الذات بين الغياب والحضور
المقهى الأزرق
أخطأت النادلة
فأحضرت لنا كأسيْــن
كأن بها حــــــــوَلا
نحن واحـــد متّحـــد، فكيف رأتنا اثنيْــن؟
الطرف يأخذ بالطرف
والنبض مشوب بالنبض
والعين تسيـــــــح في العين
والجزء يذوب في الجزء ...والصوت صدى
روحان في جسد...جسدٌ في روحيْــــن
واليوم أعود إلى ذات المقهى
وأنا غير أنا
مختلف...منشطر وكسير
أجلس في ذات الركن
قمرا مهترئا وقديم
تقف النادلة
ثم تولي مدبرة حيرى
تبحث في السلة عن شيء يشبهني
كوب مشطور نصفــــــيْن
الكتابة المبدعة هي الورطة الجنونية اللذيذة وبالطبع هذا يستدعي مخيلة قلقة لا تركن لحال مخيلة تمتطي عدم رضاها ، بحثا عن مسالك أكثر جدوى لخصوبة النص. والناص الجاد خلال زمن الكتابة هو منتج مغامر لا يتهيب طراوة المعاناة وهو يخلص الكلمات من ركام العراقيل لتندلق على الورق طيعة منسابة كي تتشكل وفق أنساق جميلة ودالة...والدخول إلى نص الشاعر هو البحث عن لحظة الإخصاب في تكوين الرؤية الشعرية لحظة التصادم مع الظواهر المحيطة ..هذا لكي نفهم لحظة التجلي لكل شاعر وعمق هذا التجلي في معاناته والتي تحدد مسالك الرؤيا لديه التي تكون لحظة الأزمة في وقوع الحدث الشعري ...والشاعر عبد المجيد يوسف من خلال هذا النص ندرك أنه يعيش لحظة الهدوء وقت صخب الذات الساعية إلى ترميم الحدث الذي وقع دون أن تفقد حتمية الوصول إلى الخروج من هذا الحدث الذي خلق الأزمة في تشعباته النفسية للشاعر حيث يبدأ بالحدث من المظهر الخارجي وهو النادلة لكي يحدد هذه الأزمة . والشاعر هنا حدد جنس الأنثى للنادلة بدل النادل ..وهذه تداعيات نفسية قد تكون محور الطريق المؤدي إلى كشف الدالة لمعاناته أي أن أزمته كانت المرأة في كل هذا حيث يكون الترميز الشعري يعتمد على الطاقة النفسية المكتوبة التي تجد لها مخرجا عندما تشتد الصراعات مع مظهر خارجي سبب الفقد لكل الأشياء التي ننتمي إليها في الحياة...الأشياء التي كانت محور نستمد منها مسيرتنا في الحياة أي أن الشاعر حدد الدالة وفق تناغم المدلول في لحظة الخلق الشعر
أخطأت النادلة
فأحضرت لنا كأسيْــن
كأن بها حــــــــوَلا
نحن واحـــد متّحـــد، فكيف رأتنا اثنيْــن؟
وبعد أن ظهور الدالة الشعرية في تأزم الذات ومعاناته . ولكن الشاعر بسبب ارتداد الذات عن المواجهة بسب بفقد الحبيبة يلقي كل ما حدث على النادلة أي أنها التي أخطأت في إحضار كأسين مع أنهما واحد وهنا تتكون الصورة الشعرية بأبعادها الحلمية والتمازج الذهني في التوزيع على المكان فالشاعر يعيش هنا لحظة تضاد مع الذات بين حضور حبيبته وبين عدم حضورها أوانه يرفض حضورها بسبب غيابها الذي أضره إلى حد اليأس بحضورها أي أنه يعيش لحظة قلق وهنا تبرز قدرة الشاعر على إحضار الصورة المخزونة في اللاوعي لأن الشعر ليس عملية استذكارية أو عملية إحلال البدائل وإنما هي تكوين الصورة الشعرية من امتزاج الوعي باللاوعي أي جعل الصورة مركبة بحيث لا نلاحظ أي خرق لكل تياراته النفسية أي تكوين الصورة الحالمة من انعكاس الواقع الخارجي وكما قال بو( أن هناك نقيضان في محاولة أيجاد علاقة بينهما هي محاولة إضاعة الجمال من ناحية وطمس الحقائق الشعرية من ناحية أخرى).
الطرف يأخذ بالطرف
والنبض مشوب بالنبض
والعين تسيـــــــح في العين
والجزء يذوب في الجزء ...والصوت صدى
روحان في جسد...جسدٌ في روحيْــــن
والشاعر هنا يعيش أزمة اليأس من حضور من يحب ..أما لماذا المقهى الأزرق... فقد يكون هذا المقهى موجودا ولكنه له دلالات تأويله في حضور الحبيب إلى هذا المكان . والشعر هو اكتشاف يختصر به أبعاد الزمن ولا يخدم طرفا أو قضية والشعر بقدر ما هو عملية القبض بالكلمات على الحلم وتشابك للوهم بالحقيقة فإن ا ما ندركه ونحن نقرأ قصيدة الشاعر عبد المجيد هو أنه يمتلك القدرة على امتلاك لغته وأستطاع أن يوظف المدلول الظاهري الذي هو انعكاس للمدلول الداخلي أو المدلول المتحرك وكما قال أي س دلاس ( أن إنتاج الصورة الشعرية يرجع بشكل عام إلى عمل العقل في عتمة اللاوعي ) والشاعر وظف النادلة التي هي انعكاس لليأس الذي يعيشه من عدم حضور الحبيبة بحيث وصل إلى افتراق الذات إلى أثنين مع انعكاس ذاته التي تؤكد أنه واحد مع الحبيبة هنا هي عملية ارتدادية بدفاع الذات من عدم الوصول إلى كامل اليأس أي أنه يحاول أن يفصلها عن ذاته ولكنه يستمر برحلته الذاتية أي المكاشفة مع الذات عن حبه للحبيبة بحيث يصل مع حواره مع ذاته إلى أنهما روحان في جسد أو جسد في روحين فالشاعر بقدر ما يحدد حبه للحبيبة لكنه في نفس الوقت يحاول أن ينفصل عنها وهو يعيش الصراع داخل نفسه في هذا الصراع بين التسليم الكامل للحبيبة واليأس من حضورها. والشاعر يحاول أن يبتعد عن الصدام مع ذاته لأنه عاش صراعا مريرا بين من يحبها وعدم حضورها وبين ذاته الممزقة باليأس بعدم حضورها فنجد أن المعنى المتكون بهذا النص من خلال لحظة الألم وكما قال هيدجر ( المعنى مستخلص من وعورة التجربة لا من الدعة و الاسترخاء بل من شدة الألم )
واليوم أعود إلى ذات المقهى
وأنا غير أنا
مختلف...منشطر وكسير
أجلس في ذات الركن
قمرا مهترئا وقديم
تقف النادلة
ثم تولي مدبرة حيرى
تبحث في السلة عن شيء يشبهني
كوب مشطور نصفــــــيْن
نلاحظ أن الشاعر عاش فترتين من الزمن ضمن القصيدة الفترة الأولى حين تخطئ النادلة، وتأكيده أنها هي التي أخطأت بالرغم أن هذا هو انعكاس لحواره الداخلي المتأزم لكن الشاعر أجراه خارج ذاته ابتعادا عن توسع الأزمة داخله أو من أجل السيطرة على حالة اليأس التي يمر بها بسبب عدم حضور الحبيبة ..حيث تبقى النادلة هي الدالة على المدلول وهي الحبيبة وهذا حوار كبير داخل الذات المتأزمة من خلال قدرتها امتلاك مساحة التأويل التكويني النفسي لظاهر الأشياء الخارجية ومقدار انعكاسها من خلا ل تبادل الأدوار في تثبيت الصورة ( صورة النادلة انعكاس إلى صورة الحبيبة) لكن بطريقة الرمز كما نلاحظ كثافة الصورة الشعرية في الاستدلال أيجاد المعادل الموضوعي كما أكد عليه الشاعر الانكليزي إليوت وأهمية توفر هذا المعادل في تحقيق التأويل وأحداث الانزياح في تكوين الصورة الشعرية ..يرجع الشاعر إلى نفس المقهى ولكن الذي يقوده هذه المرة حالته النفسية اليائسة وانشطارها وكأنه في عودته الثانية هو البحث عن الخلاص أو إيقاف هذا الصراع بين الحضور أو عدم الحضور. وهو في المقهى بدل أن يجد الخلاص في إنهاء هذا الصراع تنكفئ ذاته وتستلم إلى عالمها الداخلي حيث نلاحظ بقدر ما أكد على العالم الخارجي في الفترة الزمنية الأولي يكون في الفترة الزمنية الثانية خاضعا لأزمته بعد أن دب اليأس في مشاعره أي أن أزمته تصاعدت إلى أن أصبحت هي المسيطرة في تحريك عالمه الداخلي والخارجي ( واليوم أعود إلى ذات المقهى وأنا غير أنا مختلفا...منشطرا وكسير /
أجلس في ذات الركن
/قمرا مهترئا (1) وقديم
(لا أعلم الشاعر يقصد هنا متهرئا بدل مهترئا)..............
فهو هنا منشطر وكسير وقمرا متهرئا أي كما قلت وصلت أزمته إلى لحظة التفجر أمام انسحاق الذات في يأسها .. ويرجع مرة أخرى إلى النادلة والتي تمثل هنا التماثل في تحديد رمزية أزمته فهو هنا حدث الانزياح كامل في التصور الذهني للحدث الشعري قد نعتبر هذا النص سيمفونية لأن بها تصاعدا ثم نزولا ومن ثم تصاعد كالحدث الموسيقي وهو بهذا حافظ عل المنولوج الداخلي الكثيف في القصيدة أي أن الشاعر بالرغم من أزمته لم يربك الحدث الشعري بزوائد ليس لها أهمية في النص بقدر ما حافظ على مستوى التوتر الشعري الجميل
( تقف النادلة
/ثم تولي مدبرة حيرى /
تبحث في السلة عن شيء يشبهني /
كوب مشطور نصفــــــيْن )
فالشاعر وصل إلى نهاية التوتر واليأس والانسحاق بسبب عدم حضور الحبيبة بحيث أن الكأس الذي أخطأت النادلة بإحضاره أنشطر نصفين وفي السلة وهو هنا يريد أن يؤكد أمام نفسه بعدم جدوى هذا الألم والأزمة لأن كل هذا يرمى في السلة ولكن الذي نلاحظه في بداية النص أو في بداية حواره أكد الشاعر على الكأس وفي نهاية أزمته أكد على كوب مشطور نصفين وهنا من الممكن أن نقول أن الكأس هو لشرب الماء أو أي شيء حلو أي أن الشاعر كان يمتلك روح التفاؤل بحضور الحبيبة ولكن في تدرج الأزمة إلى النهاية بعدم حضور الحبيبة وعدم جدوى انتظاره لها يكون الكوب هو رمز إلى القهوة ومرارتها
وبالطبع هذا تأكيد نفسي كبير على قناعة الشاعر بمرارة حياته المشطورة إلى نصفين وفي السلة بسبب يأسه من حضور الحبيبة ........
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق