فقد كتب الشعر ردحاً من حياته ، وكان شعره خالياً من الإيقاع الخارجي ، فهو – من هذه الجهة –قد ينتمي إلى ما يسمى (( قصيدة النثر )) لكنه من حيث التصوير والبناء الشعري قد ينتمي إلى شعر التفعيلة.
يزخر شعره بالصور المحلّقة ، فهو يملك مخيلة واسعة الأفق ، ويرى أن القصيدة يجب أن تكون مليئة بالصور الجديدة المدهشة لذلك تراه يسعى سعياً حثيثاً إلى المزيد من التصوير الفني .
أمّا موضوعات شعره فمتنوّعة ، ولكن يغلب عليها موضوعان أساسيان هما : الهم السياسي – الاجتماعي ، والغزل . وقد كتب في الحب نيفاً ومئة قصيدة أطلق عليها أصدقاؤه تسمية (( الندويات )) . وقد جمع أشعاره بين دفتي مخطوط بعنوان (( نوافذ على الجرح )) .
تحوّل إلى كتابة القصة القصيرة ، فأنجز مجموعة كبيرة من القصص ، تقدم بمجموعة منها تحت عنوان (( الضّحك على اللحى )) إلى مسابقة الدكتورة سعاد الصباح في الكويت
ففاز بالجائزة الثانية ، وتقدم بمجموعة أخرى تحت عنوان (( قهقهات الشيطان )) إلى اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، فوافق على طبعها بالتعاون .
إنّه القاص مصطفى الحاج حسين ، العين الراصدة ، والحدقة الجريئة التي تلج عالمه الداخلي ، كما تتسلل إلى عوالم الآخرين دون استئذان ، لكنها تخرج منها بعوالم قصصية ناجحة .
إنّه القاص الذي لم يغادر – في قصصه – حلب وضواحيها
فهو مخلص للمكان مرتبط به ارتباطاً وثيقاً ، يؤمن بأن أية بقعة من الكون تنبض بمئات القصص ، وما على القاص المبدع إلاّ أن يستلّ قلمه ، ويحاكي ما حوله تسجيلاً فنياً مبدعاً .
إن كل شيء حوله قابل لتحويله إلى قصة قصيرة ، كل حدث مهما كان صغيراً ، وكل شخصية أيضاً يملكان كمّاً قصصياً هائلاً لذا نجد قصصه متحركة في جميع الأبعاد ، متسوبة إلى كل الزوايا ، متنوعة المآكل .
وإذاً ، فلا شيء — على الإطلاق — لديه عصي على القصة وبالتالي يغدو كل شيء في الحياة فنّياً ، إذا ما تيسّر له فنان يستطيع تطويعه ، وتدجينه في أحد الأجناس الأدبية
أو الفنّية .
قد يقودنا هذا القول إلى أنّ قصص مصطفى الحاج حسين واقعية ، وهذا صحيح تماماً ، لكنها واقعية تمتلك حرية الاختيار ، فهو – على الرغم من إخلاصه للوقائع إلى درجة التسجيلية أحياناً – يتدخل بخياله الفني ، ليضفي على الأحداث ما يتلاءم وفكرة القصة ، أو الرؤيا التي يحبّ أن يطرحها من خلالها ، وهكذا تغدو واقعية مصطفى في قصصه واقعية ذات بعدين :
1 – واقعية المضمون :
فهو لا يكتب قصة من قصصه بمنأى عن أحد المصادر التالية :
التجارب الذاتية ، تجارب الأهل والأقارب ، تجارب الأصدقاء ، الموروث الشعبي ، أو ما يشتهر من أحداث الواقع المحيط .
فهو كاتب مفرط الواقعية ، يختار قصصه من الواقع المعيش غالباً ، فتطغى على قصصه سمة التجربة الحياتية الحقيقية ، فكل ما يكتب عنه – بلا استثناء- رآه حقيقة ، وعاش جزءاً منه ، أو سمع عنه نقلاً عن رواة ثقاة ، لذلك نرى تأثير قصصه –في الغالب الأعم – سريعاً ومباشراً ، وهو يعمل على الفكرة أحياناً ، لكنها يجب ألاّ تكون فكرة متخيلة ، فيكتب قصة الفكرة ، ولكن تكون قبساً نموذجياً مما يحدث في الواقع عادة وإن كانت غالبية قصصه قصة حدث . ولنأخذ مثلاً على قصة الفكرة،تلك القصة التي كانت عنوان مجموعته المنشورة(( قهقهات الشيطان )) حيث نجد (( نوري )) بطل القصة ، وهو غلام بسيط ، يدخل إلى البيت ، فيفاجأ بوفاة أبيه ، ويرى الجميع مجتمعين يبكون ، فلا يستطيع أن يذرف دمعةً واحدةً .
ويبدأ التفكير بأنه يشعر بالأسى لأنّ أباه مات ، ولكنه – في الوقت نفسه – يسعد لهذا ، ويسمي هذا التفكير وسوسة من الشيطان ، فلا يمكنه إلاّ أن يبتسم رغماً عنه ، ها هو يقول :
(( لقد مات أبي ، ينبغي أن أبكي ، حسدت أمي ومريم وزوجة عمي وابنتها ، حسدتهنّ على دموعهنّ ، المرأة دائماً جاهزة للبكاء .. يالسعادتها .. ابتهلت إلى الله أن يمنّ عليّ بدمعة واحدة ، لعنت الشيطان الرجيم في سري ، صممت آذاني عن سماع صراخه : – لقد أصبحت حرّاً طليقاً – ابتعد أيها الشيطان القذر ، فأنا أحبّ أبي رغم كلّ شيء ، لقد سامحته .. أسرعت إلى غرفتي ، وعلى الفور بللّت إصبعي بلعابي ، ثمّ دهنت جفني .. )) .
إنّه يتذكر قسوة أبيه عليه ، وأنّه كان السبب في عذاباته
فهو قد حرمه من متابعة الدراسة ، وأجبره على العمل .
وفي محاولة منه لإقناع الشيطان بالحزن على أبيه ، يهرب من الجميع خوفاً من أن يكتشفوا ابتساماته . وفي المقبرة يبث شكواه إلى جده الظالم الذي كان السبب الحقيقي في بناء شخصية أبيه .
كثرت الشخصيات في هذه القصة ، ولكنها ظلّت جانبية ، بسيطة الحضور ، وقد سيطر السرد على القصة على الرغم من وجودالشخصيات والحوار القصير الذي يدور بينها ، عبر ارتباطها بالبطل ، وكانت الخاتمة قوية ، فثمة دمعةواحدة
حقيقية انحدرت من عينيه ،ويحرص نوري على إبقائها ، غير أنّ جنازة أبيه ما تزال بعيدة .
2 – واقعية الشكل :
مصطفى كاتب غير مولع بالتجديد كثيراً ، فهو — غالباً — ما يسرد قصصه بواقعية حادة ، معتمداً المباشرة لفظاً ومعنى ، واضعاً نصب عينيه قارئه ، فهو كثير الاهتمام به ، لذا يبتعد عن كل ما يبعده عن القارئ ، ولا تكاد أمسية من الفعاليات الثقافية بحلب شارك فيها مصطفى الحاج حسين تخلو من تعلق المتلقين بقصصه ومن تأثيرها المباشر فيهم .
إنّ القصة التي يكتبها حاج حسين تبقى عالقة في الذهن
مستمرة فينا بعد قراءتها، أو سماعها ، ولذلك يعود — في ظني — إلى أمرين ، أولهما الحرارة التي تمتلكها قصصه ، فهو يختار المواضيع الساخنة ، بحيث تظهر حيوية متدفقة ، توحي بطزاجة الحدث وواقعيته وتلامسنا أياً ما كان انتماؤنا أو اتجاهنا الفكري ، وثانيهما بروز جانب النقد الاجتماعي الذي يعتمد على السخرية المرّة غالباً ، وهكذا نراه يكشف زيف علاقاتنا الاجتماعية ويقوم بتشريح دواخلنا ، ونحن نستمع إليه مستمتعين ، ونتابعه لأننا نلمس في قصصه واقعية انتقادية محببة ، تسعى إلى تغيير الظواهر السلبية بثورية مقنعة ، تتسلل إلى النفس ، لتفعل فعلها النقدي الواقعي العميق .
ويقودنا هذا إلى الحديث عن قدرة مصطفى الحاج حسين على الدخول إلى عوالم النفس الإنسانية ، بحيث يستطيع استكناه الدوافع الداخلية ، فيتتبع خطاها بقدرة فائقة ، إنّه قادر على سبر أعماق الإنسان ببساطة مدهشة ، وبذلك نجد غالبية أبطاله مصابين بعقدة (( مركب النقص )) ، فهم يحاولون جاهدين لتغطية عقدتهم تلك بأساليب وسلوكيات مختلفة ، تبدومضحكة أحياناً ، وهذا ما نجده واضحاً في معظم ققص حاج حسين ، من مثل قصة (( واقتنى تميم نقاده )) حيث نرى شخصية تميم هذا شخصية مأزومة منذ البداية ، فهو شاب مدلل ، غير أنه يشعر بالعجز لرسوبه المتكرر بالجامعة ، فيجرّب التمثيل في المسرح الجامعي ، فيفشل ويغدو أخيراً شاعراً بالمصادفة الساخرة ، وهي مصادفة تعتمد النقد الفكري والفني من قبل القاص ، فالناقد الشاب هو الذي منح تميماً إجازة الشعر ، على الرغم من لجنة التقييم وآرائها ، في المهرجان الشعري الجامعي ، وحيث يصبح بيت تميم مزاراً لكل محرري الجرائد والمجلات من العاصمة ، فإنّ القصة ترصد المال والجاه قيماً عليا في الأدب والفن .
.
والقاص مصطفى الحاج حسين يرسم شخصياته بعناية ويهتم بعرض جزئيات من حياتهم ، فقد يضطر – أحياناً – إلى العودة نحو الماضي لاستكمال صورتها منه وغالباً ما يرسم الصفات الجسدية والخارجية للشخصية وذلك للوصول إلى قدر أكبر من تحديدها ، وبخاصة تلك الصفات التي تمنح القصة سلاح السخرية الحاد ، في النقد الواقعي ، وتعرية السلبيات فيه .
إنّ تجربة مصطفى الحاج حسين تجربة غنية فيما يبدو فهو قد أفاد من تجربته الشعرية بحيث نلحظ الشعرية في لغته القصصية ،وكذلك قدرته على التصوير الفني المتقن ، يجسد لنا الشخصيات والأحداث تجسيداً حيّاً ومباشراً ، فنكاد نلمسها بأيدينا ، وهو — في سبيل ذلك — يصر على جعل المتلقي يلهث وراء الحدث ،عبر حشد الكثير من التراكيب والألفاظ والصفات ، معتمداً عنصر المبالغة في عمليةالتشويق
، لشد المتلقي الذي يضطر — بدافع الفضول على الأقل — لمتابعة القصة ، وكثيراً ما تنجح هذه المحاولة ، فتترك آثارها الإيجابية الباقية في المتلقين .
وربما كان من الضروري الإشارة إلى أنّ أجواء قصص
الحاج حسين هي أجواء متنوعة متباينة ، فهو يمتح من الذاكرة أحياناً ، فيكتب قصصاً تعود إلى تجارب قديمة ، تصور جانباً هاماً من مدينة ( الباب )مدينته الأم،فيكشف
من خلالها الواقع المتردي ، ويصور مافيها من أمراض اجتماعية وأخلاقية وفكرية ، وقد يتجه إلى عوالم المثقفين
والأدباء منهم بخاصة فيسجل ما يعتمل في هذه العوالم من زيف وخداع ، ويعري شخصيات هذا العالم ، بجرأة تصل حدّ الفضيحة ،في بعض الأحيان وهذا ما جعلني أطلق عليه ذات يوم صفة ( الكاتب الفضائحي ) ، وكان ذلك في النادي العربي الفلسطيني ، في أمسية أقيمت احتفالاً بالأدباء الذين فازوا بمسابقة دار سعاد الصباح من حلب وكان منهم ، وكذلك في نادي التمثيل العربي للأدب والفنون .
إنّه كاتب لا بتحرّج من رصد سلوكيات الأدباء وأحوالهم
الداخلية ، ويبدو كل ذلك نابعاً من تجربة حقيقية له ، إذ عايش ، ويعايش واقع الأدباء وتربطه بمعظمهم صداقات كثيرة .
فقد كتب الكثير من القصص ، كان أبطالها شعراء وقصاصين ونقاداً ، من مثل ( واقتنى تمتوم نقاده – إجراءات – الضحك على اللحى – القصيدة الميتة – المبدع ذو الضفتين .. ) .
ولنأخذ الأخيرة مثالاً على ذلك ، حيث نرى شخصية أدبية ومثقفة ، أو هكذا يدعي صاحبها ، متخمة بجنون العظمة ، وهذا — فيما يبدو — معادل موضوعي للشعور بالنقص .
وتقوم القصة بفضح هذه الشخصية من كل الجوانب ، ورصد تحركاتها النفسية من خلال كلامها ، ويأتي السرد عن طريق البطل ( الراوي بصيغة الأنا ) .
والقصة تسجل انتقاداً صارخاً لكل أولئك الذين
يستسهلون العملية الإبداعية ، وأيضاً تنتقد الثقافة وأوضاعها الراهنة ابتداء من النشر وانتهاء بالإبداع الحقيقي ، وكذلك تنتقد الدارسين الجامعيين ، وغيرهم من النقاد والمثقفين .
ويبدو التأزم في القصة واضحاً منذ البداية ، ويأتي التسلسل الزمني في سبيل عرض الحالة والاستغراق فيها أكثر ، فالبطل – هو ربّ الشعر كما يقول – يقرر كتابة القصة القصيرة ، مفتخراً بكل تجاربه على جميع الأصعدة ، ويبدو أنّه مضطر إلى الكتابة القصصية ، فهو وصل إلى قناعة مفادها أن القصة أكثر استيعاباً لحوادث الحياة وهمومها من الشعر ، وكذلك فإن زوجته تحب القصة ، وهو الآن يميل إليها . وقد برزت في هذه القصة شخصيّة واحدة ، وزمن واحد ، وإن كان ثمة أزمان ماضية ذكرت من خلال السرد ، وجاءت الإنارة داخلية ، فلا غموض ولا إبهام في القصة .
وكذلك يمتح القاص الحاج حسين من قاع المجتمع الغائص في مستنقع العادات والتقاليد البالية ، فيكشف لنا أنماطاً من السلوكيات والتصرفات في هذا الواقع ، يعرض بأخلاقيات هذا المجتمع وقواعده ، معرياً زيف بعض شخصياته ، من مثل قصة (( دستور من خاطره )) التي ترصد شخصية مدّع شيخ طريقة ، وهو يظهر التقوى ويدعي الإيمان ولكنه – في الحقيقة – بؤرة للرذائل ، وأصناف الفجور .
وقد يعتمد القاص مصطفى الحاج حسين على الموروث الشعبي في بناء قصته ، مفيداً من حادثة شعبية صغيرة يقوم برسمها في قصة فنية متكاملة ، كما في قصة (( باثور الشاويش )) وأيضاً في قصة (( تل مكسور )) ، وتعد هذه الأخيرة من أجمل قصصه ، فهي – وإن كانت مبنية على واقعة صغيرة ، فحدثت في إحدى القرى التابعة لمدينة حلب – إلاٌ أنه استطاع – من خلالها – تناول واقع القرية ، وما فيها من جهل وتخلف وخوف ، وبخاصة أمام معلم المدرسة المتعلم ، وهو معلم وحيد ، ينفش ريشه كالطاووس ، ويخدع أهل القرية مدّعياً بأنّه مسنود من العاصمة، ويتخذ من التهديد بتقاريره السياسية سلاحاً له أمام الأهالي ،الذي يخضعون له في النهاية ، بما فيهم المختار ، ولا يملكون حياله أي فعل ، وتتأزم القصة ، فتكون الذروة عندما يشاهد المعلم تلاميذه يلعبون بكرة صنعوها من الخرق يهجم عليهم ، فيكتشف أنّ علم المدرسة قد حشر أيضاً في الكرة الخرقية ، وتبدأ المأساة فهو لا يرضى بمثل هذا الفعل، وتتنامى القصة بأحداثها لتصل إلى المواجهة الصارخة بين معلم الابتدائي وبين خديجة زوجة الشهيد ، وابنها جمعة الخلف تلميذ المدرسة ، حيث يتهمه المعلم لأن الأخير يرغب بأمه التي تأبّت عليه كثيراً ، ويبدأ بضربه ، وتجتمع القرية ، وتكثر التوسلات ، ويتدخل المختار ولكن المعلم لا يرضى ، ويهدد ويزبد بأنه سيكتب تقريراً للسلطات الأمنية ، وسيسجن هذا الخائن ،وتقف خديجة الأم بين الجمع ، وبخبث يجرها المعلم للحديث والاسترحام ، حيث يبدأ بالتهجم على زوحها ، متهماً إياه بالخيانة لأنه والد جمعة ، وهنا تنفجر خديجة فزوجها مات شهيداً ، ولا تقبل مثل هذه الإهانة ، فتحقر المعلم ، وتهجم عليه لتضربه ، وتأتي النهاية لتشير بطرف خفي إلى استشراء الخوف ، وانتشار الجهل الذي يجعل الجميع يقفون مكتوفي الأيدي ، يدفعون ضريبة جهلهم وخوفهم وتكون الخاتمة القوية التي تعد من أجمل خواتيم قصص الحاج حسين حيث يوقف اللحظة الزمنية ويد خديجة مرتفعة للأعلى قبل أن تنزل على خد المعلم ، وكأنها ترتفع بدلاً من علم البلاد .
إنها قصة ناجحة قصصياً وفنّياً ، تمتاز بالحرارة والصدق ، وحركاتها المكانية والزمانية تندغمان ليضيع الوصف والسرد في خضم الأحداث .
وكثيراً ما نرى شخصيات قصصه نموذجية ، أو بتعبير أدق ، يصورها القاص ويرسم أبعادها لتغدو نموذجية ، ولا نعني –هنا – الحكم القيمي عليها ، فقد تكون سلبية أو إيجابية . وربما كان من الضروري أن نشير إلى أنّ معظم شخصياته هم من الشباب الذين يعيشون أزماتهم الواقعية والإجتماعية ، وفي أحيان أخرى أزماتهم العاطفية والفكرية ،ولا شك أن ذلك نابع من كون القاص شاباً حتى الآن طبعاً .
وها هي قصة (( الإنزلاق )) تبدأ بوصف حافلة مكتظة بركابها ، وتتجه العدسة نحو البطل المثقف ، مدرس الفلسفة وعلم النفس محشوراً بين الجموع ، إنّه فقير يعيل أمه وأخواته العوانس ، مكبوت لا يقدر على الزواج ، يقف وراء شقراء في الحافلة المزدحمة ، وتبدأ هواجس الكبت والأخلاق بالصراع في رأسه وعبر المونولوج الداخلي يكشف القاص بطله وهو يؤكد لنفسه بقوله:
(( سقط القناع … إنّي بكل بساطة أنقسم إلى اثنين ، مدرس فلسفة يتشبث بالأخلاق .. وحيوان شهواني )) ويسقط في خضم الصراع يدفعه كبته الجنسي ، ولكنه يكتشف أنّ هذه الفتاة إحدى طالباته .
ولا تغيب المرأة عن قصص الحاج حسين ، فهي موجودة في كل قصة تقريباً ولكن ثمة علاقة مشوهة – أحياناً – بين تلك المرأة من جهة ، وبين الرجل من جهة أخرى إذ غالباً ما تظهر العلاقة غير سوية بينهما ، ولا نقصد علاقة الحب فقط ، بل المرأة أماً وزوجة وابنة وحبيبة . وتظهر المرأة لديه أحياناً أخرى قوية فعالة ، وصاحبة موقف حقيقي، من مثل قصة ( شرف العائلة ) و (( تل مكسور )) .
وكذلك لا يغيب الوطن ولا الأرض عن قصصه ، حيث نجدهما كثيراً ،وبخاصة في قصة ( شرف العائلة )
وذلك عبر رمزية تشف عن المغزى من ورائها فهي – فيما يبدو – قصة فلسطين الجريحة ، ويبدو الأعمام الكثيرون ، وهم في القصة رمز للدول العربية ، غير مبالين إلاّ بأنفسهم ومصالحهم ، وهم يعرضون على ابن عمهم / الأب في القصة ، أن يقوم ابنه بقتل الفاجرة ، التي خرجت على قواعد العائلة وشرفها ، فهم يريدون غسل العار ، ولكن ليس بأيديهم أو أيدي أبنائهم ودون أية خسائر، وكذلك في قصة( تل مكسور ) التي تشي عن رمزها بوضوح تام ، حين ترتفع يد زوجة الشهيد في وجه المعلم مثل علم البلاد خفاقة مشرقة .
وإذا كان لا بد من الإشارة – في،النهاية-إلى بعض الملحوظات الفنية ، فإنني أشير إلى أن قاصنا يعتمد على السرد كثيراً ، وهو ما يسوقه إلى الاستطراد ، الذي يوسع من حدقة القصة القصيرة، أو يشغلها بحوادث جانبيةوسخصيات
إضافية .
هذا مع الإشارة إلى أنّ القاص يجيد عملية القص في النسق الحكائي ، ولكنه يتدخل – أحياناً – في صلب القصة ، فيعلّق ، أو يضيف عبارات توضيحية لا داعي لها . كما أننا نلمس،خطابية ومباشرة في عبارات قصصه ومفرداتها ، ولربما تقوده إليها رغبته العارمة بالمبالغة والإثارة ، ولكنه يستطيع — بما يملك من قدرة على الحبكة ونسج خيوطها الفنية — إذكاء حدّة الصراع بين الشخصيات ، ورسم عدة عقد في القصة الواحدة ، أو أكثر من ذروة فيها ، وهذا يؤدي إلى تأثيرها في المتلقي وربطها به ربطاً حميمياً عبر نمو عنصر التشويق والإثارة .
كما يمكن الإشارة إلى نمطية اللغة القصصية، هذا مع التنبيه إلى نجاح لغة الحوار في قصصه غالباً ، حيث نراها مناسبة للشخصيات ، تميل إلى الحديث العادي ، دون اللجوء إلى عامية مغرقة ، أو فصيحة معقدة .
وأخيراً يمكن القول إنّ تجربة القاص مصطفى الحاج حسين تجربة غنية و واعدة حقاً ، تنبئ عن خير كثير وعطاء فني متميز ، فيما إذا تابع معاناة الأدب حياة وقراءة وكتابة . ولا أجد ما يلخص ويصور شخصية قاصنا إلاّ قول الشاعر أبي الطيب المتنبي حين قال :
وإذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق