العاشر من أيلول ها هو يمضي ليسجّل في مفكّرتي تمام السنة السادسة على زواجي، ستّ سنوات وأنا في قفص الزوجيّة، ولكنّه قفص لا يتسع لأكثر من واحدٍ هي أنا، هل أنا حقّا متزوّجة، تبا لهذا الخاتم، لا يزال يخاصر إصبعي حتى كاد أن يذوب فيها، كلّما نظرت إليه يطالعني مسعود ببسمته، يمدّ يدين عاريتين من الشعر ليلف خصري، يجذبني نحوه يذيبني فيه، كما لو كنت قطعة حلوى. شهرَ عسلي دام سبعة أيام وست ليالٍ ، لأنّ اليوم السابع كان بلا ليل، أليلت وحيدة، بعد أن غادرني ومضى.
منذ شهور، وذلك الشيء ينقر شباك غرفتي كل صباح، ويلح عليّ كي أستيقظ، لكنّ اليوم ليس كباقي الأيام، فالبرد المحنّط، وأفواج الصقيع التي راحت تنثال من كل منفذ، وبرودة السرير، كل ذلك كان يمنعني من الاستجابة لتلك النقرات الخفيفة، التي اعتدت سماعها إلى أن غدت جزءًا من صباحي، باءت جميع محاولاتي لمعرفة مصدر النقر بالفشل، كنت كلّما أتململ ناهضة وأنا أفرك عينيّ، تغيب الأصوات ويطير معها النوم، أتراني أحلمُ أن أحلمَ؟ ها أنا ذا أزيح الستارة، ثم أُشرِعُ النافذة الوحيدة المغطاة بشريط منخلي، لمنع ما قد يتسلل إلى غرفتي من حشرات أو غبار، قلت غبار ؟ ربما يعلق بعضه، أقف أمامها وهي تستقبل وفود الهواء، أعب دفعة منه، فتسري في رئتي باردة منعشة، لكنها لا تلبث أن تشتدّ برودتها، فأهرع لارتداء الروب النيلي الذي اشتراه لي مسعود قبل أن يسافر بيوم واحد، وأعود لوقفتي أراقب الدرب التي غيبته منذ سنوات.
كان ذلك بعد زواجنا بسبعة أيام، عندما أخذ حقيبته، وأحلامنا، ومضى، قال لي وهو يخطو خارج عتبة الدار:"حبيبتي، أنا مضطر للسفر، تكاد مهلة بطاقة الإقامة تنتهي، انتظريني لن أغيب طويلا، سنة على الأكثر، بعدها، سآتيك على عجل، وأحملك على بساط قلبي، ونعود معا إلى هناك حيث .." ويسكت دون أن يضيف شيئا.
وها هي السنة الرابعة تكاد تمضي، وفيض الرسائل المحمومة بالشوق والغرام لا تنتهي، تأتيني مفعمةً أردانها بعطر النرجس تارة، وأخرى مضمّخةً بأنفاس الربيع، كأنّي بها قوس قزح وقد ازدانت حمرة وخضرة، واستراحت على زواياها عصافير ترفرف مزقزقة، وأزاهير شتى، كنت أراه بتلك الرسائل، فما أن أفضَّها حتى يطلّ من خلالها ببسمته، وغمّازة خدّه، وبريق الشوق في عينيه.
ولد حبنا قبل أن نتزوّج بسنوات، وترعرع على دروب المدرسة، وفي الحديقة العامة بعد انتهاء
الدوام، حتى إذا نلت الثانوية، دخل من الباب مع والده طالبا يدي من أبي، ولم يطل الانتظار حتى كان الزفاف، حملتنا سيارة مزيّنة بشتى الورود إلى داره، بل دار أبيه، وهناك في غرفة مطلية بلون ذهبي، ونافذة مطلة على الطريق، فُرِشَتْ على عجل، بسرير مزدوج، خزانة ملابس، بعض الشراشف والأغطية، طاولة ومرآة صفّت أمامها أدوات زينة من كل الأصناف. تلك كانت غرفة نومنا، التي قضينا فيها ست ليالٍ وبضع نهار من اليوم السابع، بعدها مضى...
مضت السنة الأولى ، وكان لا يزال يقف أمامي كتمثال بين الفينة والأخرى، تارة يلقي علي بعضًا من أشعار غزل حفظها كما قال صغيرا، وتارة يقدم لي مغلفا ضمنه بعضا من خواطره، وتارة أراه نائما تحت شجرة الصفصاف التي جمعتنا مع والديه في اليوم الثالث على الغداء.
بعد مضي السنة الثانية بدأت نفسيتي تتغير، فبتُّ لا أبالي كثرت رسائله أو قلت، قلقي عليه بدأ يتراجع، ولولا نواح والدته ذات البحّةِ الجارحةِ لما عاودتني تلك الأحلام ناقرة على نافذتي. اليوم قررت أن أنهض باكرًا قبل أن أسمع ذلك النقر على نافذتي.
جلست قبالة الدرب، وأطلقت عينيَّ نحو نهايته، حاولت أن أوهم نفسي بعودته، تخيّلته آتيا، بسيارته الخاصة، وتارة رأيته فوق حصان أبيض,, فجأة سمعت النقر أمامي، كان أقرب من يدي لفمي، حدّقت جيّدا نحو مصدر الصوت، يا إلهي,, كان هو كما تخيّلته تماما، لم أصدق عيني، وكذّبت أذنيَّ، تقدّمتُ منه بحذرٍ، مددتُ له يديَّ بلهفة، لكنه عانق الفضاء وطار مرفرفا، وعيناي تلحقان به كهرّة.
عدت للفراش، وخلدت للنوم، لكنني لم أستطع أن أغفو، لم أكن وحدي، في الغرفة، كنت حيثما نظرت أرى أشباحا تتحرّك، تروح وتجيء، تارة تعود حاملة ما يشبه النعش، وتارة أراها قد ملأت غرفتي بأكاليل الورد والزهور، أحسست بأنّ هناك من يشدني بشعري، صرخت مرعوبة، فرددتِ الأشباحُ صرختي، حاولت النهوض فلم أقو، كأنّما سمّرت بالسرير، تصبب العرق كثيفا على وجهي، فعاودت الصراخ إلا أنّه خرج كما لو كان مواءً، وقبل أن أستكين لمصيري، شعرت بيدٍ تربّت على وجهي، وصوت يقول:
= هيّا انهضي يا سميرة، وحضري نفسك، سنذهب لإحضار مسعود من المطار.
لم أكن وحدي من ينتظر مسعودا، و وما كنت الوحيدة من النساء ، بل العديد من الأهل والأصدقاء، كانوا متشحين بالسواد، وعيونهم الحمراء مبللة بالدمع، آه ربّاه كم أكره الأحلام التي تتحقق؟!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق