم للأبد، و لسوف يزول، و إن تأخر قليلا:
أؤمنُ بأنَّ هذا
الحزْنَ
الكَثيفَ المتراكمَ
سيزولُ
و لو بعدَ حينٍ
و يبدو الإصرار على رفض الواقع المرير جليا، و هو يؤكد على أن الحياة لم تنتهي هنا فيطلب ممن حوله أن يحضنوا شنكال و يحملوا رأسها على أكتافهم، و أن يبكوا لبرهة ثم يبتسموا من أعماقهم حبّا بشنكال أمّتهم:
دَعُونا نحضُنُ شنكالنا
نَضَعُ رأسَها
على أكتافِنا
نَبْكِي لبُرْهَةٍ
ثمَّ نبتَسِمُ معها
من أعماقِنا
شنكالُ أمَّتُنا و إلهٌ فوقَنَا
هذا هو ديوان الشاعر أمين خديدا سيفو، صرخة من أعماق الجرح، خرجت مشحونةً بالألم و الوجع و الغضب، فجاءت قصائده معبّرةً عن المعاناة القاسية التي مرّ بها الأيزيديون مع اجتياح تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي لبلادهم و أرزاقهم و رموزهم الدينية، و ما تعرضوا له من أذى و ظلم، و بين الواقع الأليم الذي يحيوه الآن بانتظار الفرج القريب. فأبدع الشّاعر الشّاب أمين في التّوصيف و التّصوير، فجاءت أشعاره صورة كالأصل تُظهر ما حدث و ما جرى, فكان الدّيوان وثيقة تاريخيّة، و ثّقت بامتياز تلك الحقبة المريرة، و سلّطت الضوء على أناس ما هم بالبشر، و لا ينتمون إلى الإنسانية.
أختم بالحثّ على قراءة ما جاء بين دفّتي هذا الدّيوان، و أخذ العبرة ممّا فات وما قد يأتي.
عادل نايف البعيني
شاعر و ناقد سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق