أتذكرُ يابنَ أمِّي حين كنَّا أرواحاً بيضاءَ في حضنِ الإله ؟ و كانت الوفرةُ تضُّمنا كنهرٍ يتدفَّقُ عطراً ، كنتَ أنتَ طفلَ الحبِّ وكنتُ نحلتكَ الرشيقةَ ، تشاكسها تارةً و تلثمُ خدها تارةً أخرى ، فتدورُ بين الخمائلُ حاملةً لك العسلَ والفرحَ .
أتذكرُ كيف كنَّا أرواحاً تتعانقُ في حضرةِ الله ؟ نرتِّلُ له أناشيدَ التسبيحِ مع الملائكةِ قبلَ أنْ يصوغنا الربُّ من الترابِ أجساداً بغايةِ الدهشةِ والإبداع وبعمرِ الزَّهرِ ،
كانَ قلبكَ يزدحمُ بالأقماحِ والياقوتِ ، وكانت سواقي الحنينِ بصدري تركضُ نحوكَ بسرورٍ ، تحلمُ بغرفةِ من بيادرِكَ الثرةِ ، وتطمعُ بخاتمِ الفيروزِ في مملكتكَ المقدَّسةِ .
ياللحسرةِ ! اليومَ خميلةُ الشَّوقِ عاريةُ يابسةٌ ، كشجرةِ لوزٍ صفعتها رياح الخريفِ، فلم يبقَ منها أيَّ ثمرٍ ،الأخاديدُ تزنِّرُ جذعها الجميلَ ، و هي التي بقيت تترنحُ بنسائم حبِّك منذُ إغماضتين وفراقٍ .
ماذا دهاكَ يا أخي ؟ حتى تمدَّدَ الخريفُ على جسدكَ البهيِّ الذي صاغهُ الله بأنامل الأناقة و أحاطهُ بأسرار الجمال
هل أغرتكَ قبائلُ الطمعِ ؟ فصممتَ أسماعكَ عن ألحاني
و أدرتَ ظهركَ لنداءِ طفولتي حين عصفَ بي الشتاءُ القارسُ .
ياصديقَ روحي ، صناديقُ المالِ وبريقُ السياسةِ زبدُ البحرِ
و كنوز التواضعِ والرحمةِ وحدهما سلَّمٌ يرتقي بكَ إلى العلياء .
فازرعْ بذورَ التسامحِ والإخاء في ثرى النفوسِ تفضْ دنانكَ بالخمر المقدس ، و تمتلئ خوابيكَ بالتمرِ والزبيبِ
انظرْ أخي، كيفَ تشرَّدَ الوفاءُ و ثكلَ الجمالُ حين ابتعدنا عن مركز النورِ ؛ كلُّ غبطةٍ تنقصُ في وطني إلاَّ الأحزانُ فهي تتسعُ ، و كلُّ الأحلامِ تذبلُ وتطفرُ كأوراقِ الخريفِ إلاَّ الفقرُ فإنَّه يورقُ ، ويبقى نضراً كشجرةِ الصنوبرِ في كلِّ الفصولِ .
حتى فصولُ السَّنةِ تتبدلُ تمرُّ سريعةً إلاَّ الجوعُ والقهرُ فيوطِّدُ خيامهُ ويبني مستعمراتٍ جديدة يستوطنُ بها .
مهرجانات الفن والجمال تتوقفُ على أعتابِ وطني إلاَّ مهرجانات الألم لا أحد يوقفها على حاجز المحبةِ
كلُّ رحلةٍ نحو الحياةِ عليها بطاقةٌ حمراءُ تحتاج لجوازِ مرورٍ إلا مراكبُ الموتِ عليها بطاقةٌ خضراءُ
ألا ترى أنَّ الدموعَ لاتجفُّ في وطني ، و أنَّ الجراحُ لاتلتئمُ بل تبقى طريةً دائما
اترك أحلافَ القتلةِ والمجرمين ، ابتعد عن بوارج السياسة العنيفةِ ، واركبْ جواد الإنسانية الأصيل فهو طريقُ السَّلامِ الوحيدُ الذي بجمالك يليقُ .
—————-
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق