أولاً : نصُّ القصيدة :
" وحيد - وحيد جداً
للحد الذي توجعني منه عظامي
أجلس علي السرير
بيدي راديو ترانزستور
أتنقل بين المحطات
أرفع الصوت قليلاً
لكي يطغي علي صوت ،
الكركبة - وصريخ المسنين داخلي
أنظر إلي الدولاب أمامي
هناك حيث أحتفظ برأسي
,اغلق عليه جيداً
لكي لا تفر منه الشياطين
وتزاحمني في الغرفة - طوال الليل " #محمود أشكناني
ثانياً : القراءة :
هو نصٌّ ينوس بين الشعر والقصّ ، تسمعه فتقول : لقد اوصل الكاتب رسالته ، فلم يترك شيئا .
فإذا دققت النظر فيما بلغ إليك من النصّ ، ورحت تتبين تأثيره فيك ، شعرت بأنه ملك كيانك ، لكن بكيفية غامضة .
عندما تهمّ بشرح هذه الحال ؛ تعلم أن مالم يصلك من النصّ أكثر بكثير مما وصل على كثرته .
كيف أروّض هذا السهل الممتنع الذي ملكني واستعصى علي في الوقت نفسه
كل شيء فيه واضحٌ إلا غموض ما تركه في النفس ، كأنك تقرأ نفسك بإعادة قراءته
يبدأ من هذا الشعور الطافح بالوحشة ، وغياب الأنس ، بمرارة هذا الانزواء ، والانفراد، والبعدية والانعزال ، وتأتي كلمة " جدا" لتشعرك بقلتك وضآلتك ، وأنك لست في كتلة ، او رابطة ، او جماعة ، او جمهور ، او حتى أهل .
ثم لا يكتفي بكلمة " جدا" فيأتي بمقياس للوحدة لا يعرفه إلا الغرباء ، إلا المنفيون ، المطرودون ، المحبوسون ، المسجونون :
" للحد الذي توجعني منه عظامي "
لم يقل " فيه " قال منه .
ما هو الألم الذي يؤذي به هذا " الحد " فيوجع ويضر ويضني ؟؟؟!!!
ما هو هذا الحد الذي يأكل الراحة ، والفرح والسكينة ؟؟
عرفنا منه جانب الوحشة و الوحدة ؛ أن يكون بينك وبين الآخرين فاصل ، وحاجز ، وعازل ، وعائق .
ان تكون من غير اهل او جماعة ، او عزوة
وإذا وصلناه بفعله الموجع " توجعني " تذكرنا حد السكين وحد السيف ، كأننا اصبحنا عند ما يشقّ ويفلق ، ويكسّر ، ويقطّع، ويذبح .
كيف نزداد وضوحاً من هذه الحالة العجيبة :
" أجلس علي السرير
بيدي راديو ترانزستور
أتنقل بين المحطات
أرفع الصوت قليلاً
لكي يطغي علي صوت ،
الكركبة - وصريخ المسنين داخلي "
لكي يطغى عليّ أم لكي يطغى على ، لماذا عجز عن جعل المفعول فاعلا ؟؟؟.
هذا الخطأ الذي ذل به القلم ، فصرنا بين لونين من الطغيان ، كل واحد منهما اعتى واشرّ من الآخر
تتحد تحتهما الفاعلية والمفعولية ، كان الطغيان يغذي نفسه بنفسه .
لم يستطع الشاعر ان يخرج ، او يتحرر بموجات الراديو ، لم يستطع ان يفك يده عن عنقه ، فالكركبة بكل ما توحي به من اختلاط ولخبطة وعدم تنظيم ، فضلا عن ضجيجها وصخبها طغت عليه "علي "
لم يقل المسن ، وإنما قال : " المسنين "
ولم يقل صراخ بل قال : "صريخ "
مادلالة هذا التوجيه الدلالي؟؟
الا تحيلنا كلمة " المسنين " على معاني التهدم والعجز ، والهرم ؟؟؟
على غياب الفتوة ، واليفاعة والقوة ؟؟
الا تحيلنا إلى الافتقار للرعاية والمعين ، والسند، والحاجة إليهم ؟؟؟
وكلمة " صريخ" التي تعني من جملة ما تعني : المستغيث ، وتعني كذلك المغيث والمجير، وتعني فوق ذلك كله الاستغاثة ، من دون ان تفقد معنى الصياح والهتاف .
الا يستحق هذا العذاب المتجسد ان نتساءل عن حقيقته ، وهل هو مجرد شيخوخة مستوحشة ام ان الشيخوخة مجرد تعبير يستعين به الشاعر لبيان العجز والضعف ؟؟؟
ولماذا هذا التأكيد على الغوث ، لماذا حديث الطغيان واللخبطة والضجيج والوجع ؟؟
يقول الشاعر :
" أنظر إلي الدولاب أمامي
هناك حيث أحتفظ برأسي
,اغلق عليه جيداً
لكي لا تفر منه الشياطين
وتزاحمني في الغرفة - طوال الليل "
لم تستطع موجات الراديو ان تصنع له شيئاً بماذا يمكنه ان يستعين وينقذ نفسه إذن ؟؟
لماذا قال احتفظ براسي ؟؟
ولماذا عليك أن تغلق على راسك في خزانة ثم لا تكتفي بالإغلاق عليه حتى تحكم القفل وتثبته ؟؟
ولماذا اختار الفعل " تفر" بكل ما يوحي به من معاني الخوف وطلب النجاة ،
عرفنا انه هو من يطلب النجاة فقد ملأ المقطع السابق بالاستغاثة فأتى بفاعلها ومفعولها والمصدر ، والآن : الشياطين تريد النجاة هو يريد النجاة ، والشياطين تريد النجاة ؟؟!!!!
لنستعيد هذه العبارات
"احتفظ براسي "
والراس في دولاب
اتنقل بين المحطات
وحيد وحيد جدا "
لم يستطع ان يحتمل نفسه ، لم يستطع ان يحتمل ما يجيش في داخله
وهو يتابع امرا خارجيا ويتنقل بين المحطاة
يرفع صوت المذياع اكثر ليعبر من نفسه
لتعبر معه الشياطين ، راسه داخل خزانة وقد لا يصان فيحكم إغلاق الخزانة ليصون راسه
اليس القفل على الرأس تعطيل للحواس ، اليس منع للعقل من العمل ، اليس ذلك كله نكوص عن المواجهة ؟ من الواضح انه يريد ان يكون الفرار او الفر كرا ، ومن الواضح ان راسه لم يستسلم فيقنع بالحجز ، والظلمة .
ومن الواضح اكثر انه يريد تمردا ، وخروجا على الطاعة بنحو مبالغ فيه ؟ تزاحمني
الآن فقط يمكننا الاطمئنان أن الحالة قد انكشفت .
هي حالة العطالة إذن ، هو الشلل الذي جعلنا امة هرمة تفتقر للرعاية والمعيل
امة تعيش على نتاج الشعوب
لا تستطيع ان تجتمع وتتحد لا تعرف كيف تنتظم وتتنظّم ، افرادها معزولون منفردون
العقل محجور عليه باقفال محكمة ، والحواس معطلة .
امة كلها مؤمنون ، كلها رحماني مطيع ، منقاد ، ذو تقوى ، ولهذا هي في ليل طويل ولهذا هي مشلولة ، ما هو الدولاب : الآلة التي تديرها الدابة ليُستقى منها ، والاداة التي تدور وتحدث حركة تدفع غيرها
الامة في دولاب ، في خزانة محكمة تتوخى منها الحفظ ، الا تفر الشياطين فتحيل العجز قدرة والقبول المذري رفضا وتمردا ؟؟
قفلنا على رؤوسنا في هذه التبعية والانقياد الاعمى ، كالدواب نكدح ونسعى وغيرنا ياكل تعبنا وعرقنا
لتخرح شياطيننا ، لتخرج و تزاحمنا في هذا الليل لتزحزحنا عن طاعتنا المنتنة وخضوعنا الاعمى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق