من العبارات التي وقرت في أذني أبي إبراهيم، واستوطنت فؤاده عمرا بطوله، قول العرب (من علامات الوفاء: تشوُق الرجل لإخوانه، وحنينه إلى أوطانه، وتلهفه على ما مضى من زمانه) .
وهو إذ يساوي في ميزانه بين هذه العبارات الثلاث، ويتمثلها مجتمعة في شعوره وإحساسه، إلا أنه يجد نفسه مسوقا هذه الأيام، كأنما بقوة خارجية تدفعه دفعا لتمثل العبارة الأولى، فهو يتذكر خلانه ورفاق صباه، ويسعى ليعيد في خريف عمره وصل ما انقطع، من صلات ووشائج خلال السباق الطويل في مضمار الحياة .
فما إن وجد نفسه يلتقط بعض أنفاسه عند سن التقاعد، ويخلد إلى هدأة ينفض فيها عن كاهله بعض ما علق به من غبار درب الحياة الطويل، حتى يعاود تأمل الطريق الذي سلكه من أوله، ليس لتصحيح المسار أو تقويمه، فقد فات أوان ذلك، وإنما للتأمل والاعتبار، بالرضا والاستحسان حيث أصاب، وبالندم والأسف على ما ضيّع من فرص ما كان ينبغي لها أن تضيع .
وبداية الطريق لا ترد إلى الخاطر إلا مصحوبة برفاق الدرب، الذين بدأ الإنسان مسيرته معهم وإلى جانبهم، ثم ما تلبث الحياة أن تبعثرهم في دروبها المختلفة، فإذا سعيهم شتى، وأحوالهم متنافرة .
يتذكر أبو إبراهيم رفاق صباه، وقد أفاق من غيبوبة الركض واللهث وراء سراب الحياة، فيبادر متصلا بصديقه محمود، بعد أن يتحرى عن رقم هاتفه، فهولا يزال يذكره هكذا باسمه الفرد، ويحلو له أن يخاطبه به، فمن أين له أن يعرف الكنى والألقاب التي التصقت بأصدقائه ورفاقه عبرالسنين، وهو لم يلتق بهم ولم يقابلهم إلا لماما كل بضع سنين .
يختار صبيحة يوم عطلة حتى لا يكون صديقه منشغلا بعمل أو شأن من شؤونه، يتصل به فيرد الهاتف :
- ألو، مين ؟
- السيد محمود عواد ؟
- نعم ، تفضل، من حضرتك ؟
- أنا محمد إبراهيم السعيد، واحد من رفاق الصبا، فهل تذكرني؟
- أهلا، أهلا بالصديق العزيز، ورفيق العمر، كيف أحوالك وأخبارك وصحتك ؟
- بخيروالحمد لله .
- وكيف خطرنا على بالك بعد هذا العمر الطويل ؟
- الواقع أنني لم أنسك، ولم أنس أحدا من رفاق الصبا يوما، لكنها الدنيا وزحمتها ومشاغلها تصرف الإنسان وتلهيه عمن يحب .
- وكيف حالك، وماذا تعمل الآن ؟
- الحقيقة أنني لا أعمل شيئا، فقد تقاعدت من العمل منذ مدة وجيزة، وأنت ماذا تصنع هذه الأيام ؟
- إن لدي بعض الأعمال الحرة والمسؤوليات، أتابعها وأشرف عليهاعن بعد، بعد أن سلمت مسؤوليتها المباشرة للأبناء .
- وهل لنا أن ننعم برؤيتك، وأن نجدد بعضا مما فات من أيامنا الجميلة ؟
- طبعا، وعلى الرحب والسعة، ونسعد بلقائك، فإنني متشوق لذكرياتنا الجميلة أكثر منك .
يصف السيد محمود عنوان منزله لأبي إبراهيم، ويتفقان على موعد اللقاء صبيحة يوم السبت التالي .
يصل أبو إبراهيم المكان الذي خالجته رهبة لدى سماع اسمه أول مرة، فهوأرقى أحياء العاصمة، ولا يسكنه إلا المنعّمون المترفون وذوو الجاه والسلطان .
يصل في موعده المحدد إلى الشارع ورقم المنزل الذي أعطي له، فيفاجأ بأنه أمام قصر منيف، فيسائل نفسه :
- أحقا أنا أمام منزل صديقي القديم محمود عواد؟ أم أنني قد ضللت طريقي وأضعت الوصف ؟
لكن الاسم البارز المحفور على اللوحة الرخامية الوردية على يمين المدخل يبدد أوهامه، إنه منزل صديقه فعلا .
يتردد قليلا قبل أن يضغط على جرس الهاتف، وتراوده نفسه في أن ينسحب بهدوء، ودون أن يشعربه أحد، ثم يختلق عذرا يصطنعه على مهل، إن سأل عن سبب تأخره عن موعده أحد. لكن صوت صديقه محمود، الذي انبعث فجأة عبر الهاتف المثبت بجانب الباب قطع عليه تردده :
- تفضل يا أبا إبراهيم، ادخل فالباب مفتوح وأنا في انتظارك على مدخل البهو .
يدخل أبو إبراهيم الجنة التي ما حلم أن يشاهد مثيلتها يوما في حياته الدنيا، في بديع صنعها وزخرفتها وتنسيق حدائقها، وجمال ألوان ورودها وأزاهيرها، ولعله تمنى أن يصادف مثلها في أخراه، لكنه يشك في ذلك لما يعلمه في نفسه من تقصير .
يستقبله صديقه القديم بالأحضان، يجلسان منفردين، ويتحدثان طويلا عن الذكريات القديمة وأيام الدراسة ورفاق الأمس، ويتناولان نتفا مما يعرفانه عن أحوال زملائهما القدامى، وإلى أين انتهى المطاف بكل منهم، ومن منهم لا يزال بين ركاب سفينة الحياة، وإلى أين وصل فيها، ومن غادرها منهم منذ أمد بعيد .
معظم حديثهما انصب على ماض مشوق بعيد موغل في قدمه، عاد بهما إلى أيام الطفولة والصبا، وقليلة كلماتهما التي تطرقت لما بعد ذلك من عمر طويل، ربما سـؤال أحدهما الآخرعن عدد أبنائه وبناته، ودراستهم وأعمالهم وعن عدد أحفاده ذكورا وإناثا، ومن هم أصهاره، وأحواله بشكل عام .
ما وجدا سبيلا للخوض في حديث آخر. أمضيا في جلستهما وتداول حديثهما قرابة ساعتين شيقتين، ما كان يقطع عليهما خلوتهما سوى مكالمات هاتفية متتالية، يستقبلها هاتف صديقه محمود، كلها استفسارات ومتابعات لأعمال وطلب مشورة أو توصية، أو كيفية تصرف مع العميل الفلاني والشركة الفلانية، رغم أن اليوم يوم عطلة والنهار لما يزل في أوله .
استأذن أبو إبراهيم صديقه في الانصراف، واعتذرعن البقاء لتناول طعام الغداء رغم إلحاح صديقه، واتفقا على أن يعاودا التواصل، وأن يحددا مواعيد أخرى للقاءات مقبلة .
والتقيا مرة ثانية بعد أسابيع معدودة في بيت أبي إبراهيم المتواضع هذه المرة، أعادا معظم حديثهما السابق، ولم يضيفا إليه إلا قليلا مما أجهدا ذاكرتهما في نبشه، وبعثه حيا من جديد بعد أن نسي وانمحى . كانت تتخلل جلستهما لحظات صمت تطول أحيانا، ربما ليبحثا عن موضوع جديد يجمع بينهما، فلا يجدان سوى السياسة وآخر أحداثها ومستجداتها حديثا مشتركا .
انتهى لقاؤهما الثاني ببرود أحس به كل منهما دون الإفصاح عنه، بل عمل كل منهما على مداراته، بزيادة عبارات الشكر والتحية والامتنان، والوعد بلقاءات جديدة .
لكن أبا إبراهيم وقد ودع صديقه، وجلس منفردا يفكر في مستقبل هذه العلاقة، التي يتحمل وحده وزربعثها للحياة بعد موت، أحس أن جبلا شاهقا يبلغ علوه مسيرة أربعين عاما ونيفا يباعد بينه وبين صديقه، رغم كلمات المجاملة والمودة المكررة، فما الذي يمكن أن تمثله أيام طفولة لاهية في حياة إنسان على مشارف شيخوخته؟ سوى لحظات حلم عابر جميل، وأين منها
أربعون عاما من الكفاح والبناء، وعمر أمضاه سعيا في جنبات الدنيا الأربع، وأعمال أنشأها وشركات أسسها، وشركاء عمل رافقوه مسيرة عمره كلها، وزوجة وأبناء كبروا ولكل منهم
اهتمامات وعلاقات وعوالم مختلفة .
- كل هذا الجبل الشاهق الذي يفصل بيننا، والذي يمثل الحياة في معظمها، أين منه موضع ذكرياتنا الجميلة؟ وهل هي أكثر من طيف عابر ولحظات تسلية، ومشاركة صديقك فيها ليست أكثر من لحظات مجاملة، ففي كل محطة من حياته له ذكريات مماثلة، ولك أيضا مثل ذلك، فما
ذكريات كل منكما المشتركة سوى نقطة بداية في بحر متلاطم من أحداث الحياة، ولا يجدر بكما الوقوف عندها أكثر مما تستحق، وعليك يا أبا إبراهيم أن تتمثل القول القائل :
- ( فإن من أشعل النيران يطفيها )
عليك أن تخفف من حرارة هذه العلاقة، وأن لا تلح عليها كثيرا، وأن تعيدها إلى حجمها الصغير الذي تستحقه، وصديقك لن يكون أحرص منك على نفخ النار في الرماد من جديد،
وهكذا كان .
فكر أبو إبراهيم أن يغيراتجاه البوصلة مرة أخرى، فيبحث عن واحد من أصدقائه رقيق الحال مثله، وليس من أصحاب الجاه والثراء، فلعل العلاقة تكون أكثر حميمية .
في الأسابيع والشهور التالية عاود أبو إبراهيم رحلة البحث عن رفاق طفولته، وأصدقائه القدامى أيام دراسته الجامعية، وسنوات عزوبيته الأولى، فنسج خيوط علاقة متجددة مع زميل مدرسٍ صار متقاعدا، وآخر صاحب محل تنسيق زهور، وثالث عائد من الكويت ضمن موجة نزوح عام ألف وتسعمئة وتسعين يجلس دونما عمل، ويعتاش على ما تصرفه له الأمم المتحدة من تعويضات، بدل الأضرار التي لحقت بأعماله هناك .
كل هذه العلاقات كانت تكرر نفسها، تبدأ شيقة وحميمة، ثم لا يلبث وهجها أن ينطفئ، وتخبو حرارتها بعد حين، عندما يصبح حديث الذكريات مكررا والقصص تعيد ذاتها، ولحظات الصمت التي تتخللها تطول، وتباعد بين تلك الذكريات القديمة الشيقة والواقع، مسيرة عمر طويل تخللته هموم وشجون عاشها منفردا كل واحد من أفراد هذه المجموعة التي تلتئم اليوم، ولا يزال يعيشها مع شركاء آخرين حاضرين في ذهنه دائما، وإن لم يحضروا معهم، وهو يغرق في تلك التبعات حتى أذنيه، وليست هذه الجلسات التي يختلسها أحدهم مع أصدقائه القدامى سوى لحظات هروب من واقع يكبله بقيوده وارتباطاته، و يشـده إليه شدا، فأنى له أن ينفصل عن واقع لينضم إلى حلم؟
إن أحدهم قد صار يحضر هذه الجلسات ببدنه، لكن ذهنه شارد فيما يشده من مشاغل الحياة وتبعاتها، من شؤون أبناء وبنات وحفدة وحفيدات وزواج وطلاق، وشؤون أخرى لا نهاية لها .
لقد خمد وهج الجمرات الأولى للقاء، واستحالت إلى رماد، وأدرك أبو إبراهيم حقيقة العبارة التي طالما رددها قديما دون أن يعي معناها :
- إنك لا تضع قدميك في النهر ذاته مرتين .
ولما أوشك ظن أبي إبراهيم أن يخيب في عبارته الأولى، التي رددها دهرا ( تشوق الرجل لإخوانه ) رأى أن يصرف نظره إلى العبارة التالية لها، والتي طالما شغلت باله، وملأت عليه مشاعره وهي (حنينه إلى أوطانه)، فهو لم يكف عن مكابدة هذا الوجع يوما، على طول ما طوّحت به الدنيا بعيدا عن موطنه، الذي ليس إلى الوصول إليه سبيل، حتى ولا بتصريح زيارة محددة الأجل، مثلما كان الحال في السنوات الماضية .
لكنه يسمع هذه الأيام عن تأشيرات زيارة مدتها أسبوعان، تمنحها السفارة الإسرائيلية في عمان، شريطة أن تكون تلبية لدعوة من أحد مواطني إسرائيل، أو من سكان القدس الذين يحملون الهوية الإسرائيلية أيضا، ومع ما في ذلك من مهانة، كان يرفضها أبو إبراهيم وغيره طيلة ما انقضى من أعمارهم، وكانوا يعدون ذلك خيانة وتطبيعا مجانيا مع العدو، إلا أنه يفكر اليوم
بالاستسلام ورفع الراية البيضاء أخيرا، والنكوص عن كل مبادئه والقبول بما رفضه عمره كله ،مثلما يفعل سائر رفاق الأمس،علّه يكحل عينيه بمرآى الربـوع التي درج على ثراها طفلا، وشهدت أيام صباه وفتوته، قبل أن يغمض عينيه إغماضتهما الأخيرة، خاصة بعد أن لقي صديقا عائدا من زيارة مشابهة لما ينوي القيام به، وقد عاد حديثا من زيارة ربيعية لمسقط رأسه في إحدى قرى رام الله، وشجعه على أن يفعلها، وزين له أنها المتعة الأخيرة الباقية .
عزم أبو إبراهيم على التوجه إلى السفارة الإسرائيلية، بعد أن تدبر أمره في الحصول على بطاقة دعوة من أحد مواطني إسرائيل العرب، الذي أبدى استعدادا لاستضافته في تمثيلية شكلية، تنتهي به ساعة عبور الجسر إلى قريته في الضفة الغربية دون المرور على صاحب الدعوة، إلا إن كان ذلك من باب المجاملة ورد الجميل، وقليل من يفعلها، لولا أنه لقي مساء اليوم السابق لموعد توجهه للسفارة صديقا من أبناء قريته، عائدا من زيارة مماثلة، ليستفسر منه عن تفاصيل الرحلة والزيارة، والإجراءات التي قد تمهد له سبيل رحلته، على ضوء تجربة صاحبه المجرب للزيارة قبله .
ولدى سؤاله الخجول عن الإجراءات التي قام بها الزائر قبله ليسير على هداها، فوجئ برد صاحبه :
- لماذا تريد الذهاب إلى هناك؟ وما الذي تؤمل أن تشاهده وتكحل عينيك بمرآه ؟
- الذي شاهدته أنت وذهبت من أجله. أن أعاود السير ولو مرة واحدة وأخيرة فوق كل الأماكن التي شهدت أيام طفولتنا وصبانا، ومواسم حرثنا ودرس محاصيلنا من الحبوب، ومواسم جني الزيتون والتين وسائر الفواكه، أن أختصر السنوات الثماني عشرة الأولى من عمري، التي أمضيتها فوق ذلك التراب في أسبوعين فقط، أترى ذلك مطلبا كثيرا عليّ أو على غيري ؟
- ستختصر ذلك كله في نصف نهار، ثم لا تجد ما تفعله في الأيام التالية، وسيقتلك الملل وتندم على أنك فعلتها، وأهم من ذلك كله أنك ستضيع الحلم الجميل، الذي ظل يراود جفنيك ومخيلتك عن تلك الأماكن التي عرفتها صبيا، وما زالت صورتها في مخيلتك نقية وجميلة، وتحسبها لا تزال على حالها .
- كيف ذلك يا رجل ؟ إنك تفزعني بتشاؤمك، حدثني عما شاهدت بالتفصيل .
- صبيحة اليوم التالي لوصولي،عزمت أن أفعل مثلما تخطط الآن على التطواف بكل شبر من أراضي بلدتنا وربوعها، التي شهدت أيام صبانا وفتوتنا، من شمالها لجنوبها ومن شرقها
لغربها، فما استغرق ذلك مني أكثر من نصف نهار، ما تركت موضعا إلا عرّجت عليه، ووقـفت فيه وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه، ومع ذلك لم يستغرق الأمر مني أكثر من نصف نهار، من شروق الشمس إلى قرابة الظهيرة .
كان العالم الذي حملناه في قلوبنا عمرا بطوله قد انتهى التطواف بكل أرجائه، فإذا هو صغير صغير، وأصغر من بيضة في الكف .
- كيف صار صغيرا ؟ وكيف تقـزم ذلك الحلم الذي نمني أنفسنا بالعودة إليه ؟
- يا رجل، عندما كنا صغارا هناك، لم نكن قد رأينا شيئا من دنيا الله الواسعة سوى أراضي قريتنا، التي كنا نحسبها شاسعة وتتفوق على أراضي القرى المجاورة، وكانت حدود العالم بالنسبة لنا هي ما يحيط بنا من قرى،لا تبعد عن قريتنا سوى كيلو مترات معدودة، فإن بعدت الدنيا فنهايتها المدينة التي نتبعها، فلما طوحت بنا الدنيا في أرجائها الواسعة، ورأينا العالم على سعته، صار من يعود منا إلى هناك يجد قريته صغيرة صغيرة، وأراضيها لا تزيد عن حفنة من تراب، قياسا بسعة الدنيا التي رآها، والمسافات التي قطعها، والمدن التي تجول فيها .
ستمر على بيوت القرية بيتا بيتا، وتفرغ من ذلك كله في نصف ساعة، وستجد نفسك في حاراتها غريب الوجه واليد وحتى اللسان، فقد تغيرت لهجتك، وصارت خليطا هجينا من لهجات شتى، لطول ما اغتربت وتنقلت بين البلاد والعباد. لا تعرف أحدا ولا يعرفك أحد، في المكان الذي كنت يوما تعرف فيه كل ناسه وشجره وحجره وحتى بهائمه، لمن كل رأس فيها .
ستجد وجوها شبّت ثم شابت في غيبتك التي جاوزت الخمسين عاما،لا تعيرك انتباها ولا تلتفت إليك إلا التفاتتها لعابرغريب، ولن تجد أحدا ممن كانوا يكبرونك ويعرفونك وتعرفهم، أما أبناء جيلك فهم مثلك قد تفرقوا في البلاد، أوغادروا سفينة الحياة منذ أمد، فلن تورثك الزيارة سوى حسرة تضاف إلى حسرات، وضياع لحلم جميل كنت تحيا من أجله، وتطبق عليه الجفون كي لا يضيع منك يوما، فلا تضيعه بنفسك .
- يا رجل ، ليس التجوال والتطواف بالبراري هو كل ما أود مشاهدته، أريد تذكر المواسم، أيام الحصاد والبيادر، ونقل محصول القمح والشعير من الحقول إلى البيادر، وطرحات درس تلك المحاصيل، والنورج الذي كنا نمضي سويعاتنا وقوفا أو جلوسا فوقه في وهج الصيف، وهو يدور هارسا القش من تحته ، يجره زوج من الأبقار أوالحمير .
أريد تذكر ليالي الصيف الطوال، التي كنا نبيت فيها على البيادر بصحبة أجدادنا أوآبائنا، نحرس جنى العام كله، ونسترق النظر إلى الصبايا والنساء بعد العصر، وهن يقششن ( يجمعن
عيدان القش المنتقاة ) ليصنعن منها الصينيات والسلال الصغيرة وسائرالأدوات المنزلية، بعد أن يصبغن القش ويلونه بزاهي الألوان، ويصنعن منه تحفا فنية رائعة .
أريد معايشة الأمسيات الشيقة، وانتظارأن تهب نسمات عليلة عند المساء، تساعد على تذرية المحصول بعد الفراغ من درسه، وتكويمه كومة واحدة انتظارا لفصل الحب عن التبن، باستخدام
المذاري الخشبية أو الحديدية ذات الأصابع الأربع، ثم نقل الحب والتبن من البيدر إلى المنزل . لقد كان ذلك يستغرق فصلا كاملا من المتعة الشيقة .
- لكنه اليوم لا يستغرق أكثر من ساعة واحدة، وفي نفس موضعه من الحقل، والنبتة لما تزل قائمة مستوية على ساقها. تباغتها مسننات الآلة الحاصدة فتقضمها قضما، وتنجز سعيكم الذي كان يستغرق فصل الصيف بطوله في أقل من ساعة، فإذا الحبوب في أكياسها والتبن في( خيشاته)،هذا إن بقي أحد يزرع ويحصد، فلم يعد هناك بيادر كالتي تعرفها، لقد استحالت تلك الرئات الجميلة من القرية إلى غابات من الإسمنت سكنها البشر .
- أؤجل زيارتي إذا إلى فصل الربيع مثلما فعل صاحبي،عند تفجر الينابيع واخضرارالأرض بمختلف النباتات والأعشاب البرية والأزهار والرياحين، أقطف قرون الصيبعة والسيسعة،وأنبش الأرض وراء درنات أم قيس وأبصال البزيزة، ألتقط أوراق الميرمية والرشاد والحميض غضا طريا من أرضه، وأجمع العكوب واللسينة والزعمطوط البري من شوارد الفجاج، وحدي دون شريك أو رفيق، أبحث عن أعشاش الطيور وأدحيات الشنار في شهر نيسان .
أمتع نظري بمرآى قطعان الأبقار والضأن والماعز في غدوها ورواحها، وصغارها تتقافز خلفها في المراعي والسفوح الخضراء .
- أنت تحلم يا أبا إبراهيم، تحلم بأشياء لا وجود لها إلا في خيالك، فقد انقرض كل ما ذكرت، لم يعد هناك ينابيع لتتفجر، فالناس عطاش ويشترون ماء شربهم بأثمان باهظة من البئرالإرتوازية في أقرب مستوطنة، بعد أن جفت ينابيعهم التي استنزفها الضخ الجائر للمياه من قبل المستوطنين، ولم يعد هناك قطعان ماشية ولا مراع ، بعد أن صنفت الأرض في معظمها تحت مسمى (ج ) التي تدخل تحت السيادة الإسرائيلية الكاملة، ويحظر أن تطأها أقدام أصحابها .
لم يعد هناك نباتات وأعشاب وأزهار تنبت مما ذكرت، فقد قضى عليها تتابع السنوات العجاف وشح الأمطار، واستخدام المبيدات الحشرية التي لا تبقي نبتة في الحقل سوى المقصودة لذاتها بالزراعة. ولو سمعك أحد هناك تردد هذه الأسماء لحسبك تهذي، إذ لم يعد أحد هناك يعرف شيئا مما ذكرت، ولا يلم به إلا النفر القليل الباقي من أبناء جيلك ومن سبقه، إن وجدت أحدا منهم، وهذا قد يتذكر تلك الأشياء مجاملة لك، ويتناساها تماشيا مع الكثرة الغالبة .
- والمحراث الروماني الخشبي القديم بأجزائه وقطعه، التي لا تجد واحدا من أبناء اليوم يحصيها عدا، ألن تتاح لي فرصة مشاهدته هناك، وتفقد أجزائه: ( النير على الرقبتين ومن أجزائه الزغلولتان والشباكات، ومن لوازمهما القدانتان، رأفة برقبتي الدابتين ووقاية لهما من التسلخ، ثم الجسم الرئيس للمحراث بجزئه الأمامي ( الوصلة ) التي تربط بالنير بواسطة الشرعة ، فالبُرك وهو التكملة الحديدية للوصلة التي تتجمع في مؤخرتها عدة أجزاء أساسية ورئيسية، أهمها السكة التي تبدأ بالحسمة، مقدمتها الحادة التي تنغرز في باطن الأرض فتشقها شقا، ولا بد من متابعة حسمها وترهيف رأسها عند الحداد بين فترة وأخرى، لتجديد حدتها ومضائها في شق الأرض، وفي نهايتها الجناحان عن يمين وشمال، ثم الكابوسة التي تشكل المقبض الذي يقبض عليه الحرّاث بقوة، ليساعد على غرز السكة عميقا في جوف الأرض، وهي تثبت جيدا بالسكة بواسطة السنفة . ومن لوازم المحراث المنساس، وهو عصا طويلة كأنها الرمح للمحارب،يمسك به الحراث بيسراه، بينما يقبض على الكابوسة بيمناه، و في مقدمة المنساس الزقوت، الذي يخز به الحراث بهيمتيه ليحثهما على النشاط والحركة، والذي لو علمت به منظمات الرفق بالحيوان لأوسعتنا شكاوي وتنديدا، لما يحدثه من جروح وتقرحات على جانبي مؤخرات بهائم الحراثة .وهو ينتهي بالعبوة التي تساعد في تنظيف السكة، وتخفيف ما علق بها من أتربة وأعشاب عند نهاية كل ثلم . هل كل ذلك قد نسي وصار إلى المتحف ومُحي من الذاكرة ؟
- يا ليت أنه قد صار إلى متحف، إذا فقد بقي محفوظا ولوفي ذاكرة محدودة، وعلى نطاق ضيق، لكنه انقرض بصمت، ولم يعد هنالك من يذكره، ولو سمعك أحد هناك تحدث بهذه المسميات، لظن أن الخرف قد باغتك مبكرا، فليس هنالك شيء مما تتخيل أوتتذكر .
- و ماذا هناك إذا ؟
- هناك أراض تبتلعها المستوطنات المنتشرة في كل مكان، فلا يلتفت إليها أحد، ولا يعيرها أحد انتباها، ولا يطالب بها أحد، ولا يحتج على سلبها حتى أصحابها، ولا يحركون ساكنا، وهناك بقية من أرض وعرة بين أيديهم، تضيق كل يوم بفعل زحف المستوطنات عليها، وبفعل تناسلهم وتكاثرهم المفرط الذين لا يتقنون عملا غيره.
فما لك ولهذا الهم الذي تفتحه على نفسك في آخر أيامها؟ فاحتفظ بحلمك الجميل وأطبق عليه أجفانك بقوة كي لا يضيع، واقنع من الغنيمة ليس بالإياب، بل بعدم الذهاب .
- أهذا رأيك ؟
- نعم، وهو رأي مجرب قريب العهد، وبعد ذلك أنت وما ترى .
وظل أبو إبراهيم يقلب رأيه بين أخذ ورد، ويتساءل بينه وبين نفسه :
- هل أخطأ حكماء العـرب عندما نطقوا بهذه العبارة التي شدتني إليها عمرا بطوله؟ وهل صارالتشوق إلى الإخوان والحنين إلى الوطن خطيئة يجَرّم مرتكبها ؟
لكنه يجيب على تساؤله بنفسه :
- كان ذلك القول صحيحا عندما كانت الدنيا هي ذات الدنيا، وحين كان الوطن وطنا والخلان خلانا، وحين كان الإنسان يمضي عمره بين بيته وحقله، وأبعد مسافة يقطعها هي رحلته الموسمية إلى المدينة المجاورة ليبيع محصوله، أو ليشتري لوازم فلاحته، ومتطلبات بيته وعياله مرة كل عدة شهور، أو مسيرة قريبة إلى القرية المجاورة ليعصرما جمع من ثمارالزيتون، وحين كان جاره أو صهره القريب هـو جاره الأبدي، وأبناؤه وأحفاده هم جيران أبنائه وأحفاده من بعده. عندما كان الجميع يعرفون بعضهم و يتوارثون المهنة ذاتها ويقطنون المكان ذاته، فلا يطرأ على حياتهم جديد، ولو عدت إليهم بعد طول غياب لوجدتهم ( على حطة يدك ).
أين ذلك مما جرى لوطن مقطع موصل، تنهشه المستوطنات من كل جانب، فلا تبقي منه لأهله إلا أقل القليل الذي يتكالبون عليه ؟
وأين من خلان الأمس خلان اليوم، وقد قذفتهم يد عابثة فطوحت بهم في أرجاء الدنيا الأربعة منذ نعومة أظافرهم، فلا يلتقي أحدهم بالآخرإلا مصادفة وفي أرذل العمر، فمن أين يأتي ذلك التراكم التلقائي البطيء، والعلاقة الحميمة التي تجدد نفسها عاما إثر عام مثلما كان الحال سابقا .
و يردد أبو إبراهيم محدثا نفسه :
- إلى جانب أمر آخر يعم الناس جميعهم ولا يخصنا وحدنا، وهو أن الدنيا قد تبدلت وتغيرت، واقتربت أرجاؤها الفسيحة من بعضها، حتى غدت كأنها قرية صغيرة في سرعة الانتقال
وسهولة الاتصال بين أرجائها .
ويردف أبو إبراهيم قائلا :
- أكاد أجزم أن الدنيا ما تغيرت أحوالها منذ عهد سيدنا آدم عليه السلام وحتى عهد جدي، بالمقدارالذي تغيرت به من عهد جدي إلى يومنا الحاضر .
فلم يخطئ العرب عندما قالوا حكمتهم يوم كانت الأوطان أوطانا والخلان خلانا، لكن الدنيا هي التي أخطأت وتبدلت، ولم تعد تناسبها تلك الحكمة القديمة .
وظل أبو إبراهيم يقلب رأيه، بين أن ينفذ الزيارة المزمعة أو أن يعدل عنها، و ما زال على ذلك منذ أمد .
(*) الآسماء الكثيرة والغريبة الواردة في هذه المقالة، هي أسماء نباتات برية موسمية، وأسماء أجزاء المحراث الروماني القديم باللهجة الفلسطينية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق