أبحث عن موضوع

الاثنين، 13 يناير 2025

{طائرة القاصة ليلى عبد الواحد الورقية بين الكتابة والفضاء } بقلم الناقد: سعد المظفر





الدخول الى غالم الحكاية منذ ولادتها في بيئتها المكان المحكي فيه وأنطلاقها لتكون فضائها الخاص بها وتشكل عالمها تطير بنا القاصة ليلى عبد الواحد بطائرة منتشابكة الخيوط منذ الوهلة الاولى بعد مقدمة أحاديث السطوح… {بيوتنا ملتصقةٌ ببعضها، في حيٍّ قديم} حكاية الجارات التي تفتح لحظة الكتابة لتهيئ المكان والزمان وتقدم الراوي والمروي عنهم قبل أن تشخصن الحدث وتختصه بالربط بين الانثى /والفضاء اي انها اخذت عينة من كل الاحاديث ومررت عليها تجربتها القصصية لاحدث التفاعل وجلب الاستجابة من المتلقي{وردة، تلك الفتاة الرقيقة، ممتلئةٌ نشاطاً وفوضى، }في عملية صناعة هوية لانستطيع تجاهلها{نشاط وفوضى}هذه السيرة تشتبك مع ذات المروي عنها مع المكان المغلق الذي ينتج الحدث{حبسها والدها في غرفتها، ولم نعد نراهاعلى السطح.}فقد صارة الغرفة محبس وصار السطح ماكان اسطوري داخل المروي وبين المحبس والسطح لابد من تشكيل نقطة تحررب فكانت النقطةللانطلاق الى الفضاء{ كانت الطائرات الورقيّة، كبيرةٌ، زاهية الألوان }في تعميم لاضفاء جمالية لسردية الطائرة ورمزيتا في وقت واحد والانطلاق بالشرط الزماني من الرمزية وعن طريقها توسعة المكان على بعده الابعد وهو الفضاء في الحياة والنص لتبتعد عن سطوة المكان

وجغرافيته الى المكان الامنتهي{ شعورٌ لا يوصف ينتابني وأنا أرى طائرتي محلّقةً، ترتفع وتتمايل بدلال، ثمّ تستقرّ بثباتٍ في نقطةٍ بعيدة، في عمق السماء. أحسّ بأنني أطير معها إلى المجهول،}

هذه التدرجات للقفز من النقطة المرئية في الحدث المروي الى المجهول الذي تصل اليه الاحلام والطائرة التي تمثل الامل رغم تشابك خيوطها وان هذا المجهول احاط بها وبحميميتها واحدث لديها الخوف وفرض عليها واقعا لم تكن تتمناه ..طارت لتخفف وتقلل من هيمنة الاخر وتحدث هنا القاصة ليلى عبد الواحد التاثير المطلوب بتوضيف الاشكاليات المتاحة لها من خلال الاحتيال عل المكان واحتلال مكان اخر ابعد بطائرة من ورق لم تسلم من اشتباك خيوطها.

حاديث السطوح… / حكاية

ليلى عبدالواحد المرّاني

بيوتنا ملتصقةٌ ببعضها، في حيٍّ قديم يجمع عوائل مختلفة المستويات والأجناس، مع بعضها تشكّل نسيجاً متجانساً، وعائلةً واحدة. السطوحُ متلاصقة لا يفصلها عن بعض سوى حائطٌ واطئ بالكاد يحجب الجار عن جاره، حتى لنكاد نسمع شخيربعضِنا، وهمسات أزواجٍ مسروقة.

أحداثٌ لم أكن أستوعبها آنذاك، كريمة تضرب زوجها ليلاً، نسمع صراخه،وتعلو قهقهاتٌ مكتومة يطلقها الجيران نصف النيام . يتبوّل في الفراش ليلاً، هكذا قالت جارتنا وهي تضحك. وكريمة، جميلةُ كانت، ممشوقة القوام، بيضاء كالحليب، وخلف زوجها لا يكاد يصل كتفها، داكن اللون، قميء، يعاقر الخمر ليل نهار، يثرثر فتسدّ فمه بضربةٍ على رأسه حين يولول نادباً حظّه، متمنّياً طفلاً يملأ عليه بيته الخاوي.

أبن فخريّة ذو العشر سنوات، يمشي ليلاً أثناء نومه، قالوا أنّ جنّيةً تلبّسته وتستدعيه ليلاً . تملّكنا رعبٌ منه، حتى إنّنا تجنّبنا اللعب معه. كاد يسقط يوماً إلى الشارع حين تسلّق الحائط ليلاً، أنقذته يدُ أمّه الملتاعة وسارعت في احتضانه .

وردة، تلك الفتاة الرقيقة، ممتلئةٌ نشاطاً وفوضى، حبسها والدها في غرفتها، ولم نعد نراهاعلى السطح. لاحقاً سمعنا جارتنا البدينة تهمس بصخب .. ضبطها والدها تتحدّث مع وليد، ابن جارهم عبر ( الجدار العازل ). أصابنا الحزن لما حدث لوردة، نكنّ لها ودّاً وإعجاباً كبيرين .حكاياتٌ مضحكة تسردها علينا، وأحياناً مخيفة عن الجنّ والعفاريت، فنلتصق ببعضنا ونضحك خوفاً وهي تمثّل المشاهد مع حركاتٍ وغمزات تتقنها . توجّسنا منها بعد موقعة الجدار العازل، ونفورٌ لا تفسير له أصابنا اتجاهها.

حادثة وردة والجدار العازل، حدثت معي وأنا في الصف الأول متوسّط .

استرسلت سميرة، وقد شاب صوتها نزقُ طفوليّ ..

لعبتنا المفضّلة في أيام العطلة الصيفيّة، كانت الطائرات الورقيّة، كبيرةٌ، زاهية الألوان يصنعها لنا أخي الكبير. شعورٌ لا يوصف ينتابني وأنا أرى طائرتي محلّقةً، ترتفع وتتمايل بدلال، ثمّ تستقرّ بثباتٍ في نقطةٍ بعيدة، في عمق السماء. أحسّ بأنني أطير معها إلى المجهول، فأضحك جذِلة. طائرةٌ غريبة فاجأتني يوماً تحلّق وتعلو، حتى تكاد تلامس طائرتي، وكأنها تطاردها . فضولٌ كبير دفعني لأرى خصمي… ورأيته، فتىً نحيفاًيقاربني عمراً، تعبث الريح بخصلات شعره المسترسل على جبهته. تنحنحتُ كي أجذب انتباهه، رفع رأسه ونظر إليّ مبتسماً، ملامحه رقيقةٌ شاحبة، زادها شحوباً دفءٌ وخبثّ تنطق بهما عينان واسعتان. إبتسم؛ فانجذبت إليه، ثمّ أشاح؛ فحزنت .

لعدّة أيّامٍ ، وبقلبٍ يهفو إلى رؤية ذلك الوجه الشاحب، واظبتُ على ممارسة لعبتي ظهراً، وفِي ذروة اشتعال الشمس، مستغلّةً فترة الظهيرة التي تخلدُ فيها العائلة إلى قيلولةٍ طويلة في سرداب بيتنا .

الخوف كان يلازمني أن يفتقدني أخي الذي أخشاه بمقدار حبّي واحترامي الكبيرين له .في كلّ مرّة أَجِد خصمي الحبيب، قد سبقني إلى السطح، وطائرته مستقرّةٌ في كبد السماء، وخصلات شعره متناثرةٌ فوق جبهته .مزيجٌ من الإعجاب والتحدّي، كان ينتابني، ووخزةٌ لذيذة تدغدغ مشاعري، لا أعرف لها تفسيراً، أخذت تشدّني إليه. نظراته المتحدّية، جعلتني أشحذ همّتي، فأشدّ خيط طائرتي، وقد تمرّستُ في السيطرةِ عليها، فتحلّق، وعالياً تحلّق، حتى تجتاز طائرته، ومنتصرةً أضحك ..

لم أرهُ في اليوم التالي، تسلّقتُ الجدار الواطئ، لم يكن هناك على السطح، رميتُ حجراً صغيراً على سطحهم، دون جدوى، حزنت . ربما غضب منّي، وها هو يعاقبني، ورغم ذلك حلّقتُ بطائرتي، وتمنّيتُ أن أستقرّ وإيّاها فوق غيمةٍ بيضاء، ويكون هو معي، نتراشقُ ندف الغيوم المتناثرة، نبعثها رسائل حبٍّ ومرح إلى كريمة، إلى والد وردة، وإلى اليدِ الرحيمة التي أنقذت سائر الليل ..

كبيرةٌ وزاهيةٌ بذيولها الطويلة الملوٌنة، كانت طائرتي هذه المرّة . تمنّيتُ أن يراها، وأتلذّذُ حين أرى الغيظ والإندحار على وجهه، ولكنه لم يظهر، وربما هرب من المواجهة، هكذا صوٌر لي غروري !

طائرةٌ كبيرة فجأةً ظهرت، تحلّق بجنون، مختصرةً المسافات، حتى لامست طائرتي وعانقتها. لا، لم يكن عناقاً، كان هجوماً شرساً باغت طائرتي المسالمة. عبثاً حاولتُ تغيير مسارها كي أنقذها، هي الأخرى قاومت بيأس، ثمّ بدأت هبوطاً سريعاً، كمذنّبٍ تائه، منكّسةً رأسها وقد تناثرت ذيولها، وفوق سطحٍ بعيدٍ تهاوت حزينةً منكسرة.

قهقهةٌ عالية فجّرت الدماء في رأسي، وصوته ساخراً يعوي.. ماتت طائرتكِ.. قتلتها . بكيت، ولعنته، وفِي الحقيقة شتمته ورميت عليه أقذع النعوت وسط شهقاتي الملتاعة. إنكفأتُ على الأرض أنتحب، واضعةً رأسي بين ركبتيّ، وكماردٍ انشقّت عنه الأرض فجأةً، انتصب أخي الكبير أمامي، ونظراتٌ من جحيمٍ يلقيها على سطح جارنا. جفلتُ، وتكوّرتُ على نفسي مرتعبة، أخفيتُ خيط طائرتي المنكوبة، وأنا أحسّه يمزِّق جسدي المرتجف بنظراته الملتهبة. غاص صوتي في أعماقي حدَّ القدم، إرتجفت كلماتٌ مبعثرة فوق فمي .. لماذا تبكين، وأين الطائرة ؟ وبصوتٍ كالرعد.. هيّا انهضي، لن تصعدي إلى السطح ثانيةً، ولا طائرات بعد اليوم ..

وهرب العدوّ الحبيب. حلمت به ليلاً، وجهه ازداد شحوباً، تعلو فمه ابتسامةٌ خبيثة، وقد استطالت أسنانه، حتى أصبحت أنياب ذئبٍ مفترس وهو يقضم أشلاء طائرتي .

هجمت عليه كي انتزع بقايا طائرتي من بين أنيابه ، حزينةّ، باكية نظرتُ إليه.. لماذا فعلتَ ذلك ...؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق