أبحث عن موضوع
الاثنين، 13 يناير 2025
"قيود الصمت في جحيم المعنى" ................ بقلم : فاهم المدني // العراق
كنتُ قد ألفيتُ نفسي على شفير عالم غريب، كأنّما الألوان فيه قد سُلبت، والأصوات طُمِست، فلا تسمع إلا حفيفَ الزمن، ولا ترى إلا ظلالَ أشياء لا تُحكى. وإذا برجلٍ جاثٍ على ركبتيه، مُسدلًا يديه كأنّه يتوسل. كان وجهه متجعدًا كما لو كان صحيفة كتبت عليها سنونٌ غليظة، وعيناه تترقرقان بدموعٍ سقطت في لُجّةٍ من الرماد.
دنوتُ منه، فإذا هو يهمهم بكلماتٍ متقطعة، كأنها أنفاسٌ في مهب الريح. فقلتُ له: "ما بالك يا صاحب؟ أهو العذاب الذي أنت فيه أم الأسى الذي يسكنك؟" فنظر إليّ نظرةً عجفاء، وأجاب بصوتٍ يشبه أنين الريح: "أنت ترى جسدي هنا، ولكن روحي تصرخ في مكانٍ آخر. لقد دعوت ربّي أن يقذف بي في قعر الجحيم، على ألا أسمع حرفًا عربيًا، وها أنا ذا عالق في صمتٍ أخرس، لا يعلوه إلا صدى رغباتي المكسورة."
قلتُ له: "وكيف جاء بك هذا الدعاء إلى هذا المصير؟" فأجاب: "لقد كنتُ يومًا ما متجبرًا، أستعلي على الناس بلُغتي، أنعتهم بالجهل، وأمزق ألسنتهم بألفاظي المعقدة. كنت أرى أن العربية ملكي، وأن من لم يفهمني لا يستحق أن يعيش في عالمي."
فقلتُ: "وكيف كانت عاقبتك؟"
فابتسم بسخرية مُرّة وقال: "عاقبني الله بما دعوتُ به؛ سُلبت اللغة مني تمامًا، فلا أنا أسمع حرفًا، ولا أستطيع النطق. أقف هنا، أرى العالم وأشعر به، ولكنّي لا أستطيع التعبير عنه. كل ما كنت أظنه كمالًا أصبح عقابي. أفهم الآن أنّ اللغة ليست صوتًا فحسب، بل روحٌ تعبر، ومعنى يوصل. ولأنّي جحدتُ نعمتها على من حولي، صرتُ محبوسًا في صمتي."
فقلتُ: "ألا ترى في صمتك هذا حكمةً؟ أليس في ذلك نهايةٌ تعيدك إلى نفسك؟"
فنظر إليّ نظرةً قاسية وقال: "بل هو قعر الخسارة؛ لا حكمة تأتيك وأنت لا تستطيع أن تُفصح عن ندمك. وما قيمة التأمل إن كان لا يُسمع ولا يُنطق؟ أتحسب أنّ الجحيم نارٌ وحسب؟ الجحيم هذا الصمت الذي لا بداية له ولا نهاية!"
ولما تركته، شعرتُ أن ما قاله كان صدىً يلامس نفسي، وكأنّه دعوة صامتة إلى تقدير ما نملك. هل اللغة إلا جسر بين القلوب؟ أمّا من عجز عن بناء ذلك الجسر، فهو في جحيم لا قاع له.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق