ذهبت تلك العقبة الدكناء من أمامي وأصبحتُ حرّة، أحاول قصار جهدي أن أكون متناغمة مع ما أقوم به. رويداً رويداً أصبح لكل شيء فرحه الخاص. أخذت الحواس بالتراخي وخرج كل شيء عن نطاق إرادتي. تروحنتْ شيئاً فشيئاً كلُّ أعضائي وانطلقتْ حيواتي الكامنة من مكمنها. كنتُ، وأنا متربعة في برزخي العاجي، أعانق أشياء قريبة وبعيدة عني في آن.
العينان تغوصان في عدم الفضاءات وشفافية مستحبة تكتنفني. هدأتْ ارتعاشات جسدي وبدأ التناغم يفكّ وشائج آلام خفيّة مدفونة منذ القدم. إنني ظامئة أبداً وأبديّة التوق.
بخطوات بطيئة اتجهت صوب صفصافة البيت. كانت تتمايل بنشوة هادئة مع حركة أوراقها الخضراء. أطلتُ النظر إلى الأوراق، يلازمني شعور النشوة. بخطوات أخرى بطيئة اتجهتُ نحو سياج الحديقة، الذي يحمي أحجاراً متراصّة ذات إحساس يبعث على الدفء. كلّ شيء من حولي كان أليفاً، يعانق روحاً مرهفة ويهمس بحيوية فائقة للأيام القادمة.
بجوار ذلك السياج، توقف زمني قليلاً وعُزف لحن جميل ليوم جديد. كانت النغمات تخرج لتغوص في تيه ضبابي شفيف وتغمر معها كلّ ما حولي بمحبة فيّاضة. انتشر ضياء ساحر على أغصان روحي وتلوّنت ستائر وجدي بألوان أزمنة مختلفة، وأخذ المكان، هو الآخر، يتلوّن بكل هذه الألوان. تماوجت همسات ملائكية على جسدي، وغسل المطر الأرض بأريجه.
غبطة فردوسية تكتنف جسدي الذي استكان كأرجوحة بعد رواح ومجيء. انتهت طفولتي الكربلائية وأتتْ همسات الملائكة ثانية لتخرجني من وعرة الشتات. جسدي ينبض بإكسير حياة جديدة وأنا أتماهى مع الأشياء التي تبدو لي مألوفة منذ القدم.
مرّ الوقت سريعاً. تراءت لي صور جميلة وأحداث، وارتسمت أمام ناظريّ أيقونات عالمي الجديد وأنا أتأمل روائع الكون ودقائق الحياة. طويتُ صفحة من ألم ثقيل، قديم، وتحرّرت من كل ما يربطني بعبء الماضي والحاضر وارتباطاتهما. أصبح للّيل طعم آخر ولم يعد الفكر كما كان في الأمس.
"أراكِ هائمة طوال الوقت،" قال أخي مبتسماً وهو يدخل الغرفة، ويده لا تزال تمسك مقبض الباب. كانت نظراته تفيض محبة ومرحاً: "هل تسمعينني؟"
"نعم، إن يقظتي كليّة."
"هل أنت على ما يرام يا أُخيّة؟!"
"أجل، ولكني سأرجئ عملي إلى يوم غد لأني أخذت أشعر بغبطة مؤثرة، وكأني أنهي العبور من هذا البرزخ الذي أمرّ فيه إلى عالم النور. سأراك غداً يا أخي، أما الآن.. أرجو المعذرة."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق