عامان مرّا على تخرج إبراهيم في الجامعة، أدمن فيهما تقليب الصفحات الداخلية للصحف اليومية متعقبا إعلانات التوظيف، مدققا في عناوينها، مجشما نفسه عناء الوصول لمكان الإعلان مهما بعد، مستفسرا ومستوضحا عن أمور يمكن الاستفسار عنها هاتفيا، بدل تحمل مشقة الوصول إليها. بل إنه ليتابع على وجه الخصوص إعلانات الأماكن النائية، لاعتقاده أن كثيرا من طالبي الوظيفة لا يعيرونها اهتماما، فهم لا يبحثون عن الوظيفة إلا من باب رفع العتب أمام ذويهم، كما أنهم يدللون أنفسهم كثيرا، فلا يقبلون إلا على الأماكن القريبة من مساكنهم، والتي لا تحملهم عنتا بمشقة مواصلاتها، ووعثاء السفر إليها. مؤملا نفسه أن يكون حظه أوفر في الأماكن النائية .
عامان بطولهما انقضيا، غرس إبراهيم فيهما نظره في آلاف الإعلانات، وتقدم بمئات الطلبات مرفقا معظمها بالصور المطلوبة والمصدقة للمؤهلات العلمية والتربوية، وأجرى عشرات المقابلات الشخصية، بل وألقى عشرات الدروس التجريبية أمام لجان الاختيار في المدارس الخاصة، وكان في جميعها مبدعا متألقا في مادته وأسلوبه، وقدرته على إدارة الصف وجذب الطلبة إليه، وانتهت كل تلك
المقابلات بالبسمات الواعدة والمطمئنة التي تعقبها الإجابة المكررة:
- سنتصل بك إن وقع عليك الاختيار.
وظل ينتظر عامين كاملين لم يتصل به فيهما أحد، وكثيرا ما كان يراجع المؤسسة نفسها مستفسرا عما إذا كانت نتيجة المقابلات قد ظهرت، وهـو إنما يقصد أن يذكرهم بنفسه وبطلبه وببلائه الحسن أثناء المقابلة، فربما يكون طلبه قد نُسي في درج طاولة، أو أن اسمه قد سقط سهوا فيذكر بنفسه، فلا يتلقى إلا الجواب عينه:
- تابع الصحف، إعلاناتنا تظهر في الصحف، أو نتصل بك هاتفيا عند الحاجة.
لا يعير إبراهيم أدنى اهتمام للإشاعات المغرضة التي يطلقها المرجفون، من أن هذه الإعلانات كلها شكلية ودعائية، وأن التعيين يكون قد سبق الإعلان بمدة طويلة وأن المؤهل الوحيد الذي يعتد به هو الواسطة وحدها.
لا تفت هذه الدعايات في عضد إبراهيم، وهو يواصل تقديم طلباته بنفس الهمة العالية، ويعتقد أن أصحاب هذه الدعايات إنما هم من الكسالى، الذين يبررون ضعـف مستواهم وفشلهم في المقابلات، فيسعون لإحباط غيرهم.
يعود كل مرة بخفي إبراهيم اللذين اهتريا من طول المسير، ولا يجد ما يجددهما به، وليس بخفي حنين كما يقول المثل، ولا يحير جوابا يرد به على استفسارات أمه وأخواته، اللاتي أمضين نهارهن في انتظارعودته، مؤملات أن يفتحها الله في وجهه، وأن يتعلق بخيط وظيفة مهما كان واهيا، فقد بتن يخشين عليه قعوده عاطلا عن العمل، وتأثير ذلك على نفسيته أكثر مما يخشين على أنفسهن وحاجتهن.
قبيل نهاية العام الدراسي في شهري نيسان وأيار، يحل موسم الإعلانات المدرسية، فتتبارى المدارس في إعلاناتها، وتزدحم صفحات الجرائد بإعلانات التوظيف من كل حجم ولون وعبارة مستملحة جذابة.
يفتح الإعلان صدره العريض لمزايا المدرسة، بدءًا من مرافقها الترفيهية العصرية، ورياضاتها المتنوعة: من الفروسية إلى إجادة فن العوم في أرقى المسابح الحديثة، ثم يثني بالثناء على هيئتها الإدارية، وفلسفتها التربوية الملتزمة دينيا ووطنيا، واعتمادها أحدث الأساليب التربوية العصرية، ثم يوجز في ذيل الإعلان عن حاجة المدرسة لمدرسين ومدرسات من كافة التخصصات، مشترطا الكفاءة والخبرة والفتوة، محذرا من هم فوق سن الخمسين من التقدم بطلباتهم، ولا ينسى اشتراط شهادة I.C.D.L لضرورتها الملحة في زمن الحاسوب و الإنترنت و العولمة.
يركض إبراهيم في هذا الموسم ركضا، ليتمكن من تقديم أكبر عدد من الطلبات.
يسري كل يوم من قريته البعيدة، و يظل حتى الثانية بعد الظهرمتنقلا بين احياء العاصمة من مدرسة إلى اخرى، مؤملا نفسه أن ينال في الموسم الثالث ما لم ينله في الموسمين السابقين.
لا يدري لماذا تفاءل كثيرا عندما طالع إعلان (مدرسة الطريق القويم)، فلعل اسمها قد جذبه، فيمم وجهه شطرها مبكرا فور قراءته الإعلان، وهو يُمني نفسه أن تكون اسما على مُسمّى، وأن يكون له فيها نصيب.
ملأ طلب التوظيف ببياناته الشخصية ومؤهلاته العلمية، وسلمه للموظف المختص
ولم ينس الاستفسار عن موعد إجراء المقابلات. أجابه الموظف بعد أن سأله إن كان قد ملأ الخانة الأخيرة حول أدنى راتب يقبل به:
- تابع الصحف، ستعلن المواعيد في الصحف اليومية.
واستمر على متابعته الصحف اليومية، فهو يفعلها باستمرار دون أن يطلب أحد منه ذلك، فهي نافذته الوحيدة التي ينظر منها إلى الوظيفة وإلى الدنيا كلها، وليس له إلا الوقوف أمامها مهما أوصدت، حتى تنفتح له ذات يوم.
وصدقت (مدرسة الطريق القويم) وعـدها، فلم ينقض أسبوعان حتى أعلنت عن موعد إجراء المقابلات الشخصية لطالبي الوظائف، مخصصة يومين لكل مادة. كعادته كان إبراهيم أول الواصلين إلى المدرسة، فلم يستمع لنصائح الناصحين الذين اقترحوا عليه أن يذهب آخر الدوام، عندما تكون لجنة المقابلة قد فترت همتها وصارت تختصر الوقت وتقلل الأسئلة، بدل الذهاب صباحا واللجنة على أتم الاستعداد، قد شحذت عزمها وسنَّت أسلحتها بكل سؤال معقد وعقيم، تستعرض به عضلاتها وتدعي تميزا وعلوا على سائرالممتحنين.
أجرى المقابلة بنجاح وجرأة اكتسبهما من طول خبرة في مثل هذه المقابلات، وأحس بالرضا التام عن أدائه، وأمّل نفسه أن يكون من أوائل المقبولين.
وبدافع من طمأنينته تلك تشجع لسؤال أعضاء اللجنة عن موعد ظهور النتائج، حيث تلقى الجواب المعتاد:
- ستظهر الأسماء في الصحف، أو نتصل بكم هاتفيا.
عاد إبراهيم أدراجه إلى قريته وهو يؤمل خيرا، وقــد اطمأن لهذه المقابلة أكثر من غيرها، لكنه مع ذلك لم يفصح عن شعوره لأحد، فقد تعلم بخبرته القصيرة (أن يحذر الفرح، لأن خيانته قاسية).
لما طال على إبراهيم الأمد، ولم يظهر اسمه في الجريدة، ولم يتصل به أحد، قرر أن يفعلها كعادته، أن يذهب بنفسه للمدرسة مستفسرا ومذكرا بنفسه و بطلبه.
كانت هيئة المديرين تعقد اجتماعا عندما وصل إبراهيم إلى المدرسة.
ربما لإلقاء النظرة الأخيرة على الأسماء المرشحة للقبول قبل إعلانها، هكـذا حدث إبراهيم نفسه، ولم يشأ أن يكـدر على المجتمعين خلوتهم بسؤاله، فجلس في غـرفة مجاورة للإدارة، منتظرا أن ينفض اجتماعهم ليبادرهم بالسؤال عن طلبه، إن كان بين المرشحين للوظيفة. لكن أصواتهم المختلطة كانت تصل إلى مسامعه، وهو في الغرفة المجاورة دون أن يشعر بوجوده أحد، إلا الفـرّاش الذي أومأ إليه بالجلوس منتظرا في الغرفة. يرتفع صوت أحدهم معددا مزايا الخطة:
- أرأيتم ما عاد به علينا الإعلان في الصحف؟ أسبوعان من تقديم الطلبات، وأسبوعان من المقابلات والمدرسة كأنها ميدان الطرف الأغـر، مئات من المدرسين والمراجعين اصطفوا بباب المدرسة، بعضهم جاء من مدن وقرى بعيدة. حراك ملأ الشـارع كله، ولفت أنظار الجميع إلى مدرستنا الناشئة. ويضيف آخر:
- وكل من حضر أخبر أهله وأصدقاءه بموقع المدرسة، ولفت نظرهم إلى مزاياها المعلنة المتعددة.
- ترى كم طالب سيلتحق بالمدرسة نتيجة لهذا الإعلان؟ أنسيتم إعلان السـنة الماضية وكم أسهم في تنشيط الحركة، و في جذب طلبة جدد؟
- وتقول لي يا أبا خليل لا ضرورة للإعلان، نحن لا نحتاج لمدرسين، ومدرسو المدرسة عددهم كاف، ولم يستقل منهم أحد.
- أهذه خبرة العشرين عاما في الإدارة المدرسية التي تتباهى بها؟
- يا عزيزي، الإدارة المدرسية في المدارس الحكومية تعاملٌ مع طلبة ومدرسين وأولياء أمور وليست تسويقا.
- إن رغبت في الاستمرار معنا فانس إدارتك السابقة، الإدارة هنا ترويج بضاعة،تعلم فن التسويق.
- يلزمك أن تأخذ دورة في علم التسويق العصري، فقد صارعلما قائما بذاته، ولم يعد فنا مكتسبا.
- نحن بهذا الإعلان استقطبنا عشرات الطلبة الجدد، ولفتنا نظر الناس إلى مدرستنا، وأعطيناها حجما يفوق حجمها أضعاف المرات، ولم نكن بحاجة لا لمدرسين ولا لمدرسات من أي تخصص، ولم يكلفنا ذلك سوى ثمن الإعلان الزهيد .
قام إبراهيم من جلسته ومضى على رؤوس أصابعه، حتى لا يشعر بوجوده أحد، فيفضح الفراش الذي تواطأ -لأمر في نفسه- على إسماعه الحديث الذي سمعه .
أدار ظهره ومضى، وكلما قابله شخص ممن يعرفهم قاصدا المدرسة للاستفسار عن النتائج أومأ إليه، أن اجلس فـي الغرفة المجاورة للإدارة ريثما تسمع اسمك.
2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق