منذ بدأ الإنسان يتنفس الشعر على هذه الأرض وهو ابن بيئته لا ينفصل عنها فارتبطت قصيدته ببيئة الشاعر على مستوى الرؤية والصورة وشكل القصيدة أحيانا, وقلم المبدع لا يكتفي بالنقل الحَرفيّ للواقع وإنما يتجاوز هذا الرصد إلى خلق عالم جديد بكل تفاصيله . وقبل الحديث عن ديوان ( الصعاليك يطرقون أبواب النهار ) أتذكّر مقولة القاص والروائي المصري الكبير خيري شلبي : ( صاحب الموهبة المستنيرة يستكمل مادتها من مصادرها الرئيسية وينجح في إعادة بناء تفاصيلها بشكل يتيح لنا استيعابها على نحو جيد لدرجة أننا في بعض الأحيان نفهمها بأفضل وأعمق مما لو عشناها أو شاهدناها بأنفسنا ,إن لسحر الفنان دوراً كبيراً خاصة إذا كان الفنان صادقاً مع نفسه, حي الضمير, يقظ الإحساس, متوهج الخيال والعاطفة ) ( 4 ) والشاعر في هذا الديوان تنطبق عليه هذه المقولة حيث نجح بموهبته أن يفجّر فينا مختلف المشاعر تجاه الحرب وويلاتها ,وآثارها على الوطن والأطفال والذات الشاعرة وعلينا أيضاً, لتصبح الحرب دالة رئيسة أو بنية كلية مهيمنة تنتشر في معظم قصائد الديوان فيقول في قصيدة ( أسفار الطين ) ص10:
حين أجهضت الحروب البلاد
انتحرت الملائكة
في عيون الأطفال
توزعت حروف التنجيم
على أعمدة المصاحف..
علقنا التعاويذ
على الأبواب..,
لنؤثث وطناً
بلا كراهية. (5).
ويعلن أن الكلام عن الحرب بات كثيراً بدرجة جعلت الكلمات فقد ت تأثيرها فيقول في قصيدة ( مدارات مدن ) ص25:
لكثرة ما كتبنا عن الحرب..,
هجرتنا الكلمات
إلى تابوت الورق..,
تعد رصاص الكلمات
ليبقى الوطن
بلا قتلى
تكفنهم جرائد صفر.
ويعرض الديوان بعض أسباب الحرب ليضع الصورة أمام القارئ كاملة ففي قصيدة ( انتحار عند الفجر) ص30 يبين الشاعر أن غياب العدالة الدولية كان أحد هذه الأسباب:
عندما تشيخ العدالة
توزع كهولتها
على وجوه
اختبأ فيها الضوء
من فزع الظلمة
تفر الأشياء من عريها
إلى عيون طيور
اغتصب الصيادون
عشها
وقت زقزقة الغبش
فانتحرت بدمها
قبل حضور النهار.
أيضاً هناك قصيدة أخرى وهي قصيدة ( للموت نزوح آخر ) ص59 توضح أن طغيان الحكام وديكتاتور يتهم في العالم الثالث كانت من أسباب الحرب :
الطغاة
يعلقون الأطفال من أحلامهم
ليتعلموا العويل
قبل نزولهم
في العالم الثالث.
ثم يعرض الشاعر ويلات الحرب وآثارها حتى على الأطفال فيقول في قصيدة ( أسفار الطين ) ص 11:
هناك حيث الوجوه
تعتمر اللثام
وتغيب وسط العتمة
تحمل طلقة
لكل طفل
أيقظته العصافير
من نومه
وتعلم أن يرى
أفلاماً متحركة
حيث يبقى توم
وجيري
صراعاً أبدياً
في قواميس الحضارات .
ويأتي استخدام ( نا ) الفاعلين في قصيدة ( نافذة في المساء ) ص51 ليدل على امتداد آثار الحرب لتشمل الجميع :
حين تغادر الحروب المراثي
إلى صخبها
يتعثر فزعنا
بهذيان الرعد
نغطس بالجرح
حد الرعب
نتدحرج بذاكرتنا
إلى حدود ماء الأجساد
لنطفئ جمر النحاس
ونرمم أمتعتنا
بالصعود إلى عواصم
المراثي....
وفي محاولة للتخفيف عن الذات والتقليل من أثر شبح الحرب عليها يقنع الشاعر نفسه ويقنعنا أن الحرب قديمة قدم آدم وقابيل وهابيل في قصيدة ( نبوءات الندم ) ص34:
حين جاء آدم
إلى الأرض..,
نامت الحقيقة
في حضن قابيل..
كي نراها
يجب أن نقتل
آخر الطواغيت
الذين وزعوا
أقراص النوم
كأرغفة الجوع
وقت حصاد السنابل..
معايشة الحرب وويلاتها مع وجود أنظمة حكم فاسدة وظالمة عوامل تدفع الإنسان إلى الشعور بالاغتراب : اغتراب خارج الوطن يشبه النفي,أو اغتراب داخل الوطن لغياب صورة الوطن المثالية التي ترتضيها الذات الشاعرة ليصبح الاغتراب قيمة دلالية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بدالة الحرب ويأتي المقطع التاسع في قصيدة ( للموت نزوح آخر) ص57معلنا:
ترحل لتؤجل منفاك
الصاعد إلى الموت
فلكل قطار ضجر
آخر
في محطات تضمر
أقدام السنين
يقف الليل على أبوابها
يودع حقائب
شاخت ثقوبها
في طول الرحيل
تغسل أحلاماً
مثقوبة النعاس..
اغتراب يصل في قسوته إلى حد الشتات في قصيدة(همس)ص79:
يا أيها الداخل..
نحن أصبحنا
شتات الأرض..,
أسودك
ظلت رابضة بزئيرها
في القصور غائبة الوعي..
العربيّ شردته
حدود سلاطينها..
مغادراً أحلامه إلى البحر
ليحرس بوابات الماء
في العالم الثالث..
وكنتيجةٍ طبيعية لرفض واقع الحرب تتجه الذات نحو بُعدٍ آخر ليس بمثابة الهروب من هذا الواقع بقدر ما هو تخفيف من حدة وتأثير هذا الواقع المؤلم عليها ,وهو ما يمكن تسميته بالنوستالجيا أو الحنين ففي قصيدة(الهروب من القيامة )ص60 والتي أهداها إلى عراقيين ماتوا غرقاً قبل وصولهم إلى استراليا هرباً من الموت في وطنهم يقول:
في المنفى
صباحاً بنيت بيتاً
ظهراً أكملت سقفه..,
في المساء تحول إلى سجن
هدمت كل الجدران
جعلت من الليل
جهاتي الأربع
توسدت قمراً أعرج
كنافذةٍ
تطل على موانئ بلادي.
وربما هذا ما يؤكد صمود الذات وإصرارها على فعل أي شئ حتى لا ترى انكسارات الوطن فتعلن قصيدة( وتهبط الملائكة ) ص19الثورة على الملوك وكأن هذا المقطع استشراف لربيع الثورات العربيّ:
سأدفن آخر الملوك
وسأعلّق الوقت
من أهدابه
وأجمع كل مرايا المساء
كي لا أرى
انكسارات الوطن .
ولم لا والعراق هو الجنة وثمر العالم كما صوره المقطع الثالث في نفس القصيدة:
حين أيقظت الآلهة
الإنسان
كان النخيل
أول الخضرة
في شجرة الحياة
فإذا سقط العراق
صار العالم
دون ثمر.
هذا التناول لدالة الحرب في الديوان يبين اكتمال ونضج الرؤية لدى الشاعر حيث تحدث عن الحرب وأسبابها وآثارها على الذات والآخر وموقف الذات منها مع إصرار الذات على التغيير . كما جاءت عناوين القصائد داخل الديوان متأثرة بتلك الرؤية لتوحي جميعها بالحرب/الاغتراب/الحنين. فنجد عناوين مثل ( الهجرة إلى الغروب- مدارات مدن – انتحار عند الفجر- نبوءات الندم – نهار غائب الضوء- للموت نزوح آخر- حنين – الهروب من القيامة....وهكذا) .وقد اعتمد الشاعر على الصورة الكلية فنجد المقطع الشعريّ أشبه بمشهد يمكن تخيله أو لوحة فنية يمكن أن نتجول بين تفاصيلها ونلمسها مع معجم شعري يجمع بين الرمز والمونولوج الداخلي .
الشواهد :
1- ( غذاء الملكة. دراسات في الأدب والنقد ) خيري شلبي . كتاب الثقافة الجديدة العدد25 ص106,الهيئة العامة لقصور الثقافة ,القاهرة.
2- ديوان ( الصعاليك يطرقون أبواب النهار ) عباس باني مالكي. مؤسسة أروقة للدراسات والنشر والترجمة . القاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق