أبحث عن موضوع

الجمعة، 10 يناير 2025

"ملاك بين الماء والسماء"........... بقلم : فاهم المدني // العراق





كانت الشمس تميل نحو الأفق، تسكب ألوانها كهمسة وداع فوق مياه بحيرة حمرين، فتتحول البحيرة إلى لوحة حية تُلامس الأحلام. على ظهر قارب خشبي صغير، كانت ملاك، ذات السبعة عشر عامًا، تجلس بين عائلتها، ضحكاتها الرنانة تتشابك مع نسيم المساء، كأنها روحٌ تُعانق الحياة بأقصى ما فيها من جمال.
لكن البحيرة، التي بدت كأنها أمٌ حنون، فجأة كشفت عن وجهٍ آخر. ارتجف القارب، ثم تمايل بعنف كما لو أن المياه قررت كسر صمتها. صرخت الأصوات وامتدت الأيادي، لكن موجة مباغتة قلبت القارب رأسًا على عقب. وجدت ملاك نفسها تسقط في قلب المياه الداكنة، حيث البرودة تخترق عظامها كطعنة غادرة.
كانت لأول مرة تواجه الفراغ المجهول. حاولت أن تصعد، أن تتشبث بشيء، أي شيء، لكن المياه كانت أكثر قسوة من أن تمنحها فرصة. كل ما سمعته كان خفقان قلبها المتسارع، وصدى أصوات عائلتها يتلاشى في عمق الصمت.
"يا الله..." تمتمت في أعماقها، دعاءً خافتًا يعلو على رعب اللحظة. "أهذا هو الرحيل؟ أكنتُ أضحك دون أن أدرك أنه وداع؟ يا رب، إن كنتَ قريبًا كما يقولون، فلا تتركني وحدي هنا. كن معي، في هذا الظلام الذي لا ينتهي."
يديها المرتعشتان لم تعدا تقويان على الحركة، وأطرافها بدأت تُثقل كما لو أن البحيرة تسحبها إلى الأعماق برفقٍ مخادع. الهواء، الذي كان قبل لحظات حقًا مكتسبًا، بات الآن أملًا بعيد المنال. ومع كل لحظة، كانت رغبتها في النجاة تخفت، لتحل محلها راحة غريبة، كأنها تُسلم أمرها لما هو أعظم من الحياة والموت.
"اغفر لي، يا رب..." فكرت بصوتٍ داخلي طغى على هدير المياه. "إن كان هذا هو الختام، فلتكن رحمتك عونًا لمن أحبوني. اجعل أمي قوية، وأبي صامدًا. لا تتركهم يغرقون في ألم غيابي."
عيناها المغمورتان لم تريا سوى ظلال غائمة تتماوج بين الماء والضوء. شعرت بأنفاسها الأخيرة تسلمها إلى سكون عميق، سكون لم تكن تخشاه. في أعماقها، كانت السلامات تغمرها، كأنها تُساق إلى حضنٍ لا يعرف نهاية.
حين انتُشل جسدها، كان الماء قد غسل ملامحها من كل أثرٍ للخوف. على وجهها كانت ترتسم سكينة عجيبة، كأن روحها وجدت نورًا لا تراه إلا العيون التي أغمضت على يقين. وفي المساء، عادت البحيرة إلى هدوئها، لكن صلاتها بقيت معلقة بين السماء والماء، شاهدة على لحظة تصالح فيها الإنسان مع قدره.
بحيرة حمرين لم تبتلع ملاك، بل احتضنتها. صارت شاهدة على روحٍ انتصرت على الموت، وخلّفت وراءها صدى دعاءٍ خالد. في أعماق المياه، لم يكن الغرق نهايةً، بل عبورًا إلى نورٍ لا ينطفئ، وإلى ذكرى ستظل حية في ذاكرة من عرفوا ملاك، وعرفوا أن الحياة والموت كلاهما وجهان للقاء الخالق.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق