أولاً : نصُّ القصيدة :
" سأتمادى كهيلين...
إلى أن تملأ مزاميرك صدري
وتحرق نيرانك عشب الآلهة الوثنية
سأتمادى بألم خريف
يصفر في إذاعة الفصول
لتتعطر ملامحك برائحة الغرق في مملكتي
سأعري روحي فوق جثتي
وأرقص كما سالومي
قبل الرحيل...
احرفني عن أحرفي
ولترتفع شهوتي
في عطرك
سمااااااااء.....
بتول حسن..
ثانياً : القراءة :
ماذا يمكنني أن أقول عن هذا النصّ ، كيف أصفه ، كيف أنزل بعالمه وفضائه وهو السامق العالي ، كل حرف سأكتبه يتهمني بالتقصير ، ويصفني بالعجز
هو نص من السحر وليس من الشعر ، يمسك بمهجة القلب ، كما تمسك الأشواق جناح الطائر و تطلقه فينتهب الآفاق ، أو كما تمسك النسمة أريج الزهر فتسكر وتندفع إلى كلّ غاية ، وبلا غاية ، في النص خطان منجدلان يتحركان معاً خطوة فخطوة :
خط الموت ، والطغيان ، والوصاية على الأرواح الذي تزوي به المواهب وتخيب القدرات
وخط الحياة ، والحرية ، والتحقق بالروح الذي تزدهر به الطاقات وتثمر القدرات .
تقول الشاعرة :
" سأتمادى كهيلين...
إلى أن تملأ مزاميرك صدري
وتحرق نيرانك عشب الآلهة الوثنية "
لنتأمل هذه الافتتاحية ، في كلمة البدء كيف انطوت في ذاتها على الخطين جميعا وكيف استكنا فيها .
" أتمادى " أي أبلغ المدى ، أبلغ الغاية .
هذا جانب ولكنه مجدول إلى جانب آخر ؛ هو تجاوز الحد ، التطاول ، مصادمة الضوابط والإلزامات ؛
لماذا يكون بلوغنا غايتنا تطاولا وتجاوز حدود ؟؟؟ وعلى من غالبا نتطاول ونتجاوز حدودنا إذا تمادينا ؟؟؟
لماذا لا نصل إلى مرادنا حتى نتحرر من وصاية الناس ، ونتجرد من تعاليمهم ،؟؟؟
ولماذا يسيء إليهم إصغاؤنا لأنفسنا وانقيادنا لمنانا ؟؟
- " كهيلين " المرأة الإسبرطية المقيدة بميثاق الزواج ، بسور الوفاء والطاعة ، ولكن الحب أعظم سلطاناً من الزواج ، وميل النفس وهواها أقوى من طاعتها وانقيادها حين ينزل سلطان الحب.
هكذا يتوافق الحبيبان: هيلين الإسبرطية وباريس الطروادي ، توافقاً لا يقرّه المجتمع ، ولا ترتضيه الأعراف ، حكمَ الحب وحكمه امر ، فاستجاب له الحبيبان اللذان لن يكونا معاً وينعما بحبهما ، لن ينالا المباركة و ينعما بالتهاني لأنهما تطاولا على حصن الأسرة ، وقيم المجتمع ، مما دفعهما إلى الهرب ، الذي كان ثمنه حرباً بقدر عظمة الحب حطمت ، وبقدر هناءته أفجعت .
من أجل كرامة الزوج الذي لم تعد تريده زوجته ، ومن أجل الإصغاء لصوت الحب وطاعته ، والارتفاع به فوق التعاليم والضوابط ، كانت حرب طروادة ، وكانت سيول الموت .
عرفنا غاية هيلين ، فما غاية الشاعرة ؟؟
عرفنا ثمن ما طلبت هيلين فما ثمن ما تطلب الشاعرة ؟؟
" إلى أن تملأ مزاميرك صدري "
" وتحرق نيرانك عشب الآلهة الوثنية "
المزمور : اناشيد وأدعية كان داود يرفعها إلى ربه ، وهي زبور وتعاليم كان يستصلح بها الناس
والمزامير هي الأنغم والألحان يصدرها الفنانون بآلة النفخ ، إذن فالشاعرة تريد لقصيدتها ، لدعوتها ، وأنشودتها ، لتراتيلها وأنغامها أن تصل بين الله والناس ، تريد أن تطابق بين عقيدة الناس وإلههم الحق ، أن ترفع الآلهة الباطلة ، ان تحرق عشب الضلالة، عشب الإيمان المنحرف ، و الآلهة الكاذبة ، عشب الأوثان تريد ان تحرقه بنيران المزامير ، نيران الاتصال بالحق وإصلاح حال الناس ، تريد ان تنهي في نفسها ونفوس الناس أعداء داوود وتثبت داوود ، أعداء الحق وتثبت الحق ، أعداء الإصلاح وتثبت الإصلاح
" سأتمادى بألم خريفٍ
يصفر في إذاعة الفصول "
" يصفر " لنتأمل هذا الفعل عساه يكمل حقيقة المطلوب ويتم انكشاف الغاية " يصفر " من الصفير : التصويت ، الزمر ، النفخ الملحون .
ولكنها تصفر ألماً ، وبالألم ، وهو ألم الخريف ، الم الموت ، ألم القواء واليباس والخراب ، ألم العشب الوثني الذي أسمن البهائم وأطلق هياجها وغرائزها المجنونة ، بهذا الألم ستصفر وبه ستتمادى ، ولن تهدأ حتى تشيع الفصول ، وتذيعها ، وتبثها ، وتنشرها ، لم تقل إذاعة الربيع ، قالت : الفصول ، فهي لا تريد أن تنتقل من لون من الاحتكار ، إلى لون آخر
لأن الإحتكار يعطّل دورة الحياة ، ويقتل صيرورتها
تريد دورة كاملة للحياة مستوفية جميع الفصول .
" يصفر" أيضا بمعنى يفرغ وينفد ويخلو ، ان ينفد الخريف ويفرغ ويصفَر بالفصول وامتلائها ونزولها وتدفقها وتعممها.
" لتتعطر ملامحك برائحة الغرق في مملكتي "
مملكتي : الإضافة إلى ياء المتكلم ، هي إضافة لمزامير داود ونيرانه التي تملأ بدعوة الصلاح الصدور وتقضم عشب الإيمان الأعمى ، إيمان الباطل والخراب .
ولكن كيف تتعطر ملامحه برائحة الغرق ؟
ليس كما أشيعت الفصول بألم الخريف
لا تتعطر أوصافه برائحة الغرق ، كما يختفي الضد بنزول ضده وإنما كما يذوب الشيء في حقيقة نفسه كما يفنى المؤمن بخالقه
لماذا قالت : الغرق ، ولم تقل غرقك ؟؟ كانها تخاطب أي احد فتقول له : لا تمت إلى على حق وصلاح ونغم لا تمت إلا على اطيب الروائح وأحسنها لا تمت إلا في غايتك ، وتماديك ، وتحققك.
للموت عطرا ، للموت انغماراً بالعطر حديث و له فضل كلام ، لكن لنتعرف قصة سالومي أولاً
" سأعرّي روحي فوق جثتي "
وأرقص كما سالومي
قبل الرحيل "
سالومي بنت هيروديا ، شالوميت بالعبرية غالباً ماتقترن حكايتها بموت يوحنا المعمدان
فبعد موت زوج هيروديا يقرر أخوه هيرود أن يتزوجها ، ان يتزوج أم سالومي ولكن يوحنا يرى في ذلك فساداً
يوحنا لا يريد لسالومي أن تخسر أمها بعد أن خسرت أباها ، لا يريد لموهبتها العظيمة ان تضيع في شهوات الحكام ، ولكن هيروديا تريد الزواج ويشتد استياؤها من صوت المنع ، تريد أن تقترن بالملك ، أي تريد ان تنصرف عم يناسب ابنتها إلى ما يناسب طمعها ومطمحها أي إن لها سبيلا غير سبيل يوحنا ، طريقا غير طريقه ولكن يوحنا يقف بينها وبين غايتها ، بين الملك وغايته أيضا ، إذن فسالومي بين غايتين ، الغاية التي يراها يوحنا ، ان تكون سالومي لنفسها ، والغاية التي تريدها امها وهيرود وهي ان تكون لمتعة البلاط وتسلية بطانته
تهمس هيروديا ام سالومي في أذنها - في يوم الاحتفال بميلاد هيرود ، في عيد ميلاده - فتقول لها : يريدك الملك ان ترقصي وتمتعيه وتمتعي حاشيته ، اخرجي كل ما تنطوي عليه روحك من فن ، ارقصي بكل حرفيتك ؟
سالومي التي لم تبلغ بعد ، سالومي الجميلة ، الغريرة ، المملوءة صباً ، المفعمة شباباً ، تشرع في الرقص ، تأخذها فتنة الرقص ، تشدها الرشاقة والخفة ، والهياج ، يشدها الصبا ، فتتنقل في طبقات الفتنة ، والإغراء ، والإغواء .
كلما قطعت رتبة نزعت ثوباً ، يفيض من جسدها عبير المر والصندل والبخور وألوان الأفاويه ، كأنها خيوط تسحب بها الحاضرين وتشدهم ، حتى إذا بلغت سابع المراحل نزعت آخر الأثواب ، فاتحدت مع عمق ذاتها مع كمال غايتها ، مع نهاية مناها محققة مجد الجسد ومفاتنه ، عند هذه اللحظة من توهج العري ، والتماع الجسد ، سجد الملك وسجدت أعيانه ، ليقولوا لها بلسان مليكهم : مري ، اطلبي وتمني ، اشتهي فكل حرف منك أمر وكل إشارة حكم .
إستشارت أمَّها ، قالت أمي : انت اطلبي ، فطلبت الأم رأس المعمدان ، ان يُجلب لها في طبق من ذهب .
هكذت حققت سالومي نفسها على مشيئة الأم والسلطان ، تماهياً مع الغواية والتحقق الجسدي وليس على مشيئة يوحنا في الهداية ، والتحقق الروحي ، هكذا ثبتت سالومي ضلالة الآباء وطغيان الملك بمحو صوت الهداية ونقد الفساد .
قلنا أن الموت عطراً فيه فضل كلام ، فالشاعرة كانت ومن باب خفي تشير إلى رواية العطر ، إلى قصة الفتى الفرنسي الذي يحفظ كل الروائح ، ويمزج بينها ، ويكتشف تأثيرها ، والذي يبدأ الناس بالتشويش عليه ، فيهجرهم إلى الجبال ، بعيداً عنهم حتى يستوفي غايته في معرفة العطر والوقوف على سرّه .
والذي بعد أن أحاط بالطبيعة وأدرك روائح الأشياء فما عاد خائفاً من أن يشويش الناس عليه ويعوقوا شمه وتمييزه ، بعد هذه المرحلة ، يعود إلى الناس ليدرك فيهم ما أدركه في الطبيعة ، ويميزهم كما ميز أشياءها، يستوقفه منهم ويتعصّى عليه رائحة الفتيات الأبكار ، الفتيات في اقتبال الصبا ، في زمن الغرارة ، اللائي من شدة قوة روائحهن يخفين ، فلا يعرف كيف يفصل بين هذي وتلك .
ولأن الفتيات لا يمكن أن يذعن له إذعان الزهور ، يبدأ باصطيادهن ، وكلما تجاوز فتاة بلغ من جوهر العطر مرتبة حتى يصل إلى مافوق العشرين ، فيتم له سر العطر ، الذي استجمعه من أجسادهن ،
من نسغهن فبلغ به كمال التأثير الذي ينشد ولكنه ضناً بهذا السر ، ضناً بهذا المجد بل قل استئثارا به واحتاراً له عمد إلى إفراغ الخلاصة على نفسه ، على جسده وثيابه ، فتتدافع إليه الناس وأخذوا في شمه ثم سرعان ما ارتقوا إلى عضعضته ، فأكله لم يبقوا منه شيئاً.
" احرفني عن أحرفي "
ولترتفع شهوتي
في عطرك
سماااء"
هذه خاتمة النص ، علينا ان نستوضح فيها الفارق بين الشاعرة وسالومي ، كلاهما يملك الفن ، كلاهما يملك سره وجوهره ، لكن سلطانه عند سالومي كان لمصلحة البلاط، لمصلحة هيروديا وهيرود ، سلطة الاهل ، وسلطة الحاكم ، وكان ثمن تحقق هاتين السلطتين موت المعمدان ، موت روح سالومي ، موت جوهرها الذي اراد المعمدان حفظه
المعمدان إذن رجل الفضيلة ، داعية الإصلاح ، ناقد الفساد ومعارضه .
أما سالومي فهي الشباب ، هي قوة العمل ، هي عزم الأمة ، وهي من جهة أخرى الفن والبراعة والاتقان والقدرات والإمكانات ، حين تجيّر سالومي الأوطان لمراد الآباء ، ومراد السلاطين ، تتمكن الطائفية ويقوى الاستبداد .
يموت الإصلاح و ينكسر النقد وتهوي مصلحة العموم .
ولكن هنا ما وضع سالومي الشاعرة ، هل ستتخلى عن جوهرها أيضا :
" احرفني عن أحرفي
ولترتفع شهوتي
في عطرك
سمااااااااء...."
قبل ان نتوقف عند هذه الخاتمة لنتأمل في قول الشاعرة :
" سأعرّي روحي فوق جثتي
وأرقص كما سالومي
قبل الرحيل "
الجثة : هي الجسد الميت ، جسد سالومي التي غبرت ، فوقه ستعرّي سالومي الراهنة روحها ، عرت سالومي الغابرة أثواب جسدها ففضحت عبودية القصر لمفاتنه ، سالومي الراهنة اختارت ان تعري استار الروح ، وأغطيتها، اختارت التحقق بالروح فقررت أن تبدي مالم يُرد المعمدان له أن يُغفل ، مالم يرد له أن يغيب ، ما اراد له ان يتحقق ويتحصل ، ما اراده أن يكون
تفعيل القدرات والإمكانات والذهاب بها في سبيلها الصحيح ، سبيل الهداية ومجد الروح لا سبيل سلطة الآباء والحكام التي طالما كان في تزاوجها موت الإنسان وانهيار الأوطان ، موت المعمدان .
" احرفني عن أحرفي
ولترتفع شهوتي
في عطرك
سماااااء
لنتأمل في كلمة سماء وتلك الألفات التي كثّرتها الشاعرة كأنها تقول : ليكن الإرتفاع تماديا ، ليكن لبلوغ الغاية ، ليكن مزمورا ، دعاء ونشيدا داووديا ليكن صوتاً معمدانياً ، يرتفع بطاقتي وموهبتي وقدرتي في سماء الإصلاح ودفع الفساد ونصر الصالح العام ، لا للحكام وأوهام الآباء ولا للأنانية والاحتكار والاستئثار .
بقي أن نتساءل :لماذا الانحراف عن الأحرف ، الانحراف يكون عن طريق صحيح ، عن هدف نبيل ، ونحن نرى حكامنا وأهالينا في صواب وصحة واستقامة ، لهذا فنحن كسالومي الجثة ، نريد أن نبارك موتنا وموت المعمدان ، امتثالاً للشيطان .
علينا إذن أن نتنكب سالومي الجثة ونصغي إلى سالومي الروح ، ان ننحرف عن هذا الصواب الخادع عن هذه الاستقامة الكاذبة ، عن هذه الوصاية المدخولة .
بهذا وحده نرتفع بالعطر ، وبهذا وحده نطاول السماء .
بالانحراف عن الآلهة الوثنية إلى إله داوود ،إلى مزاميره نفعم بها صدورنا ، وإلى نيرانه نطعمها ضلالنا وغوايتنا واستئثارناوانقيادنا الغبي الأحمق الرخيص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق