منذ اليوم الذي تنعزل فيه عن الآخرين تستطيع رؤية اللامرئي، أتذكر، كنت في التاسعة، لا شك كنت طفلاً، لكن مازالت أتذكر تلك الحادثة!
نعم، رأيتها بأم عيني، لم أقل لأحد؛ حيث لم يخطر ببال أحد أن يسألني كيف ومتى حدثت؟ كنت خائفاً، لا أستطيع أن أكاشف أهلي، أصدقائي، شعرتُ بالحزن والأسى عليّ، الخوف يقطع أنفاسي، كل يوم يدفعني القلق إلى الانزواء والنظر إلى الحياة من فتحة ضيقة.
في بادئ الأمر كان كل شيء بالنسبة لي مجهولاً؛ إذ لا عهد لي بمعنى ما حدث في ذلك الجو الذي يشبه الظلام، ركن سيارته، بطيئًا ترجل مترنحاً يحاول الاتزان، يرتدي بدلة غامقة وقميصاً ابيض وربطة عنق لم أستطع أن أميز لونها، يسير وهو يخاطب خاتمه اللامع بين أصابع يده اليمنى، عند حافة أنف الجبل جلس أمام البحر وبكى، كان يبكي كأنه لم يبكِ من قبل! حتى أنني شككت أنه سينهار قريبًا ويسكت، لكن لحظة ما صاحت النوارس، وثبَ من مكانه وهتف "كفى"، وقفز..
وكان صوت ارتطامه بالماء مذهلًا. ولم اشعر بتلك اللحظات التي تسارعت خطواتي فيها وانا اجد نفسي متدحرجًا نحو رمال رطبة نهايتها حفرة امتلأ نصفها بماء أحرق عينيى. تحسست أضلاعي ويدي وساقي اليسرى فشعرت بالم وخدر. لابد أن أعمل شيئا. نداء صارخ يتفجر داخل أعماقي. هيا. لاتتردد. لابد ان تعمل شيئا. كبير أنت. صبي بعضلات مفتولة. هيا ايها الصياد الماهر. إرمها واربط الحبل جيدا. تذكر الموجة التي تسحبك لابد ان تدفعك. هيا طوِّق نفسك بواحدة وارم بأختها اليه.. وكان تسارع اللحظات التي يختفي فيها ويطفو تمنحني مزيدا من اليأس تارة والامل تارة أخرى عندما بدت راحتا يديه مفتوحتين بين ظهور واختفاء، وأنا اتنقل بين الزوارق المربوطة متوجسا انه سيغطس والى الابد.
رميت بنفسي نحوه. سحبته من شعره وطوقت رقبته بذراعي اليمنى فشعرت بالاخرى لا تعينني . أتركني. قلت لك اتركني سنغرق سوية. لا لا تخف. امسك بها جيدا. تذكرت إصرار أبي على الحذر من مَسْكَةِ الغريق. بيد واحدة يا ولدي. أجل بيد واحدة تعمل. تطوقه، تمسكُ شَعره وحتى ترفسه بقدمك. تذكر ان لحظاتِ الموت لاترحم، لكن ارادتك تؤجلها أحيانا إن كانت هي الأقوى..
هدوء تكسره لهاثُ انفاسٍ متسارعة وتغريداتُ النوارسِ التي لازالت تحوم حولنا على غير عادتها، رغم احتضان البحر لقرص الشمس. ساعات ويكتمل ظهور القمر لتشرق الشمس في يوم جديد ويأمل الصيادون برزق يسد رمقهم بعد استراحتهم الاسبوعية، وما حولي كل شيء سكن. خطوات متسارعة. توقف قليلا. فرك باصبعه شيئا لامعا. كان يرتدي بدلة غامقة وقميصاً ابيضَ وربطةَ عنقٍ استطعت أن أميزَ لونها. لونٌ جميلٌ اعيش معه كل ايامي. طوقَتْهُ يوما والان يُكَحِّلُ صدرَه وفاء لها. مَدَّ ذراعه مبتسما وصافحني بود لافت. ضغطتُّ بقوة كفه، فبدا استغرابَه مبتسمًا. سحب ذراعه ولمس رقبته وهم بالكلام لكنني بادرته متحمسًا..أجل يا صديقي.. أنا.. مازلتُ قويا..
ملاحظة: أصل القصة هو "الذاكرة" للروائي والقاص حسن البحار حيث تحولت إلى "ما بعد الذاكرة" بعد ان أكملتها وهي تجربة لاشتراك كاتبين في انتاج قصة مشتركة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق