دفَنَ ركبتيه في بطنه وجلس قرْب عتبةِ بيته العتيق ملفوفا في جلبابه، يشيِّع النّهار بعينين ضامرتين، كمن يشيِّع جنازة قريبٍ، يحدِّق إلى الشَّمْس بنظراته النافذة، وهو يمسح بيده على لحْيته التي عفا عنها قبل أيام..
هذه السنة لا تسمع غير فلان مات، فلان مات، فلان مات..؛ في أسبوعٍ واحدٍ فقط، فقدتُ اثنيْن من أتْرابي، أشعر بدنوِّ أجــلي، الجميع يقول لي ذلك، بينما أنا أتظاهر بفقدان حاسة السّمْع أحيانا، لا أسمع إلا ما يليق بي..
يقف الآن وحيدا كفزاعة وسط أوراق الخريف الصفراء، ينتظر سقوطه الأخير من شجرة الحياة، بينما كانت عْوِيشة بنت محمد تلقي السلام :
- مْسا الخير آ خيي ، كيفْ بقيْت من جيهة صحابك اللي تابعو في مرة..بقى فيَ غير السي احمد الله يرحمو، كان صحيح فصيح.. يْدَردك بحال العاود... أما اللاَّخر كان عيااان مسكين..والله يدينا بالضو..والله يْتَم ما باقي على خير...
وأردفت مستفهمة:
- انتَ مفي راسكش...؟ وولد غنو بنت عبقادر...كيجاب الله مسكين .. يعلم الله واش يصبح ولا ميصبحش...؟
لم يعد يقوى على سماع أحد، تظاهر بالصَّمَمِ كعادته، أدار ظهره لكلامها حتى اختفت، عاد إلى الجلوس في فم بيته، فسمع صوت بومة، أفسد عليه ما تبقى من جلسته الحميمية مع الغروب..
نفض غبار الشؤم عن جلبابه الأغبر ويَمَّم وجهه في اتجاه مصدر الصَّوت وهو يردِّد :
- تْغَوْتِي على عمرك إن شاء الله، تغوتي على عمرك،على عمرك إن شاء الله...
ودفع باب البيت مجتهدا ألا يشعر به أحد، اتجه إلى غرفته المعتمة، أوصد الباب عليه، ثم تسلل إلى فراش الموت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق