أبحث عن موضوع

الثلاثاء، 15 أبريل 2014

البيت الجديد / قصة / بقلم خديجة السعدي / العراق


كانت أمي مستاءةً أكثر من عادتها صباحَ ذلك اليوم. لقد هدّها التعب الجسدّي والنفسّي ولم يعد باستطاعتها السكوتُ على ما نحنُ فيه من حال مزرية في هذا المنزل البائس الذي نعيش فيه منذ سنين. لقد ضقنا ذرعاً بسقفه المتداعي وجدرانه المتشققة. رائحة التراب تعبق بأنوفنا ليل نهار. في الشتاء، نعيش في خوفٍ دائم من أن ينهار علينا البيت في أية لحظة. منذ أشهر وأمي تفكر جديّاً في الانتقال إلى بيت آخر.
بعد الفطور قالت لي إن لديها بضع قطع ذهبية سميكة ورثتها عن أمها، التي أوصتها قبل أن تموت بأن تدّخرها لأيام الشدّة.
" إنها تساوي مبلغاً لا بأس به،" تقول لي. "وبعد بيع منزلنا هذا”
"إنه ليس منزلاً،" أقاطعها."من يشتره يشتر قطعة أرض لا غير."
تتابع أمي وتقول إن المبلغ الذي سنجمعه من بيع القطع الذهبيّة وقطعة الأرض قد لا تكفينا، لكن أبي وعد بأن يجد عملاًإضافيّاً ليساعدها في شراء منزل جديد. وحتى لو لم نستطع تأمين الثمن كاملاً دفعةً واحدةً، قد نستطيع أن ندفع لصاحب المنزل الجديد باقي المبلغ فيما بعد.
صحيحٌ أن المنزل الذي سنشتريه قديم هو الآخر، توضح أمي، لكنه أكبر مساحةً من منزلنا الحالي، وفيه غرفتان واسعتان في حال جيدة، ونستطيع في المستقبل بناء غرف أخرى، لتكون لكلّ واحد منّا غرفته الخاصة.
لم أرَ المنزل الجديد من الداخل بعد، لكن أمي تقول إنه مقسّم إلى أقسام ثلاثة: الأول أرض واسعة مزروعة بالأشجار والأزهار، نستطيع أن نزرع فيها الفاكهة والخضار أيضاً.
الأرض مغطاة بأنواع الأوراق اليابسة والأغصان والثمار الجافة. إنها تشبه الغابة، تقول أمي، ولايبدو أن يداً امتدت إليها منذ سنين طويلة. نستطيع أن نبني فيها غرفة جلوسٍ ذاتَ موقد حجريّ كبير، وموقد ناراً كلّ ليلة من أحراش غابتنا الصغيرة وأعوادها اليابسة.
ربما كانت هذه المرّةَ الأولى التي تفكرفيها أمي جديّاً بامتلاك بيت أوسع نستطيع العيش فيه بسلام. إنْ احتجنا إلى مبلغ إضافي لإكمال ثمنه، قد نُضطرإلى بيع سجادتنا الكبيرة وبعض الأثاث. سنقتصد أكثر في مصاريفنا اليوميّة ونتحمّل صعوبات السنة الأولى، لكن الخوف من انهيار السقف والجدران الذي ظلّ يلازمنا طويلاً سيزول. سنستنشق هواءً نقيّاً وستكون صحتنا أحسن بكثير في السنين التالية. وشيئاً فشيئاً ستخلو حديقتنا من الأوراق اليابسة والأحراش. سنشتري طاولة وبعض الكراسي البلاستيكيّة ونجلس في الحديقة كلّ ظهيرة لاحتساء الشاي. سيأتي الجيران لزيارتنا والجلوس معنا في الحديقة. سيبني أبي ممراتٍ إسمنتيّةً تخترق الخضار طولاً وعرضاً، وسنرصف السياج بأحواض نملؤها بالأزهار ونباتات الزينة. في سنوات لاحقة، ربما نبني حوض سباحة أو نافورة في الوسط، ونملأ الحديقة بأقفاص طيور لنستيقظ كلّ صباح على زقزقة العصافير وتغريد البلابل. ورويداً رويداً سنشتري أثاثاً جديداً ونوسّع المطبخ والحمّام. لن نضجر أو نغتمّ بعدها لأن بيتنا سيكون جميلاً.
"وماذا عن القسم الخلفيّ من المنزل؟" أسأل أمي.
"القسم الخلفي هو الجزء المُهمَل تماماً. أعتقد أن أحداً لم يدخله منذ سنين. سنرى وقتها ما نفعل به."
لا أصبر أنا وأقرر أن أكتشف بنفسي. سمعتُ مرّةً من الجيران أن رائحة المكان عفنةً وأن أحداً لا يودّ الاقتراب منه خوفاً أو قرفاً. بقيتُ أفكر في المكان المعتم وما قد يخبّئ لأيام، إلى أن جاء يوم ربيعيّ مشمس غيّر كلّ شيء: إذ قبل أن يستيقظ الجميع، توجّهتُ إلى القسم الخلفيّ من منزلنا الجديد: كانت تجرفني الرغبة لرؤيّة ما فيه واكتشاف سبب عدم اقتراب أحد منه.
تقدّمتُ بخطواتٍ وئيدة وفتحت الباب الخشبيّ بحذر. كان هناك ما يشبه قاعة كبيرة مستطيلة الشكل ذات أرضيّة إسمنتيّة وسقف عالٍ جداً.
على طول القاعة من جهة اليسار، امتدّ مقعد حجريّ عريض يمكن الجلوس أو النوم عليه. لكن رائحة الرطوبة والعفن المنبعثة من الجهة الأخرى المقابلة للباب تمنع المرء من الاقتراب أكثر.
غطيتُ أنفي وفمي بيدي اليمنى وتقدمت. أدمعتْ عيناي فأغلقتهما، ثم فتحتهماجزئياً لأرى أمامي. في الزاوية القصيّة في الظلمة، وقع نظري على ما يشبه العليّة. أرعبتني الرؤية.
كانت العليّة أشبه بغابة تمتلئ بأنواع المخلوقات الحيّة: عناكب وحشرات وزواحف وفئران وطيور مختلفة. ما أدهشني أكثر كان رؤيتها وهي تتراكض بجنون. لكن دون أن تحاول النزول إلى القاعة. بقيتْ عيناي تحدّقان في هذا المنظر المرعب والمدهش في آن. كان السقف والجدران كلها مكسوّة بمزيجٍ من الأسود والأخضر، والأرضيّة بالطحالب والعفن. كادت الرائحة تخنقني، لكني قاومت لدقائق أخرى وبقيتُ أشاهد ما يدور.
كيف تتآلف هذه المخلوقات في هذا الحُجْر الحيوانباتي؟ كيف تكاثرت، ومنذ متى؟ مَن يا تُرى هيّأ هذا المكان على هذا النحو؟ لم أكن لأعثر، بالطبع، على أيّة أجوبة.
قبل أن أغادر المكان، بدأ شيء ما له قامة إنسان صغير بالتحرك. قررتُ أن أبقى لأكتشف ماهيّة هذا الشيء، وبعد قليل ظهرتْ أمام عينيّ طفلة في التاسعة أو العاشرة. أزاحت عنها الطحالب والفطور ونهضتْ واقفة، ثم قفزت إلى أرض القاعة وتقدمتْ باتجاهي. تملّكني الخوف بداية الأمر، لكني ثبتُ مكاني حين رأيتُ ابتسامتها الساحرة.
"ماذا تفعلين هنا؟" سألتُها. "لا أدري،" قالت والابتسامة لا تفارق ثغرها الجميل."لكن يبدو إني هنا منذ زمن بعيد، وقد حان الوقت لأخرج إلى عالم النور."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق