أبحث عن موضوع
الجمعة، 17 يناير 2025
"بعيني رأيت الذئب يحلب نملة" .......... بقلم : فاهم المدني // العراق
في زمن بعيد، عندما كان المتنبي في أوج عطائه، اجتمع في مجلس ضمّ كبار الشعراء والأدباء، وكان المجلس غارقًا في الحديث عن المعجزات والمستحيلات التي يرويها الناس. بدأ البعض بسرد حكايات عجيبة، كأن تتحدث الأشجار أو أن تُحلق الجبال. شعر المتنبي أن الحديث بحاجة إلى قفزة نوعية تُظهر براعة الخيال الشعري، فقال:
"بعيني رأيت الذئب يحلب نملة
ويشرب منها رائبًا وحليبًا"
ضحك الحاضرون لهذا الوصف العجيب، لكنه في الوقت ذاته أثار دهشتهم. أراد المتنبي من هذا البيت أن يلفت الانتباه إلى عبثية ما يدعيه الناس أحيانًا أو يتصورونه. لكنه أيضًا أراد الإشارة إلى أنه، كما يمكن للشعر أن يصور المستحيل، فإن بعض أحوال البشر تكون أشبه بالمستحيل، خاصة إذا نظرنا إلى الفجوة بين الظاهر والباطن.
حدثني من أثق بصدقه، ولست أدري إن كان الحديث من باب الحكمة أم المزاح، فقال: إن في الزمان أشياء يشيب لها الرضيع، وتذوب لها صخور الجبال، فتضيق الصدور وتتسع الخيالات. ولم يكد ينهي كلامه حتى وجدتني غارقًا في تأملاتٍ عن حقيقة ما نراه وما نسمعه، وبينما أنا كذلك إذ قاطع تأملي قائلاً: "يا هذا، هل سمعت يومًا عن الذئب الذي يحلب النملة؟"
نظرت إليه وأنا بين مكذب ومصدق، فابتسم وقال: "أما ترى أن في الحياة من المشاهد ما هو أعجب من الخيال؟ دعني أحكي لك حكاية شهدتها بعيني ذات يوم في صحراء لا تُطاولها حدود، ولا تكسوها سوى الرمال والريح."
فقلت: "هات ما عندك."
فقال:
خرجتُ يومًا أبتغي رزقًا في أرض قاحلة، لا ظل فيها إلا ظل الحقيقة، ولا شجر فيها إلا ما ينبت في الخيال. وبينما أنا أمشي إذ رأيت ذئبًا قد جلس على ربوة عالية، يرقب بعينيه الصقر الجارح والطير الضعيف. لم أكن أصدق ما أرى، فقد كان الذئب يحمل بين يديه نملة صغيرة، كأنها قبضة تراب في يديه القويتين. وكان قد استدار بوجهه ناحية شجرة هرمة، ليس فيها من الحياة إلا جذعها المائل.
أدهشني المشهد حتى كدت أشك في بصري، فاقتربت على أطراف قدمي حتى لا أشعره بوجودي. رأيته يضع النملة على ورقة شجر جافة، ثم يُخرج شيئًا كأنما هو ضرع صغير، وراح يحلب منها قطرات بيضاء، يجمعها في حفنة كفه، ثم يشربها بتلذذ عجيب.
لم أتمالك نفسي حينها، فصرخت: "أيها الذئب! أما تخجل من ضعفها، وأنت القوي الجبار؟ أما ترى أن ما تصنعه أمر يخالف الطبيعة والمنطق؟ كيف لنملة صغيرة أن تمنحك حليبًا؟"
فرفع الذئب رأسه، ونظر إليّ نظرة من عرفني قبل أن أُخلق، وقال بصوت يقطر حكمة وسخرية:
"أيها الإنسان المغرور بفهمه، ألا ترى أن الدنيا مليئة بمشاهد كهذه؟ أما رأيت الأقوياء يشربون قوت الضعفاء؟ أما رأيت الملوك يحلبون رعيتهم فيجمعون منهم القوت، ثم يشربون عرقهم وهم صامتون؟ أما رأيت الغني يستغل الفقير ليعيش في رفاهية، ويتركه بلا قوت ولا أمل؟ إن كنت قد استنكرت حالي مع النملة، فانظر إلى نفسك وقومك، فلعل ما تفعله أنت أشد غرابة مما أفعله أنا."
ذهلت من حديثه، وسقطت الكلمات من لساني، كأنها أوراق خريف مزقتها الرياح. هممت بالرد، ولكن الذئب رفع يده وأشار إليّ بالصمت، ثم قال:
"عد إلى قريتك، وانظر حولك جيدًا. ستجد الذئاب تحلب النمل في كل زاوية، وأنت منهم."
ثم ولّى الذئب مدبرًا، والنملة لا تزال على الورقة، وقد بدت لي وكأنها تبتسم، أو ربما تبكي.
عدت إلى قريتي وقد ملأ رأسي التفكير، فرأيت بعيني ما لم أكن أراه: الأغنياء يزدادون ثراءً، والفقراء يغرقون في البؤس، والضعفاء يُستغلون بلا رحمة. عندها أدركت أن الذئب الذي يحلب النملة ليس مشهدًا من الخيال، بل هو صورة من واقع البشر، يُجسد طمع القوي في الضعيف، وسكوت الضعيف أمام جبروت القوي.
ما أراد المتنبي قوله هنا هو أن الخيال قد يتجاوز المنطق، ولكن الحقيقة أحيانًا أغرب من الخيال. كما أن السخرية يمكن أن تكون أداة أدبية قوية لإبراز التناقضات في المجتمع.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق