أبحث عن موضوع
الخميس، 18 مايو 2023
الكاتب والناقد الفسطيني _ رائد محمد الحواري _ الكتابة والسجن، عالم الكتابة في السجن للاديب كميل أبو حنيش
أهمية أي كتاب تكمن في الشكل الأدبي الذي قدم به، وبالمحتوى/ بالمعرفة/ بالمضمون الذي يحمله، وأن يأتي كتاب يكشف لنا كيف يتم تمرد الأسير/ الكاتب/ الأديب على السجان وتجاوزه للجدران فهذا يعد أمر بالغ الأهمية، فسجون الاحتلال تعد أكثر تحصينا وبطشا من سجن الباستيل، وما يمارسه الاحتلال بحق الأسرى أكثر وحشية مما مارسه النازي بحق الآخرين، ومع هذا نجد هناك كما ونوعية من الإصدارات الأدبية والفكرية تخرج من هذا السجون، فكيف يتم كتابتها؟ وما هي العلاقة بين الكاتب/ الأسير وما ينتجه من أعمال أدبية/ كتب؟ وكيف يتم إخراجها من بين الجدران؟ وكيف يتم إيصالها لينا؟ كل هذا يجيب عنه الأديب "كميل لأبو حنيش" في "الكتابة والسجن".
الكتاب مكون من سبع وعشرين حلقة، تتناول كافة الأعمال الأدبية التي كتبها كميل أبو حنيش، إضافة إلى علاقة الأديب بالأدباء والنقاد والأصدقاء الذين تركوا أثرا فيه، وساهموا في إيصال/ خروج أعماله إلى الحياة، من هنا نجد ذكر لأكثر من مائة شخصية، فنجد الوفاء لهم ولدورهم حتى للذين رحلوا واستشهدوا، "فالكتابة والسجن" يعد مثلا للإخلاص والوفاء واحترام كل من قدم ويقدم لفلسطين ولشعبها.
في الحقلة الأولى يبين الأديب الكتب التي أصدرها ووصلت إلى القارئ: "وأنجزت حتى الأن ما يربو على خمسة عشر كتابا متنوعا في حقول السياسة والأدب والفكر فضلا عن نشر عشرات المقالات والدراسات السياسية والأدبية، وقصائد الشعر التي تناهز (190) مقالة ودراسة وقصيدة شعرية، يبدو أن هذا الاحتفاء الكتابي لا ينطوي على التفاخر بالإنجاز بقدر ما يعكس ألوانا من المعاناة" ص10، رغم أهمية المعلومة التي يقدمها "كميل أبو حنيش" إلا الفقرة الأخيرة هي المهمة، والتي تبين أن الكاتبة (هي رد فعل على السجن والسجان) وإنها تخرج كتعبير عن الألم/ المعاناة التي يتعرض لها الأسير.
ويتحدث عن الكتابة كشيء مستقل عن الأسير/ الأديب بقوله: "...كما أنها مثلي تعرضت للقمع والتنكيل والملاحقة والاحتجاز، غير أنها كانت أيضا عنيدة مثلي مصرة على الولادة والانعتاق، إذ رغم احتجازها لأشهر أو ضياعها، تظل تصرخ وتتحدى، ولها نداؤها السري الذي كان يحثني أن أظل ألاحقها، إلى أن تعود من جديد، لأعيد إنجازها وتسريبها خارج الجدران" ص11، اللافت في هذه الفقرة أنها تشير إلى أن الكتابة بالنسبة للأديب/ الأسير بمثابة ولد/ مولد له، لكنه مستقل عنه، لهذا نجده يحرص على الاعتناء به وإبقاءه حيا خارج الجدران، من هنا سنجد أن العلاقة بين الأسير/ الأديب وما يكتبه علاقة توحد وتماهي، وهذا ما انعكس عليه بحيث كان حريصا على كتبه/ إنتاجه كحرصه على حياته.
فنية الكتابة
في الحقلة الثانية يتحدث الأديب عن الكتابة وكيف ينظر إليها فيقول: "إنها فن ورسالة يسعى الكاتب المناضل من خلالها للتأثير في الناس، فالكتابة تنطوي على رسائل موجهة للجمهور، موجهة للأعداء والأصدقاء، للبسطاء والمثقفين، للرجال والنساء والأطفال والشيوخ، والفئات والقطاعات كافة" ص18، اللافت في هذه النظرة للكتابة أن الأسير يبين أنها فن ورسالة" وهو يقدم الفنية/ الأدبية على المضمون/ الفكرة وهذا يشير إلى اهتمامه بالشكل كاهتمامه بالمضمون.
يؤكد الأديب الناحية الإبداعية في الكتبة في الحقلة الثالثة قائلا: "...لذا يصل الكاتب إلى قناعة أن الكتابة من قلب السجن تنطوي على مسؤولية وعلى رسالة، ولهذا يتعين عليها أن تمتلك شرط الإبداع" ص27، من هنا ليس المطلوب الاهتمام بالفكرة/ بالمضمون فحسب، بل يجب إعطاء الجانب الفني/ الأدبي مكانته لكي يكون العمل مقبولا من الجمهور، فالأديب هنا لم يعد يهتم بالفكرة المجرد بفدر الشكل الأدبي الذي تخرج فيه، وهذا ما جعل أدب الأسرى في فلسطين يصل بشكله وفنيته إلى مستوى العالمية.
قد يقول قائل إن "الفنية" التي تحدث عنها الأسير /الأديب جاءت بصورة عابرة، ويرد "كميل أبو حنيش" بصورة قاطعة على هذا القول في الحقلة العاشرة" قائلا: "...وبالكاد كنا نستطيع التوفيق بين المهام التنظيمية والاعتقالية وبين الدراسات الأكاديمية، أما الكتابة الإبداعية فكانت مؤجلة إلى حين أن تتراجع الضغوط الممارسة بحقنا" ص61، بهذا التوضيح يتم حسم فكرة أن الأدباء الأسرى يعرفون أن الإنتاج الأدبي له معايير ومواصفات تختلف عن الدراسات والأبحاث، وهذا ما جعل إنتاجهم متميزا ولافتا، فقد اعتنوا بنواحي الجمالية والفنية فكان ما أنتجوه ممتعا/ جميلا، وهذا ما جذب القراء لما ينتجونه من أدب بصرف النظر عن تعاطفه معهم كأسرى وكمناضلين.
دور الكتابة ولمن يكتب الأسرى
وعندما قال أنها "رسالة موجهة للأعداء" كان يعي ما معنى/ أهمية أن يتم إنتاج أعمال أدبية/ فكرية من داخل الأسرى: "ويدرك السجان خطورة ما ينتجه الأسرى من كتابات داخل السجن خاصة إذ كانت هذه الكتابات تحمل إبداعا يحظى بالانتشار، لأنه من زاوية يثبت فشل الاحتلال في هزيمة الإرادة الفلسطينية، ومحاربة كي وعيها، وفي تدجين الإنسان الفلسطيني بإخضاعه للإجراءات التنكيلية القاسية" ص21، الأهم في هذا المقطع يكمن في توضيح فكرة "الكتابة الإبداعية" ودورها المزدوج في هزيمة السجان وانتصار الأسرى، وهذا ما يجعل الكتابة فعل مقاوم، فعندما ينتج أي عمل أدبي ويخرج للحياة من وراء القضبان والجدران فهذا يعني أن الأسير حي، فكما يتم تهريب النطفة من الأسير يتم تهريب الكتابة ليكون له وارثا/ وليدا يحمل أسمه وفكره وأخلاقه.
لكتابة تماثل الولادة
من يكتب يعلم جيدا أن الكتابة تتماثل مع حالة الولادة، لهذا نجد الكاتب متلهف لإخراج عمله للحياة، فيكون متشوقا / ملهوفا لخروج هذا الكائن للحياة، هذا حال الكاتب (الطليق/ الحر) فما بالنا بالكاتب الأسير؟
يتناول "كميل أبو حنيش" الكتابة في أكثر من موضع منها: "وتمثل عملية تسريب المادة المكتوبة إلى خارج السجن هاجسا خامسا في سلسلة الهواجس" ص27، نلاحظ أن هناك (خوفا/ هاجسا/ ترقبا) يلاحق الأديب في كيفية خروج مولوده للخارج/ للحياة.
من هنا عندما يفقد الأديب/ الأسير عمليا أدبيا بسبب التنقلات أو بسبب مصادرة الاحتلال له يكون حال الأديب:
" العالم البني
سيفاجأ العديد من الأصدقاء والمقربين بعوان هذا الكتاب، الذي لم يسمعوا به من قبل، لأنه لم ير النور أولا، ولأنني لا أزال مفجوعا بفقدانه، كمن فقد عزيزا عليه ويحجم عن ذكره، لئلا يظل في دوامة الحزن والفقدان" ص55، اللافت في هذه المقطع تأكيده لشكل العلاقة التي تربط الأسير بالكتاب، فهي يبقى متألما/ حزينا بمن فُقد.
ويؤكد على هذا الحزن والألم: "وها أنا أذكره لأمنحه على الأقل بعضا من حياة الاسم، حتى وإن لم يحي يوما ككتاب، له حضوره مع بقية الإصدارات" ص57، إذن علاقة الكاتب بالكتاب عي علاقة الأم بولدها، من هنا يكون الحرص والحب والعطاء حاضرا وعند الغياب/ الفقد يكون الحزن والألم حضرا ومستديما.
كما يحب الأب/ الأم أن يرو مولودهم/ ابنهم يحب الأسير/ الأديب أن يرى مولوده/ إنتاجه يحدثنا الكاتب عن هذه الأمر في الحلقة الحادية عشرة بقولة عن رواية الكبسولة: "حظيت الرواية باستحسان الكثير من القراء، وكتب عنه العديد من النقاد والمختصين، .. غير أن صاحبها لأسير لم يحظ بنسخة منها إلا في نهاية عام 2019، أي بعد عامين من صدورها، حيث صودرت ومنع إدخالها أكثر من خمس مرات إلى سجن "هدريم" و"ريمون" إلى أن تمكنت أخيرا من إدخالها" ص68، بهذا الشكل تكتمل فكرة الولاد الأدبية مع الولاة الحقيقية، وتتضح فكرة الحب الذي يكنه الوالد/ الكاتب لمولوده الأدبي.
فقدان الكتاب
في السجن من الطبيعي أن يتم مصادرة ما يُكتب من السجان، أو ضياعه بسبب التنقلات أو بسبب التفتيش الذي تقوم به قوات الاحتلال، فعندما يفقد الأسير ما كتبه يصاب بحالة نفسية صعبة، حتى أنه لا يتقبل فكرة الفقدان ويبقى متعلقا باسترجاع ما فقده، يحدثنا كميل أبو حنيش عن ضياع وفقدان ما يكتبه في أكثر من حلقة، منها الحقلة الثانية عشرة التي تتحدث عن رواية "وجع بلا قرار" التي يقول عن فقدانها: "ورغم هذه الخسائر المادية، لم أسمح لهذه الإجراءات الانتقالية أن تفسد سعادتي بانتصار الإضراب، لكن همي كان منصبا على العثور على أوراقي وعلى الرواية تحديدا" ص71، وعن بحثه "دولة بلا هوية" الذي جاء في الحقلة الثامنة عشرة يقول عن فقدانها: "... لا أزال أعاني عرجا في المشي جراء الإصابة وشككت بأن ثمة كسر في قدمي، ولكن همي كان منصبا على العثور على أوراقي والخشية من تعرض كراسات المادة الجديدة للإتلاف أو الضياع" ص109، في الحالة الأولى نجد الأسير/ الأديب يتجاهل حالة الفرح والانتصار الذي تحقق بسبب هاجس فقدان رواية وجع بلا قرار، وفي الحالة الثانية يتجاهل ألمه الجسدي والمتمثل بوجود كسور في رجلة ليحمل هم فقدان/ ضياع/ تلف المادة البحثية التي كتبها.
فنسيان/ تجاهل الفرح والألم بسبب الكتابة يؤكد أن الأسير يعتبر الكتابة أهم شيء/ فعل/ عمل يقوم به، فمن خلالها يحقق انتصاره ويجد ذاته المقاومة والمستمرة في مقاومتها، هكذا هي الكتاب عند الأسرى.
القراءة
كل كاتب قارئ في الأساس، والقراءة هي البداية/ النطفة التي تشكل الأديب، يبين لنا "كميل أبو حنيش أهمية ودور القراءة في الحقلة الخامسة حيث يقول: "...حيث أن القراءة والمطالعة في عالم السجن لا تقتصر على غايات تحصيل المعرفة والثقافة، وملكة الكتابة وحسب، وإنما باتت وسيلة للحفاظ على القدرات العقلية، ، وامتلاك القدرة على مواجهة السجان وإجراءاته اليومية والحيلولة دون تسريب فكرة السجن القاتلة إلى أعماق السجين" ص35، ما يحسب لهذه الفقرة أنها تكمل حلقة/ دائرة الأدب، فالكاتب لا يكون كاتبا دون قراءة.
ويفتح لنا باب القراءة بقوله: "إن التنوع في المطالعة يعكس تنوعا في المعرفية والثقافة، ويحرر القارئ من إشكالية الثقافة أحادية البعد" ص36، وهنا تكمن أهمية الفقيرة التي توضح أن التنوع والتعدد المعرفي والثقافي هو من يوجد/ يخلق الإنسان المتحرر والحر من قيود الروتين والأفكار الجامدة.
.
كيف يتم إخراج كتابات الأسرى؟
بداية كانت الكبسولة التي يبتلعها الأسير المحرر أو المنقول إلى سجن آخر، وبعد أن يصل غلى المكان الجديد يخرجها، لكن هذه الطريقة كانت مقتصرة على المواد الفكرية والتنظيمية الخاصة بالأسرى، ونادرا ما كانت تحتوي على مواد أدبية، أما عن الأدب والنصوص والقصائد والقصص والروايات وكيفي يتم إخراجها للحياة يقول: "... إخراج هذه الكتابات عبر الهواتف المهربة"ص12، هذه إحدى الوسائل التي يستخدمها الأسرى، ويضاف إليها: "...فقد علمت أنه يسمح بإخراج المواد المكتوبة مع الأسرى المحررين دون تفتيش أو مصادرة" ص67، طبعا هذا حصل مع أن خاض الأسرى معارك عديدة وطويلة مع إدارة السجون، قبل أن يحصلوا على هذا الإنجاز، حرية إخراج المواد المكتوبة دون مصادرة.
الوفاء
قلنا أن الأديب يذكر أكثر من مائة شخصية فهو وفي لهؤلاء الذين قاموا بواجبهم ودورهم تجاه الأسرى وتجاه "كميل أبو حنيش" لكنه أيضا يذكر رفاقه الشهداء: "ولا يفوتني أن أذكر الشهداء الذين شكلوا على الدوام مصدر إلهام وإسعاد معنوي، يامن فرج، وفادي حنني، وجبريل عواد، وأمجد مليطات، وعماد كبروك، وربحي حداد، وسامح أبو حنيش" ص15، وإذا علمنا أن رواية "الجهة السابعة" تذكر هؤلاء وتتحدث عنهم كشخصيات روائية، نعلم حجم الوفاء الذي يحمله الأديب لمن ضحوا وراحوا.
السياسة
بما أن الأسرى يتبعون تنظيمات وفصائل سياسية فلسطينية أو قومية عربية، فكان لا بد من تناول شيء من السياسة، يحدثنا الأسير عن السياسة من خلال عقوبة تعرض لها بسبب: "...وعلى الطريق أبلغني ضابط استخبارات السجون، حين أبديت استغرابي من عدم نقلي على مقالات تتناول الشؤون الإسرائيلية بالنقد والتحليل، بينما يجري نقلي لأنني انتقد الدول العربية المهرولة للتطبيع، قائلا: بإمكانك أن تنتقد إسرائيل وتشتم قادتها، لكن ليس مسموح لك بانتقاد هذه الدول وزعمائها؟" ص133، وهذه إشارة إلى الود الذي يحمله المحتل للدول العربية المطبعة التي تعمل لخدمة دولة الاحتلال وإظهارها على أنها دولة طبيعية/ عادية في المنطقة.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق