البارحةَ جلسَ أبي وحيداً على الشُّرفةِ المسائيَّةِ للعمرِ يدخِّنُ الذكرياتِ الجميلةَ بأسىً ولوعةٍ ، يرفضُ أنْ يشربَ قهوتَهُ المعتادةَ معنا ، لم تعدْ أشجارُ الزيتون التي تعصرُ خوابيها للنجوم تسامرهُ ليلاً، ولا شجرةُ الجوز الوارفةُ الثَّمرِ تناغي أحلامَهُ في الصباحِ، لم يعدْ يزهو بأيام شبابهِ ومحبةِ معلميه له، أو يحدثنا عن تحلقِ الغزلانِ حوله وغيرةِ زملائهِ من فتوتهِ ، غابت عن أسماعنا أغنياتهُ العذبةُ و أناشيدهُ المدرسيةُ التي كان يرددها كلما أطربهُ اللقاءُ .
وقفَ ينادي بأعلى صوته لأمِّي قائلا : أين أنت يارفيقتي الجميلة ؟ تعالي إليَّ ، أنت الفرحُ والجمالُ
الحياةُ بدونك قبرٌ مظلمٌ ،والدارُ بلا عطركِ صحراءُ لايرفُّ فيها نبتٌ .
ماأحيلاها أمِّي !! خرجتْ للوقتِ من صدري مسرعةً تجيبهُ بحنانٍ وسيلٍ من جمانٍ ، أمِّي كانت قد توسَّدتْ صدري مذ رحلتْ إلى حدائقِ السماءِ ،ربَّتت على كتفيهِ ، قبَّلتْ وجنتيهِ وعادتْ إليَّ راضيةً كما في كلِّ مرة يناديها أبي
سمعتها تغني موالاً شجياً و تغدقُ في تحنانها ، تودعُ فؤادي سفراً من عظيم الآيات وخبزِ الوصايا ثمَّ تغيبُ
لكنَّ أبي الذي أتجمَّلُ بضحكتهِ لم يسمعها ،ولم تهدأ ثورةُ حزنهِ حتى أخبرتهُ أختي الصغرى أنَّ أمِّي الحبيبةَ لم تتركنا ،وإنَّما ترتِّبُ لنا مع الآبِ بيتاً أبدياً في السماء بيمناها، وباليدُ الأخرى تحملُ لنا غيمةَ حبٍّ طافحةً بالنعمِ الإلهيَّةِ، وهاهي تضمُّنا إليكَ ياأبي كخرافٍ وفيةٍ - فرقتها ذئابُ الزمن - لراعيها ، تقدَّمُ لنا طبقاً فاخراً من تينِ الأحلام وعنبِ الذكرياتِ ، و تعدُنا بهدايا أسنى .
مرحى لضحكتك البهية ياذهبَ العمر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق