النص صرخة مخنوقة من النصوص التي يغلب عليه طابع التساؤل بغرض استفزاز فكر القارئ رغم أن التساؤلات جاءت مرمّزة ففي استهلال الشاعرة للنص (أكنت لأبقى حيّة....؟ ) ما يشدّ القارئ لمتابعة القراءة من خلال نزعة الفضولية وحب المعرفة ، ثم يلي التساؤل عبارة لولا حرف الامتناع فبقاؤها على قيد الحياة مشروط بالصبر والأمل الذي بدأت شمعته تخبو ليكون هناك الليل كرفيق يقطع الصمت في ذبول الروح بتحريض الذكريات على التدفق من خلال الصرخة المكتئبة، وهنا نجد أنسنة الشاعرة للصرخة بمنحها صفة الكآبة.
التشبيه باستخدام كاف التشبيه بعبارة كفتاة ميتة ، هنا نجد أن الموت المقصود ليس موتا حقيقيا بل مجازيا ولأن الموت اكتنف الذات فهي ستصبح لصيقةً للظلمة وللصمت الذي سترفض الرضوخ له لأنه أنهكها تقول الشاعرة ( أسقطت عن كاهلي جميع التّهم ) ولكن كانت ضريبة هذا الصمت إحراق جثتها في نوبة الشك والريبة وهنا تتجلى الإزاحة في استبدال الصمت بفعل آخر وهو إحراق الجثة كما ولو أن بالألم ستحدث صحوة ومن تلك الصحوة ستنطلق صرخة تقضي على ذلك الصمت .
وهنا تتضح صحة تعريف الإزاحة في علم النفس الفرويدي: هي آلية دفاعية لاشعورية حيث يستبدل العقل هدفا جديدا أو كائنا جديدا كبديل للأهداف التي يشعر أنها خطرة أو غير مقبولة في شكلها الأساسي.
ونعود إلى عبارة جثة في النص لنجد أنها تمثل (قتيلة) وتلك القتيلة أعطتها الشاعرة صفة امرأة هشّة أي هي امرأة حية ولكنها ميتة بحكم هشاشتها، تتساءل الشاعرة قائلة: هل لامرأة هشة القدرة على مواجهة سفاح؟ وهنا نعصف ذهننا لنصل إلى غاية الشاعرة من ذلك وهي في طرح قضية إجتماعية كبيرة حول تعنيف المرأة فماذا يمكن أن يشكل هذا السفاح هل هو رجل؟ هل هو المجتمع ككل؟ هل هو الظلم؟ ولماذا صفة هشّة للمرأة إن لم تكن معنفة معنويا أكثر منها معنّفة جسديّا؟!
في عبارة (الموت يوزع ألاعيبه ) إن فككنا لغزها سنجد أن الموت المعني هنا ليس بمعناه الحقيقي وإنما بمعناه المجازي الترميزي وهو ليس نقيض الحياة بل هو المساهم في تشويه الجمال، في نشر الفساد، في بث روح التفرقة،
في توسيع رُقعِ الجراح، في استبداد الطغاة، في التحريض على العنصرية والطائفية، في تعنيف الضعيف وإذلال الفقير.
يستوقفني هذا الجزء من النص
(ومثلَ لعبةِ القطِّ والفأر لفيلمٍ متحرّكٍ مثيرٍ في تدويرِ عدسةِ الإدانة لعقلٍ مختلٍ)
هنا الترميز في أوْجِه وأقصى مداه، فاللعبة الدائرة بين القط والفأر هي تلك الحرب المستمرة التي لا تنتهي وتلك اللعبة تستغلها الدول الكبرى لإشغال البلدان المتخلفة فكريا والمتشددة دينيا لتصبح تلك الدول لعبة بيدها تدينها على اللاشيء وتحاصرها وتفرض عليها العقوبات أو تجعلها بلدانا أشدّ ضعفا تنهكها النزاعات الداخلية .
النص بقلم تغريد بو مرعي:
صـرخـة مـخـنـوقـة!
أكنتُ لأبقى حيّة لولا أنْ ابتلعتُ بكائي وتلاشت آخر شمعة خلفَ أضلعِ الصّبر .
ثمّ وعلى حينِ غرّةٍ، أطلقَ الليلُ ثرثراتهِ واجتازَ ممرّ الإرتعاشات في ذكرياتي بصرخةٍ مكتئبة!.
وكفتاةٍ ميّتة تركتُ نفسي تنزلقُ في أرديةِ الظلمة محدّقة في الفراغِ يملؤني ألمٌ لا أعرفُ موضعه .. !
وكي لا ألتزم الصّمت ، أحرقتُ جثّتي في نوبةِ الشّكّ والريبةِ ، فأسقطّتُ عن كاهلي جميعِ التّهم ..
وفي خضمِّ صرخة ، لم يردعني أحد ، حاولتُ الكشف عن هويةِ القاتل ، فكيفَ لامرأةٍ هشّةٍ ، لا تكادُ تقوى على الحياة أنْ تواجهَ سفاحًا؟
ومثلَ لعبةِ القطِّ والفأر لفيلمٍ متحرّكٍ مثيرٍ في تدويرِ عدسةِ الإدانة لعقلٍ مختلٍ ، يوزّعُ الموتُ ألاعيبه بتضليلٍ متسلّطٍ وساديّ..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق