بعد تردُّدٍ طويل انتسبت لجلسات العلاج، حجزتُ مِقعد أونلاين من حساب وهمي تَحَسُّبًا لآرائي المُتقَلِّبة.
في ذاك اليوم، وضعتُ نظارة وغطيتُ وجهي مُتحَجِّجًا بالبرد رُغم أنّي أعيشُ وحدي ولن يسألَني جارُنا، هو لم ينتَبِه يومًا لمروري. أوقفتُ سيّارة الأُجرة ولم أُخبِره عن وجهَتي واكتفيت بجُملَة "أكمل طريقك" ، لم أجرُؤ أن أطلُب منه أن يُنزِلني عند العيادة ولا حتى على ذِكر مكانها، أوقفتُه بعيداً عنها ما يقارب الخمس دقائق من المشي، رُغم أنّهُ لا يعرِفُني وملامحي مُتَخفِّيَة تحت هذه الكوفية.
فعلتُها، أخبرتُ نفسي أنني خاسِرٌ على أيَّةِ حال، ودَخلت.
شابان وسِتُّ نساء ، إحداهُنَّ مُتعبة أكثر من أيِّ أحدٍ بيننا لكنّها تبتسم وكأنّها تُحاوِل ان تختزِلَ شيئا من سعادتِها لأجلنا.
ثم أردَفت: كيف حالُكُم؟ "بغير الخير، أسوأ ما يُرام، أتعَبُ من ملامِحِنا وأحياء".
كانت هذه المُتعبة هي الطبيبة، لا أعرِفُ كم فاجِعة تجرَّعت أُذُناها لِيَصِلَ بها الحال إلى هُنا، لكنّها بِحجمِ هذه الفواجع والمآسي ونَحن، تبتَسِم.
راح كُلّ واحد مِنّا يقُصُّ آلام الفقد من ابن، حبيب، شرف، طرف.. وصولاً إلى اكتفاء من الحياة ورغبة بوضع حدٍّ لها.
لم تَعُد أفواهُنا تصمُت كخلِيّةِ نحلٍ لا تهدأ، نحلٍ بِعسلٍ مُرٍّ.. إلّا رجلاً لم ألحظ عليه تعباً ولا ألماً ولا خوفاً لم يقُل شيئًا قط، حسِبتُهُ حائطا دخل المكان عن طريق الخطأ وسُجِن على الكُرسي بلا قيود.. ثُمّ تلاشت أصواتُنا شيئا فشيئا وكأن جراحنا أُفرِغت. طَلَبت الطبيبة رأيُه بآلامِنا، لا أعرِفُ من أين استحصلت على صلاحية تقييم أحزاننا لكنني لم أُعلِّق.
ردَّ بصوته المبحوح :
أتعرفين ! شعبُنا مريض، جيِّدٌ أنهم ما عادوا يكذبون، يُخبرونكِ بأن قلوبَهُم مُتعبة أو تتألم وقد يصل التعبير إلى أنها تُعاني تَهَشُّمًا في الروح، أجسادُنا هَشّة ما عادت تُغريها الحياة، لكنّي ما سمِعتُ أحدا يقول دمي يؤلِمُني، قد يشعُر أبطال المرض الخبيث بهذا، أرجو عفوهم إن شعروا بأنِّي أفرط بالشعور أو أُبالِغ، لكِنَّ دمي يؤلمُني ولا أجِد وصفا أكثر (وصمَتْ).. حمل روحَه ورحل.
أيُّنا أكثر انطفاء وألماً !
لا أعرف، لكنِّي خلعتُ الكوفية والنظارات وعُدت للحياة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق