(( العكاز .. محنة الأرتباط ))
ألمقدمة :
وهو يتحدث عن سيرته في ملتقى جيكور لفتت نظري وبشدةعبارة يؤمن بها مضمونها أن وجودنا مسافة بين هاويتين ملخصها أن رسالة الإنسان ووظيفته تكمن بالبحث في المسافة بين هاويتين .وأثناء تلك الجلسة الممتعة داخلته حول هذه الرؤية وقد أجابني مشكورا مبينا وكاشفا لي شيئا يسيرا عن حقيقة تلك الهاويتين لكوني طالبته حينها بوجود جانب تشويقي بين هاوية وأخرى ليحفز المرء ويشجعه على قطع تلك المسافة ووجدت حينها تمثيل الحياة والموت بالهاويتين ليس به مايغري بل قد يكون أشبه بعمل إرهابي قام به من قام بحق الأنسان فألقى به في تلك المسافة مرغما في رحلة استكشاف قهرية المعالم .ولأن مجال الجلسة كان محدودا للمداخلات ارتأيت كتابة هذه الدراسة مبينا ماهو متاح لنا تبيانه في المحل ومسلطا أضوائي على جانب من تلك المسافة التي وثقها القاص محمد علوان جبر في مسافته القصصية الممتعة (تراتيل العكاز الأخير) تلك المجموعة القصصية التي احتوت على ثلاث عشرة قصة قصيرة تبدأ بقصة (حفاروا الخنادق) وتنتهي بقصة (مطر بلون الرثاء) وقدسميت المجموعة كاملة على إحداها (تراتيل العكاز الأخير).
المدخل :
أعلن الكاتب محمد علوان جبر أن المحن هي المحطات التي تستوقفنا لتأمل معالم المسافة بين هاويتين لذلك وجد في الحرب مجالا وأرضية خصبة ليصوب كامرته القصصية نحو أحداثها ليسلسلها قصصا تحمل معها دهشة الصورة الحسية أضافة الى هز العقل الإنساني مسبوقا بالضمير الذي يدفع العقل للتعقل . ومن وجهة نظري أن المحن في تلك المسافة يمكن أن تكون مشيدة سلفا على الطريق وقد تتزامن مع السائرين وقد تكون أثرا لما بعد المسير على السائرين على ذات المسافة وكأنما يستقبلون المحنة أستقبالا أو يعدون أنفسهم لتلقيها على شاكلة سيرنا من الحياة صوب الموت . وفي رؤيتي أن المحنة كانت على أشدها في قصة العكاز الأخير ذلك العكاز الذي اشتمل على محنة بكل أنواعها واشكالها فهو مثل كمحنة ماضية وتمثل في محنة حاضرة ويمثل محنة مستقبلية أيضا ، فالعكاز وثيقة إدانة لحرب سبقت وجوده فنجم عنها ، ولحرب ألم زامنت وجوده ولحرب أثر أعقبت وجوده وصار جزء منها ، تلك التي خلفها و تلقاها منتظروها وكان في مطلعهم تلك الزوجة البائسة في القصة.
وكان أيضا من وجهة نظر الكاتب في الجلسة والتي لفتت انتباهي رؤيته لمعالم شخصية المثقف الحقيقي والتي ترتسم أمامه بتسليط أضواء ابداعه على المسحوقين والفقراء ، وهنا أضم صوتي للكاتب في هذا المحل وبالفعل لم يكن بين قصصه حديث عن وزير أو ملك أو شخصية اجتماعية ذات ثقل كبير لأن أمثال هؤلاء هم أبعد مايكون عن المحن والتي قال عنها في الجلسة بأنها (هي التي تستوقفنا لتأمل معالم المسافة) ، وله الحق في ذلك فالمترفين لاوقت لديهم لتأمل المسافة بل يقطعون مسافتهم بسرعة البرق ملتذين منتشين كأن حياتهم عبارة عن لحظة حلم لم يلمسوا منه معنى حقيقيا ، ورؤيتي أن المعناة تجر الإنسان عنوة الى الأحساس بوجوده وتدفعه نحو مسافة بعيدة عن سطح القش والتفاهات التي تسير مع مجرى النهر فالفقراء يجدون مايعاندهم ويصدمهم ليشعروا بوجودهم بعكس اولئك المترفين فهم يقطعون المسافة دون أن يستوقفهم شيء حتى يبلغوا هاوية فنائهم .
وإيمانا من الكاتب بأن الفقراء والمسحوقين هم خير من يمثل الركب الإنساني الشاعر بوجوده في تلك المسافة لذا كانت قصصه تتنوع بالحديث عن معاناة طالب باعتباره خير ممثل للمعاناة المعرفية وباعتبارنا جميعا طلاب علم في مدرسة المسافة بين هاويتين ولأن الكاتب يتخذ من الإنفعال أداة إيقاظ لذا فالمعرفة اول ماينبغي أن يوقظ في ذهن طلاب المسافة ومن الطالب إلى الشاعر لأن الذات الشاعرة هو في الخط الأول الذي تكون فيه أولى مستشعرات التغير وهي الأولى بمواجهة الصدمة فهي من تقرع ناقوس ألم الوجود معلنة للصحو في نقطة تستلزم ذلك على المسافة .
ومن الشاعر إلى زوجة رجل معاق في محنة مركبة الألم فوجود المرأة بمجتمع لاينصفها ويئد دورها هو بحد ذاته محنة مضاف اليها زوج معاق ليبلغ الألم قمته بين آفاق عوق وجودي فريد في نوعه في ألمه ومعاناته على تلك المسافة وبالتالي يستوقفنا وقفة لانظير لها في التأمل ، واستحقت بجدارة تلك القصة أن تكون عنوانا لمجموعة هي بحد ذاتها لسان محنة عبر عنها الكاتب بضمير أدبي وجد بالمحنة مادة تساعد على اليقظة والصحو بعيدا عن سلطة التخدير والذهول . ويواصل القاص مسافته في ازمنة المحنة وفصولها وطبيعتها المتنوعة وأمكنتها فمرة يرسم المحبة غبر انفعالات مرتبطةبالحب وتارة أنفعالات متلازمة المال وأخرى من خلال محنة محتواها انفالات مرتبطة بالقهر وتحولاتها نحو ولادة وتشييد معالم جديدة للحياة ، وفي نقلة نوعية له يتحدث عن أجزاء لمحنة مجزأة الأطراف والأبعاد عبر عنها بالرأس المقطوع لرجل رمز من خلاله من وجهة نظري للعقل الإنساني ولا اقول البشري ومتخذا من المرأة التي يحدق اليها الرأس حسب ماأحتمله بالعاطفة المتنوعة الأشكال والمتعددة المعالم لكون المرأة ذات طبيعة خصبة بانواع العاطفة ، وفي رؤيتي التي أحتمل صحتها ولا أجزم بذلك أقول أن هذه الصورة ماهي الا صورة لمواجهة التطرف العقلي الحضاري للتطرف العاطفي البدائي وهي صورة حية من عصر الكاتب حيث يقع العالم على طرفي مواجهة بين العقل الداعي للأحساس بالواقع والعاطفة الداعية للشعور بالحلم ويبدو بذلك المشهد القصصي شيء ما ربما رمز به الكاتب للأعتدال المفقود على مسرح المسافة.ولعله أراد حصر اطراف العالم بين العقل والعاطفة فرغم الألم الذي يداخلهما لم يقم العالم دونهما وإن كانا في محنة او كانا هما عين المحنة . كانت محنة الرأس والمرأة تكمن في استحالة التقاءهما على مسرح المسافة فالمسافة لاتتسع لهما دون قطع الآخر وفصله وحتى ذات الأنسان لايمكن للعاطفة من طغيان دون ان تقطع شعوره بالعقل والتعقل لذا لامساحة يلتقون بها أبدا ويمكنهما فقط ان يتأملا بعضهم عن بعد دون نقطة إلتقاء وقد أراد الكاتب بوجود مسافة الأنفصال بين الرأس لمحنة تركها لتصور القاريء لرأس مقطوع ينظر لأمرأة بشفقة كما ينظر عقلاء العالم وحكماءه وفلاسفته للسائرين على المسافة برداء العاطفة وجلبابها.
الخاتمة :
نوع الكاتب وتفنن بأدوات إيقاظه لدهشتنا ، وأنتصر انتصارا مبهرا على صمت حواسنا ، وأخرج من قلوبنا مشاعر تتعاطف مع جداول الألم في القصص فينساب إحساسنا نحوها بكل طلاقة .
الكتاب أعده إنجاز غير إعتيادي لكونه قد حول من الحرب والتي هي وجه من وجوه الموت والذي من طبيعته الصمت والخمود والسكون من بعد الحراك ،فقد نجح القاص محمد علوان جبر بأخراج برعم حي من بذرة ميتة بذرة الحرب ، لقد روى تلك البذرة في ضميره الأدبي ليخرج منها ذلك البرعم الذي يدفعنا للشعور بأننا أحياء نشعر بآلام الآخرين إن ماتوا وإن رحلوا واصبحوا من الماضي ، فالموت طبيعته التوقف والثبات والحياة طبيعتها الحراك ، لذا أراد القاص محمد علوان جبر أن يحرك تلك الأحداث الميتة ليمنحها صفة الحياة ،فعل ذلك ليثبت لنا أنه في مسافة حقيقية بين هاويتين لاثالث لهما .
تمنياتي لصاحب المجموعة القصصية ( تراتيل العكاز الأخير )بالتوفيق ومزيد من التألق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق