لوحة فنيّة جميلة ورائعة فيها عمق إحساس بالفجيعة .. إنّها فجيعة صامتة تنزف بمرارة الواقع ..يقيمها شاعرنا أفقيّا على ثالوث ..الذات الناطقة ..الوطن .. الآخر الذي أعلن الضجيج وتمنطق بالنفايات .. ذات ترصد الهزائم وتتلمظ المرارة .. تبكي ..تحاول أن تتقمص الواقع وتشدّ على أجنحة الحلم ..ذات متبددة ، أبعاضها مهزومة ..منهوكة كالعويل ..يكاد يقتلها التوزع ..تبحر في خضم نفسها .. تنعي وطنا على السكّين يرقص يغالب الشجون ويرتّق الأماني من غياهب ..يستجمع أرصدة دهر متناثرة في طواحين تدور ..يميد من أكداس القمامة ويلفحه الغبش اللعين .. وآخر نبش عنه من سجلات القمامة ومعاجم اللعنة هو الضجيج والغبش اللعين وعفن الدروب ورذاذ الفتن ..هو الروائح الكريهة وضياع الخضر ..إنّه الدّخيل على بساتين الفرح يهدم اللذات ويهيئ للعويل ..وعموديّا تقوم على تحول من الرؤيا إلى الحلم .. ومن الإخبار إلى الانفعال ..من إخبار عن هذا الواقع الموسوم بروائح القذارة وهي لا تعدو أن تكون صورة رامزة تجعل من الخطاب مشهدين متوازيين يقومان على أساس التناظر المحوري ..صورة وطن يحترق على صهد القذارة ويتهاوى شموخه في الواقع وهنا يستعير صورة النفايات التي تحيل على رموز الفكر الرجعي والصراعات الإيديولوجية الضيّقة التي تقايض الطمأنينة بالهزائم وتسقط الوطن في مستنقع من الفتن .. وصورة لآخر مغيَّب في الخطاب لا يحضر سوى ما يحيل عليه من قذارة .. ولعلها إشارة لمعاني الرّفض والاستنفار لما يقع ويحدث ..ولكن ذلك لم يمنع غريزة عشق الحلم في أن يحيى ويتنسم من أنا غيم الجمال لتنبجس صورة الناسك بما فيها من وقار وعشق للبياض والطهارة .. لعل الناسك هو ذلك العراقي الأصيل الذي يرفض أن يباع الوطن في سوق النخاسة .. ذلك المتقد فكره لا يغنيه سوى الإيمان بقدرات ذات تقارب النخيل الباسقات الشامخات .. لا تكترث بالأعاصير .. وتستحم بالضوء والصلوات ولا تُبَعِّضُ المناسك ولا تفرق بين الفرائض ...إنه النور الذي يقذفه الله في الصدر ويغنّي للفجر الضاحك بالقبل ..بالأمل ..بالغناء ..وهذه العناصر لا تعدو ان تكون ذلك الإطمئنان والسلام .. بسين الأمل واليقين من القيام بالفعل ..سين التحدي والأحلام المأمولة في الفجر الآتي من ليل الدجى ..الوطن الذي سيهزم الضجيج ..
النص:
الوطن الذي سيهزم الضجيج
عندما تخترقُ الريحُ
صمتَ القُرى
يُعلنُ الضَّجيجُ
أكسَدةَ المشاعر
يحتفلُ الغبارُ بأوَّلِ
صرخةٍ من غباء
أو قُل ترقصُ
النفاياتُ بغنجٍ
في لُجَّةِ التيّار
مُنفصلةً عن أَكداسِ القمامة
مُتناثرةً في طواحينَ تدورُ
مُخَلّفةً حُزماً
من هسيس التُّراب
كيف لا يطولُكَ
هذا الغَبشُ اللّعين
هذا العَفن ؟
كيف لا يصفعُك
رذاذُ الفتنة؟
مُذ كنتَ تحترقُ
كانت الريحُ
تأكلُ صحوَ ذاكرتك
تذروهُ هباءً
لطواحين العواصف
فترقبُ ضَعفكَ
الذي نامَ في
مُعتركِ الفُصولِ
مُذ كنتَ تحترقُ
كانت النفاياتُ
تحتفلُ برحيلِ الناسكينَ
هروب الماء
ضياع الخُضرة
كلّما شاكستها الريحُ
فزَّت نافخةً في المدن اليتيمة
روائحَ الكراهيةِ
بذورَ الفُرقة
مُذ كنت تحترقُ
كان الليلُ
ينسجُ ثوبَ غيومِ الغفلةِ
والآخرون يكبّرون
لموتك المُدَجّن
وأنتَ والنخيلُ وهذا المدى
الذي يشرب آهك
لا مِن مَدَد
أيها الناسكُ الذي
عشقَ البياضَ
تسامى في افقِ الشّموخ
لا تكترث فأنتَ ما زلتَ تستحِمُّ
بالضوءِ والصلوات
تغنّي للفجر الضاحك بالقُبَل
بالأملِ
بالغناء
وتكتبُ قصيدةً خالدةً للوطن
الذي سيهزمُ الضّجيج
13/11/2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق