لاتزال إشكالية قصيدة النثر, تأخذ قسطاً وافراً من المشهد الشعري, ومصدر هذه الإشكالية, لم يعد مرتبطاً بمشروعية هذا اللون الشعري, رغم وجود فئة قليلة ذات رؤية محافظة في الشعر والأدب, ترفض هذا النوع الإبداعي من الشعر, وهي فئة منغلقة على قراءة الموروث الذي وصل إلينا من الأسلاف, أو النزول عند قراءة الشعر التقليدي المعاصر في أحسن الأحوال. وقد تقهقر الجزء الأعظم من هذه الفئة. ليهجر الشعر الكلاسيكي, ويجرب كتابة الشكل الأحدث, رغم تباين المستويات الفنية في الكتابة, كما حدث لأغلب الشعراء الذين برزوا في الساحة الأدبية بعد (2003).
إن الإشكالية التي أشير إليها, لاتخص قبول الشكل أو رفضه, ولكن مصدرها هذه المرة, القيمة الإبداعية لشعراء قصيدة النثر, قياساً بضروب الشعر الأخرى (العمود, التفعيلة) بعد هذه المسيرة الني نيفت على العقود الثلاثة وهم شعراء يتفاوتون في منجزهم الإبداعي, فقسم منهم كتب قصيدة النثر على سبيل الفهم الموهوم للحداثة الشعرية, فهم يظنون ان الحداثة غموض ابداعي أقرب إلى التهويم والانغلاق والعماء, ولا يخلو من التداعي الحر والاعتباط والتعبير المجاني, مستغفلين بذلك المتلقي, ومستغلين غفلة النقاد والدارسين, وآخر اجتهد في كتابة هذا النوع الشعري وأخلص له سواء من حيث المضامين, أم في آليات تشكله وبنائه.
وفي ضوء هذه الإشكالية سنقرأ ديوان الشاعر سعد المظفر هذا ان قصائده تكتسب منحى القصيدة الواقعية أحياناً, أو ما يسمى بقصيدة الحالة, حيث يحرص الشاعر في أغلب شعره, على تكريس هذا النوع, وقد يخرج معها أبعاداً فكرية, ليست بالضرورة كما وردت في أبعادها المتعارفة فهو يقلب المتعارف من أجل التوظيف الجمالي, مستفيداً من الموروث ومخالفته في أغلب الأحيان. بل ربما يذهب الى أبعد من ذلك فيدخل المتلقي في غيمة سوداء من الغموض المعتم فلا يعطي النص نفسه إلا بقراءة دلالية متأنية. يقول (المظفر) من قصيدة (غسق ذات وردة ... يا الله)
يا آدم, طلع تصالحٌ بعد الحرب
قاب البحر ببحث, فيرجمه غبارٌ
ظل النخل وحيداً
تزمل بالحلم وناداها
ان الانتقال بالنداء من (يا آدم) إلى (يا رب الجرح) حيث المنادى مذكر إلى (بعيدة) حيث التأنيث يتطلب قراءة دلالية, تمر بثلاث مراحل:
أ- آدم فقد حواء (بعد الحرب بينهما)
ب- عقد تصالح بعد الحرب
ت- انفصال للمرة الثانية (ظل النخل وحيداً)
ورغم هذا الانكسار, فالشاعر يحاول واقعه, بالانفلات منه, أو التحريض عليه, بالهروب إلى اضاءة. بالبحث عما هو ضائع.
ان مشركة الشاعر للمرأة يجعل من المتن الشعري ذات أبعاد جمالية, بل أن (المظفر) يعلق مهمة التغيير (الفردي, الاجتماعي) بادخالها, رغم أنها في عالمنا الشرقي تقف على الجانب الآخر, بسبب القوانين الاجتماعية المتزمتة, وهنا نراه يكرر دعوته لها, لإعادة ترميم العالم الذي عبث به الخراب طويلاً, وبدت على وجهه علامات القبح والظلام. ويتبين ذلك جلياً في القصائد المعنونة: (كل أنثى أنت), (ذوبان) , (غسق ذات وردة) , (أموت عشقاً) , بالرغم من احتواء بعض القصائد على صور (ابروتيكية) صارخة, مثل قوله من قصيدة (غسق ذات وردة):
(ألقيت على شبقٍ قلبي
بعبُّ , من أنداءِ قرنفلةٍ
وأمتطيك , لاكتشاف جلدي
أدسُّ رعشةً , بعد امتزاج)
أو قلوه من قصيدة (ما لا يباح)
(مدي الساق, واكشفي للطين ما لايباح)
كذلك ما جاء في قصيدة (أراك الآن)
(ولا نظرت سوى الأوهام بالأقمار
والجنس
تسطع الأفخاذ من شبق الى سيل من .....)
وغيرها من الصور المبثوثة من ثنايا القصائد و بل انه يتماهي مع المرأة ليصل إلى: (لذة فيها ألم
كاشتهاء أو حلم
أو كدبوس بأعضاء الذكورة) من قصيدة (نحت ظل الياسمين) .
والحق يقال أن تجربة الشاعر (المظفر)تنطلق من بنى تعبيريه تلقائية ،تبدو في كثير من جوانبها أن منطق (التداعي )هو المتحكم فيها ،أكثر من تحكم البنية المنطقية والقصدية، أذا استثنينا طبعاً قصائد ،مثل(خطوات)،(هلوسة كثيفة السواد) ،(ساحة التوديع) ، فهي تعلي من قيمة الانطباع الكلي الذي تتركه الصور والأساليب المستخدمة في ذهن المتلقي ،وهي قريبة أيظاً إلى البوح بما تضيق به النفس من رغبات حبيسة، غالباً ما يجسدها الشاعر ،وتكون المرأة المحور المقابل .ولا تخلو تجربة المظفر من وجود أزمات حادة بينه وبين ذاته الشاعرة ،ربما تصل إلى (التراجيديا )،كما سيتبين ذالك في قصائده (بعض المعاصي)و(خطوات)و(أبكي).
ولاتخلو قصائد الديوان من صور مبتكرة كثيرة مثل:
(حرفي الكافر
ينساب كحله في التدوين...ينساب)
أو (للمعاني حلم الالتحام
عطر نعناعة
...وخصام).وغيرها
فالشاعر يعول في تجربته الشعرية على عنصر الصورة والإيحاء ،وأن بدت غرائبية في بعض الاحيان .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق