سنوات ثمانٍ أمضيتها وأنا أتربص بمديري متصيدا له هفوة ترضي فضولي الذي اعتدته في متابعة دقائق الأمور في طباع الناس وعاداتهم، فما أفلحت في اقتناص واحدة . وما كنت أجهد نفسي في ملاحظته لم يكن سوى أمور بسيطة، لا يلقي لها معظم الناس بالاً. فقد كنت أتحين ولو لمرة واحدة أن أضبط مديري متلبسا بنسيان واحدة من مستلزمات تحية الصباح التي يستقبل بها كل موظف في مدرسته من وكيلها إلى فراشها، رغم أن عددهم يربو على الخمسين .
إنه يستقبلك بنظره لدى ولوجك باب الإدارة، ولوكان مشغولا بمكالمة هاتفية أو بمحادثة زميل سبقك في الدخول. ويثني بابتسامة ترحيب تسبق تحيتك الصباحية التي يردها لك بأحسن منها. ولا ينسى أن ينهض عن كرسيه ولو نصف وقفة قبل أن يمد يده مصافحا اليد التي امتدت لمصافحته، ممعنا النظر إلى وجهك مجاملا ببعض كلمات السؤال عن أحوالك الشخصية، أو بعض عبارات التشجيع والثناء.
ليس مثل كثيرين ممن عهدتهم قبله وبعده، ممن يرسل يدا كأنما ضلت سبيلها إليك، بينما صاحبها يشيح بوجهه عنك في محادثة مع غيرك، أو ينشغل عنك مع هاتفه. أما الآن وفي زمن الهاتف الجوال فهيهات أن تجد من يلقي إليك بالا .
أما ساعة الانصراف، وعندما تكون النفوس قد تاقت إلى الانعتاق من قيود العمل والأجساد تتدافع للخروج، لا فرق في ذلك بين طالب ومدرس، فقد كنت أتلكأ أحيانا بعد الحصة السابعة حتى ينفض الجمع ويخف الزحام، وأنا في الواقع أتعمد الإبطاء لألاحظ وقع ذلك على مديري الذي سأمر على مكتبه للتوقيع بالانصراف، متوقعا أن أجده على باب مكتبه نافد الصبر حاثاً إياي على الإسراع مستعجلا الخروج مع الركب. فيخيب ظني حين أجده خلف مكتبه مطمئنا في جلسته، يرد التحية مصحوبة بنفس بسمته الصباحية المعهودة داعياً بالسلامة والتوفيق . أغادر مكتبه والمدرسة كلها وأمضي وأنا في حيرة من أمري، متى يغادر مكانه ؟
فإذا جاء صباح اليوم التالي ألفيته أول الحاضرين، مهما حاولت التبكير وسعيت إليه فإنني أجده قد سبقني . إنه أول من يحضر وآخر من يغادر، لقد تتبعت ذلك طيلة السنوات الثماني التي عملت فيها في مدرسته ، فما وجدته تأخرعن عادته تلك إلا أياما أقل من أصابع اليد الواحدة، لضرورة قصوى، لأمر طارئ، أو حادث جلل، وعندها كان يسبقه بضعة زملاء في الحضور لكنهم لا يوقعون لأن دفتر الدوام في مكتبه. فإذا حضر سأل وكيله عمن سبقوه في الحضور، فإن قال له : خمسة مثلا، سجل اسمه في السطر السادس، وترك مكان الصدارة فارغا لأصحابه .
لم يخطر ببال أحدنا يوما أن ينتقل من هذه المدرسة من تلقاء نفسه، فهي واحة هانئة تظفر فيها بالرضا والانشراح النفسي إلى جانب الجد في العمل، وهو شعور ما ذقت طعمه قبل عملي في هذه المدرسة ولا بعدها، فقد كان أحد الأمرين يطغى دائما على الآخر، وما اجتمعا في نفسي إلا في هذه المدرسة .
من بين كل من زاملتهم في هذه المدرسة ما حيّرني سوى زميلي وجاري القريب الأستاذ يحيى، الذي تقدم بطلب انتقال من المدرسة قبل أن يكمل عامه الأول فيها، ولذا فقد بادرته مستهجنًا فعلته :
- لماذا يا أستاذ يحيى؟ وأين ستجد مدرسة كهذه ؟ ومديرا كمديرها ؟
فكان جوابه مبعث دهشة أكبر لي :
- لهذا السبب بالذات، لمديرها، طلبت الانتقال، لأنني لا أطيق معه صبرًا .
- وفيمَ يؤذيك مديرها ؟ وما الذي لا تطيق الصبر عليه من سلوكه ؟ وكيف أن أحدنا لم يلحظ ما يعيبه ؟
- ليس فيه ما يعيبه يا عزيزي، بل العيب فيما اعتدته قبل أن آتي إلى مدرستكم هذه .
- وما الذي اعتدته ؟ أفصح عن ألغازك يا رجل.
- كنت لا أحضر الحصة الأولى ولا الثانية إذا كانتا فارغتين في جدولي، وأنصرف عند انتهاء حصصي ولو كانت نهايتها سادسة أو خامسة، وأغادر وسط الدوام لقضاء أي شأن من شؤؤني إن كانت لديّ حصة فارغة، وأتعدّاها قليلا إلى الحصة التالية، وأجد في ذلك مغنما وحقا مكتسبا يمنحني بعض راحة نفسية عندما أقارن سويعات انفلاتي، فأجدها على طولها لاتزيد عن قطرة من بحر، إذا قارنتها بساعات انفلات بعض من عملت معهم من المديرين. أما هنا فقد فارقتني تلك النشوة التي كنت أحس بها كلما اقتنصت ساعة من عمر الدوام .
وعلى نقيض ذلك فإنني أشعر بالخجل يجللني كلما مررت بالإدارة في ساعة حضور متأخر أو انصراف مبكر، فأجد مديرنا منكبا على عمله، لا يبرح مكانه ولا يفرط في لحظة من لحظات الدوام .
أحس أنني أتضاءل وأنكمش على نفسي، وأود أحيانا أن أتوارى عن ناظريه حتى لا يضبطني متلبسًا بتقصيري المعهود. وما يعذبني أكثر هو إحساسي أنه يراني و يتابع دخيلة نفسي، يلاحظني وأنا ألتصق بالحائط في صعودي ونزولي متجنبًا المرور بالإدارة، لكنه يغض طرفه و يتظاهر بعدم رؤيتي ليتجنب إحراجي، فيتركني على سجيتي أخوض في مستنقع التقصير مؤملاً أن يبرز من مكمنه يومً ضميري المستتر.
إن هذا الصفح يؤلمني أكثر، فأنا ما عدت أتلذذ بالساعة التي أخطفها من الدوام، بل صرت أجدها كابوسًا يطاردني ويؤرق منامي، فأبيت في تأنيب ضمير وخجل من فِعلتي حتى اليوم التالي .
أعرفت الآن يا صديقي لماذا طلبت الانتقال؟
فيصل سليم التلاوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق