عراء الرّوح ...
شعر : مصطفى الحاج حسين .
يتقيّؤني ظلّي
على رصيفِ الهباء
ذاكرتي تخمش انتظاري
أحاور عطش الصّمت
يا أجنحةَ السّراب احمليني
واصعدي صوب قهري
أُلامسُ نبض العماء
أقرعُ أجراسَ الاختناق
سأنثر على النّار خطاي
وأمضي في دروبِ العناء
وجعي يشعلُ فوانيس الاحتضار
فيا أيّها الحلم المسجّى
اِدخل من نوافذِ هروبي
واتّجه نحوَ عراء الرّوح
إسأل المدى عن ركامِ السّماء
الشّمس تتعثّر بعباءةِ الليل
والليلُ يتمسَّك بقبّعةِ العواء
أعطِ الهواء جرعةَ تنفّسٍ
للقلبِ فتات النّبض
للأرضِ دربٌ واحدٌ لا أمتطيهِ
يابلداً يسكنُ ارتحالي
ياقلعةً تنهضُ بسقوطي
ياصوتَ أمّي الذي يصرخُ
في غُصّتي
يترعرعُ في صوتي الرّماد
قصيدتي تذبح أشواقي
يناديني التّراب
سأغرسُ شهقتي فيهِ
لتنمو شتائل النّدى
أطول من قامةِ عشقي
أنا العاشق المصلوب
من لهاثهِ
أترنّح فوق بكائي .
-------------------------------------------------------
بقلم الأديب والناقد : علاء الدّين حسّو :
عراء الرّوح قصيدة للشاعر مصطفى الحاج حسين .
إن كانت الغربة هي الانتقال البدني من مكان
إلى مكان آخر، وباتت عرفاً في أدبياتنا
تحمل دلالات المعاناة والقهر السياسي
والاجتماعي والاقتصادي فإن الاغتراب
الذي يعبرعن الانتقال الروحي (النفسي)
وان كان البدن لم يغادر المكان، فهو انعزال
عن العالم والواقع المحيط به، بينما
الاستلاب هو فقد مادي وروحي . فكيف
الحال بما يعاني من الغربة والاغتراب
والاستلاب ؟
يقدم لنا الشاعر مصطفى الحاج حسين
قصيدة تفوح من كل حرف من حروفها
المعاناة النفسية والجسدية تنقل إلينا هذا
الشعور عبر انزياحات وتراكيب وصور
تخيلية تنقل براعة وصدق الشاعر في نقل
احساسه لنا فتحقق المتعة والفائدة
والمواساة .
يبدأ النص بانزياح مثير (يتقيّؤني ظلّي)
عادة يكون التقيؤ لاخراج الطعام من البطن
نتيجة التسمم أو لسبب آخر ، ولكن أن يقوم
الظل بلفظ الأصل فذلك يدل على الفقد
الكامل حسياً وروحياً، فظله لم يعد يعرفه،
ونبذه، وهنا الاغتراب الذي عرّفه هيجل
على أنه "فقد الإنسان لشخصيته الأولى".
ولكن هذا (اللفظ) أين يكون؟ يكون (على
رصيفِ الهباء ) في العدم فقد بات غباراً
تناثر في العدم .
ثم يعبر الشاعر عن ألمه وملله في الانتظار
بانزياحات جميلة وصادمة ترتقي في اللغة
والتركيب، فالذكريات سكين تجرح جسده
(ذاكرتي تخمش انتظاري )وهو غير القادر
على الحديث المجبر على السكوت وهو
ذاته الم في الحلق مثل الم العطش الذي
يسببه للحلق (أحاور عطش الصّمت ).
وهذة الفكرة الأولى للقصيدة .
وينتقل الشاعر بعدها إلى حقل الأمنيات،
وهي الفكرة الثانية للنص ، حيث يرغب من
طائر الخيال(السراب) أن يحلق به الى
السماء (العماء) ينقذه من القهر الذي يخنقه
مهما كان المسيرمتعباً وشاقاً وحارقاً مؤلماً .
فلم يعد يطيق هذه المعاناة، فألمه يكفي
لإطلاق الروح من الجسد، وهي الأمنية
التي بات يطلبها ليكون ثوباً يغطي الروح
العارية فيبلغ (المدى) حيث هي نهاية
الغاية . فقد بلغت المعاناة المتراكمة عنان
السماء، ولم يعد للعدل منفذ، وقد غطاه
الظلم برداءه المعتم، ودون اكتراث لصياح
المعذبين (العواء) .
ثم يخاطب المدينة التي استقر فيها، وهي
الفكرة الثالثة في النص، بأن تمنحه الفرصة
(جرعة الهواء) لتحقيق الأمنية وتفسح له
الطريق وهو المقلوع من جذوره ويرغب
العودة إلى وطنه (قلعة تنهض بسقوطي)
فالقلعة هنا ليس المقصود منها الحصن
المنيع بل ما يقلع من جذوره كالنخلة،
ويطلب العودة إلى البلد الأم (صوت أمي
الذي يصرخ) ليدفن فيها .فهي تناديه وهناك
أمنيته وأمله ومستقبله وجذوره وكان
عودته للحياة من جديد (سأغرسُ شهقتي
فيهِ .. لتنمو شتائل النّدى).
لقد استطاع الشاعر في قصيدته بدئاً من
العنوان الموفق الذي كان رديفاً للقصيدة،
ومجملاً للمحتوى، كاد أن يكون بحد ذاته
قصيدة منفردة ومفاتحا لفهم القصيدة،
وحقق شروط القصدية الحديثة حيث
وظف جمالية الشكل لنقل المضون فحقق
الفائدة والمتعة .
عنتاب 04/07/2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق