(مشيت وفي منتصف طريق الحياة ، وجدت نفسي في غابة مظلمة حينها أدركتُ أنه قد ضاعت مني معالم الطريق)
"دانتي ، الكوميديا الإلهية"
أن قراءة أي نص شعري يقع بين خيارين لا ثالث لهما ، أما البحث في مكونات النص النحوية والبلاغية وتراكيبه اللفظية وصوره الشعرية ، وأما الغوص في متاهات النص لكشف عما يحمله النص من رؤى فلسفية ودلالات وأنساق وأطر والتي عادة ماتحكم فضاءاته لتظهر مدى أتصاله بمحيط النص . لأن (كينونة النص تكمن في التأمل الفلسفي الذي يشكل المدخل الى عالمية النص) . (عبد الجبار الفياض حكيم من أوروك/محمد شنيشل الربيعي ص106 ) .
ونص الشاعر "قاسم سهم الربيعي" أرتأيت أن أسلط عليه الضوء من خلال الخيار الثاني ، لأعطاء رؤية فلسفية ، لأنه يتمحور حول موضوعة مهمة تناولتها الكتابات الفلسفية ألا وهي "الأغتراب Aliénation " أو" الغربة" .
نحن نعلم إن الإنسان كينونة وجوهر هذه الكينونة هو الروح والعقل ، والشاعر "قاسم سهم الربيعي" عبر عن كينونته من خلال نصه الشعري الذي عنونه "غربة الروح" مبين رؤيته بما يحيط به من هواجس ترجمها بصور أنفعالية حادة . شكلت دلالات متعددة ومتباينة ، فلسفية ونفسية وأجتماعية ، مثلت نمطاً معيناً من الشعور المنفصل عن الذات والمجتمع . وهذا بدوره ولد شعوراً داخلياً بـ(فقدان الحرية والإحباط والتشيؤ والتذري والأنفصال عن المحيط الذي يعيش فيه) .
عامٌ اِنقضى
وأنتَ مازلتَ مُكبلاً
بقيودِ عتمةِ
السديمِ…
عامٌ اِنقضى وأنتَ
حبيسُ جدرانٍ
موصدةٍ…
عامٌ اِنقضى..
لاسلوى غيرُ هموم
ودموعٍ تحتضنُكَ…
عواصفٌ تجولُ برأسِكَ..
خيوطُ ذكرياتٍ
طبولَها في جمجمتِكَ
الخرفةِ…
وحشةٌ تبعثرُكَ حدَ الضياعِ…
من يبددُها ؟...
بمن تلوذُ وقد اِنفضّوا عنكَ..
بمن تَتَأسى ؟..
بحروفٍ تنزفُ وجعَكَ..
أم تسبحُ في بحرٍ من السرابِ؟…
كفكفْ دموعَكَ واقصرْ
أيها الجبلُ..
معاولُهُمْ تثلمُ سفحَكَ
وماثَلَموا…
غيضَ معينِكَ ..
جفَ الضرعُ..
أقحلتْ رياضُكَ ..
ذبلتْ أزهارُكَ..
غادرَتكَ الفراشاتُ..
تحومُ حولكَ الدبابيرُ ..
أفُلَ نجمُكَ…
أتظلُ قابعاً في دياجيرِ المثاليةِ ؟...
أيُ فضيلةٍ دون رغيفِ خبزٍ يسدُ
رمقَ بطونٍ خاويةٍ ؟!..
يُفَثّيءُ لهثاتِ أفواهٍ فاغرةٍ ؟!...
ستسقطُ الفضيلةُ في براثنِ الخطايا !…
غَمْغِمْ ..لا تتعدى
حنجرَتَكَ ؟..
اَطلقْ قهقهاتِكَ الهيستيريةِ..
إصرخْ ..
إصرخْ..
إصرخْ..
ما أشدَ الغربةِ حينَ تحطمُ
جدارَ البوحِ ؟!..
وتُبيحُ الألمَ؟! ..
ياوحشةَ الروحِ؟!…
النص يحتوي صور شعرية شكلها الشاعر في حالة تنبئ عن أنعدام الإحساس بالإنتماء وأغتراب الذات وعدم الشعور بالمغزى من الحياة ، حين يتلمس أشكالية الزمن الذي يعيش فيه ولايحسه ، وهو موقف صعب ، "عامٌ اِنقضى" ، "مازلتَ مُكبلاً / حبيسُ جدرانٍ" ، ثم يسترسل بمناجاته يرى الهواجس تقرع ذاكرته كـ"طبول" مرة و"عواصف" مرة أخرى ، ولكن "لاسلوى غيرُ هموم" . تساؤلات يبحث عمن يبدد وحشته ، يستنجد "بحروفٍ تنزفُ" وجعٌ أو سباحة في "بحرٍ من السراب" ثم يعود يلملم أشتات نفسه ويبعث بها العزيمة والإصرار على المطاولة "كفكف دموعك/أيها الجبل/معاولُهُمْ تثلمُ سفحَك/َوماثَلَموا" .
لكن سرعان ما نرى حالة "نكوص" في الكشف عن مكابداته الدفينة ومناجاته وحالة التي تنتابه ، فالشاعر يقع في دائرة (الوعي الخاطئ) على حد تعبير "إريك فروم"(تعتقد أنك سعيد، وذلك نتاج وعيك الخاطئ. لديك أنطباع بأنك حر، وهذه إشارة لا تخطئ أبدًا: فأنت مستلَب. أنت ترى أبدًا القيود التي تخنقك، وذلك برهان على دقَّتها وفعاليتها.) . "غيضَ معينِكَ/جفَ الضرعُ/أقحلتْ رياضُكَ/ذبلتْ أزهارُكَ/غادرَتكَ الفراشاتُ/أفُلَ نجمُكَ" .
الأغتراب Aliénation مفهوم شاع إستخدام بشكل واسع في العلوم الانسانية ، وهو من أكثر المصطلحات تداولاً في الكتابات التي تعالج مشكلات المجتمع الحديث ،وعلى الرغم من التباين والأختلاف في توضيح هذا المفهوم ، فأنه يقوم على ثنائية العلاقة الجدلية بين الظواهر الأجتماعية والنفسية التي تشكل (ظواهر الضياع والأستلاب عند الإنسان المعاصر) .
نحن نعلم جيدا أن الأغتراب حالة ذاتية ذات أبعاد (نفسية/أجتماعية) تعبر عن أزمة الإنسان المعاصر في ظل التباين الحضاري المادي المتسارع والذي شكل منحنى تصاعدي ، أما في الجانب الآخر تدني قيمي أجتماعي تنازلي ناتج عن عدم الأنتماء لواقع المجتمع وقيمه . ومن مظاهر هذا الأغتراب هو (الأغتراب الذاتي) الذي يعد من أصعب مفاهيم الاغتراب .
أن نص الشاعر قاسم سهم الربيعي ( غربةُ الروحِ ) يدور في فلك الأغتراب الذاتي ، فقد جاء متخم بالتساؤلات الوجودية الدالة على حالة الأغتراب التي لاتمثل غربة الجسد المنفصل عن وطنه ، وأنما (غربة روح) متصارعة بين الوعي واللاوعي ، وهو ما ذهب إليه عالم النفس (سيجموند فرويد 1939 -1856) (شعور الأنفصام والصراع بين قوى اللاوعي الدفينة في الذات وبين الذات الواعية) . ونسحب هذا الصراع الى المفهوم الوجودي للأغتراب عند الفيلسوف الوجودي "سارتر 1905 -1980" عندما اعتبره (حالة طبيعية في عالم فاقد للهدف وللغاية)،شكل حالة اللامعنى ، من خلال تجرد الحياة من المعنى أو الهدف .
فالغربة الذاتية عند الشاعر ، هي (أنفصال الذات عن عمق الذات) ، من خلال الحاجز النفسي بين الإنسان ومحيطه وعدم الإنسجام مع هذا المحيط ، فليس أصعب على الأنسان من الإحساس بالغربة والأصعب منه (غربة الروح) . حين يحس الإنسان وهو بين أهله وأصدقائه كالغريب . فالأغتراب ، تجربة إنسان يشعر بالغربة عن الذات .
هناك العديد من المفكرين والفلاسفة ناقشوا مفهوم الأغتراب من جوانب مختلفة الفلسفي والأقتصادي والأجتماعي والثقافي والأخلاقي والنفسي . ويعتبر " "فريدريك هيجل 1770- 1831" و" كارل ماركس 1818 -1883" أول من وجهوا الفكر نحو موضوعة الأغتراب من خلال كتاباتهم الاولى ، والتي كانت بمثابة الحجر الأساس في بلورة الفهم الفلسفي للأغتراب . لقد أعطى "هيجل" فهماً فلسفياً للأغتراب حين أعتبره (لحظة ضرورية في عملية الحياة حينما تصل فيها الروح للحالة الحقيقية من معرفة الذات) ، أما "كارل ماركس" فربط الأغتراب بالجانب الأقتصادي وصراعاته . و(فرويد) يعود بأسبابه الى الصراع الجنسي . أما عند عالم النفس ألألماني "إريك فروم (1900 - 1980 فهو "نمط من التجربة يعيش فيها الإنسان غريباً عن نفسه ، حيث يفقد دوره بوصفه غاية إنسانية للعالم" ، ويذهب عالم الأجتماع الفرنسي "إميل دوركايم1917-1858"
فقد وضعه "موضع الخلل في العقل الجمعي" .
لقد جسدت حالة الأغتراب في المجتمعات الغربية من خلال روايات "ألبير كامو 1913 - 1960" و "فرانز كافكا 1883 -1924" وطروحات " كولن ولسون 1931- 2013" في كتابه "اللامنتمي" . وإذا أردنا أن نحدد نتائج الأغتراب النفسية والأجتماعية فهو يدور في إطار العزلة ، وأنعدام الإحساس بالإنتماء و أغتراب الذات وعدم التكيف مع الأوضاع الأجتماعية . وجميل ماكتبه الفيلسوف "أبو حيان التوحيدي 310 - 414 هـ " حين قال:( أغرب الغرباء من كان غريباً في وطنه) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق