أبحث عن موضوع

الاثنين، 13 يناير 2025

"غُربة الأماكن بعد أُلفَتِها مُوجِعة" ............ بقلم : فاهم المدني// العراق






حين تتوارى الألفة خلف حجاب الغياب، تصير الأماكن جزرًا موحشةً تطفو على بحر من الذكريات الغارقة. ما أقسى أن يُبدّل الزمن وجه الأماكن التي أحببناها، فتتحوّل الزوايا الحميمية إلى أطلال صامتة، وتصبح المساحات التي احتضنتنا يومًا شاهدةً باردةً على انكسار الحاضر أمام هيبة الماضي.




هناك، في قلب الجدران التي نُقِشَ عليها دفء وجودنا، كانت الأرواح تلتقي بلا دعوة، والضحكات تتردد كأنها صلاة حياةٍ دائمة. لكنّ الزمان، في خيانته المُتقنة، نَزع عنها أُلفَتَها، فباتت الجدران شاهدةً على غيابنا أكثر من وجودنا، وكأنّها تلعننا بصمتها العتيق.




غُربة المكان ليست مجرد تبدّل في المعالم أو زوالٍ للوجوه، بل هي انقطاع عميق بين الروح وذاكرتها. إنها الشعور الثقيل الذي يتسلل إلى القلب حين تعود إلى ما ظننته بيتك، فلا تجد إلا صدى خطاك يرحل عنك كما رحلت أنت عن كل شيء. تُحاصرك التفاصيل التي كنت تحفظها، لكنها لا تحفظك.




في ذلك الركن البعيد من البيت القديم، حيث كان الضوء يتسلل بخجل عبر النافذة، صارت الظلال أكثر كثافة، وأكثر جفاءً. المكان ذاته، لكنه لم يعد كما كان؛ تغيرت ملامحه، أو ربما تغيّرت نظرتنا إليه. فنحن نحمل في داخلنا غربتنا، ونسقطها على كل ما حولنا.




الغُربة الحقيقية ليست في فقد المكان، بل في فقد القدرة على الانتماء إليه. الأماكن، مثل البشر، تُدير وجهها حين ننساها، وحين نحاول العودة، نجدها وقد ارتدت قناع الغريب، ترفض أن تعترف بنا كما رفضنا أن نُخلّدها في أرواحنا.




ما أقسى أن تكون الأماكن شاهدةً على انتفاء الأُلفة، أن تتحول إلى مرايا قاسية تعكس وجوهنا وقد بددها الزمان. ما أقسى أن ننظر إليها ونرى فيها آثار أقدامنا القديمة وقد طمستها الرياح، وكأننا لم نكن هنا يومًا.




غُربة الأماكن بعد أُلفَتِها ليست مجرد حكاية عن فقدان، بل هي درس بليغ في هشاشة كل شيء. إنها الحقيقة التي يهمس بها الزمان في أذن الإنسان: "لا شيء يبقى كما هو، لا مكان ولا ذكرى، ولا حتى أنت."






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق