أبحث عن موضوع

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022

عم سيد / قصة قصيرة ...................... بقلم : على حزين - مصر




عندما تذهب إلى قصر ثقافة " طهطا " في بلد رفاعة الطهطاوي, أول شيءٍ تقابله هناك وتجده في انتظارك هو "عم سيد " المسؤول الأمني للقصر, فهو يحرس القصر, ويقوم بكل كبيرة وصغيرة فيه , يقابلك بابتسامته المعهودة , يرحب بك , ويسألك :
ــ أي خدمة يمكن أن أقدمها لك يا أستاذ ..؟! ..
عم سيد راجل طيب, الكل يحبه , ويحترمه , رجل من الزمن الجميل , أصيل , يحب عمله , وابن بلد , شهم , كريم , تستطيع أن تميزه من بين كل من تراهم هناك ,
حين تراه تعرفه بثيابه البلدي الفضفاض , وبصوته الجهوري , وبسمته الجميلة الحلوة , وكرم الضيافة , تعرفه فوراً إذا ما لقيته بوجهه الأسمر الذي أبى الزمن إلا أن يضع بصماته الواضحة عليه , ..........
عم سيد رجلٌ تستطيع أن تعتمد عليه في كل شيء , وأي شيء هنا , وفي أي مهمة تُوكلها إليه , تجده لا يتأخر معك أو عليك , تجده يقول لك , بصوته الجهوري , وبهيئته المميزة من بين سائر العاملين في القصر , وبصراحته المعهودة , دائماً يردد :
ــ أي خدمة , رقبتي سدادة ....
فهو يعرف كل كبيرة وصغيرة هنا, أعرفه منذ زمن بعيد , وهو يعرفني ويعرف كل رواده , رواد القصر, والوافدين عليه , والعاملين معه , وسيرته طيبة بين جميع الموظفين في القصر
عم سيد هذا الرجل الطيب القلب يعمل مع كل الأنشطة في قصر ثقافة " طهطا " حتى تشعر وتحس وكأنه صاحب المكان وليس عاملاً فيه , لذا هو محبوب من الجميع , .....
عم سيد يمتلك خبرةً كبيرةَ في الحياة , يعرف كل الناس , والأنساب , والأحساب , والأماكن , ويعرف كل كبيرةٍ وصغيرةٍ في القصر, كما ولديه نظرة ثاقبة لا تخيب , ويمتلك قدرات خاصة على تمييز البشر .. ودائماً يقول لك :
ــ كل الناس دي أعرفها , وأعرف كمان تاريخها ,
ـــ ..................
لا تشبع من حديثه , ولا تمل إذا جلست معه , تجده فصيحاً , مثقفاً , وعنده سرعة بديهة , افتح معه أنت حواراً , أو موضوعاً ما , أو تحدث معه في شأن من شئون الحياة , تجده ملماً بكل تفاصليه ,أي شيء في الحياة , له فيها رأي ووجهة نظر مختلفة تماماً, جهبذاً ومخضرماً
تسمعه يقول لك :
ــ اللي ما يتعلمـ ش من الحياة والدنيا يبقى متعلمـ ش حاجة لسه ..!!
دائماً يرتدي الزي الصعيدي المعروف " الجلباب البلدي الفضفاض " ويترك رأسه بلا غطاء ولديه حس أمني عالي , ولبق في الكلام , ويمتلك ما لم يمتلكه الأخرون من معرفة المكان , وعن خباياه ...
ــ الدنيا يا عم علي مدرسه , وعلمتني كتير قوي , وأنا مش صغير برضك ...
ــ ......................
عم سيد , يستطيع أن يميز بين الناس , ويعرف للناس قدرهم , وينزلهم منازلهم , ويفهمهم أيضاً على حد قوله , وتجده أيضاً دار معارف متنقلة , في الأحساب والأنساب , ما شاء الله , موسوعة شاملة, تعرف منه كل معالم البلد وأماكنها , وأهل البلد كلهم يعرفونه , ويحبونه , ويثنون عليه خيراً , لذلك هو المسؤول الأول عن الأمن في المكان , هنا في قصر الثقافة " بطهطا " ويردد دائماً :
ــ الانسان ايه غير سيرة طيبة , وعمل صالح قاعد له لولد الولد ...
ــ ............................
نجتمع كل مساء أربعاء عنده , نلتقي بنادي أدب " طهطا "هذا النادي العريق الذي لم يزل يحتفظ بمكانته , وبريقه ولمعانه ووضعه بين أندية الأدب , بفضل قيادته الحكيمة الرشيدة , وحب الاعضاء بعضهم لبعض , المفتقَد , مع الأسف الشديد , في أندية كثيرة للأدب , لذلك ينضم إلينا كل يوم أُناس جدد من هنا وهناك , والنادي يرحب بهم , ويسعد لذلك , ....
نأتي كل أربعاء , الساعة السادسة مساءً, صيفاً وشتاءً , أو بعد صلاة المغرب تقريباً ,
فنجد عم سيد في انتظارنا , يرحب بنا , ويجلس معنا ليستمع لما نقول من شعر , وقصة , ونقد , وذلك بعد ما يقوم بواجب الضيافة معنا , يقدم لنا الشاي الصعيدي المغلي الجميل الذي يصنعه بيده , يجلس , يستمع باهتمام لما نقوله , ويتفاعل معنا في الحديث , أحياناً بالتعليق على بعض الأعضاء , أو الزملاء , وأحياناً أخرى يقوم بالاشتباك معي في حوار طريف وظريف , وربما تذكر موقفاً مضحكاً , فيضحك الجميع له , وينبسط لحديثه الماتع , وخفة دمه , وظرفه , وطرائفه التي لا تنتهي ....
ــ والله أحبسك هنا , ولا أخليك تروِّح , وأخلي أم الأولاد تدعي لي ,
ــ ..............
أنا دائماً أحرص على المجيء إلى النادي مبكراً , هذا النادي الذي أنا واحداً من أعضائه ومؤسسيه , وأنا أحبه كثيراً جداً, مثل ما أحب " عم سيد " وكل أعضاء النادي الذين يحضرون معنا الاجتماع كل أربعاء ....
أذهب مبكراً كل مرة , أحياناً أذهب مع ابني " فارس" الذي أحب الشعر, والأدب مثل أبيه , منذ صغره , وله " خربشاتٌ " جميلة , نشر بعضها في الصحف , وبعضها عبر الفضاء الأزرق " الانترنت " وأحياناً أذهب وحدي, حتى أكون أنا أول من يحضر من أعضاء النادي, حيث اللقاء الأسبوعي , فيقابلني عم سيد بابتسامته الجميلة الحلوة المعهودة منه , فلا أجد نفسي إلا وأنا أبتسم له , أسلم عليه , ويسلم عليَّ , وبعد مداعباته اللطيفة التي تعودتها منه كلما ذهبتُ إلى القصر , أو لقيته في الطريق في مكانِ ما , أسأله عن أعضاء النادي ,
ــ هل جاء أحد من أعضاء النادي ..؟!
ــ ....................
عم سيد قصة كفاح طويلة , أعرفه منذ زمن طويل, مخلص لعمله , وله مواقف عديدة معي لا تُنسى , أذكر لكم منها واحدةً .......
حدث مرة , ونحن في بيت ثقافة " طهطا " البيت القديم الكائن هناك , والقاطن مقره في شارع " 15 " القابع أمام البنك المصري الأن , والذي تحول الي مكتبة للطفل, وكنا نجتمع زمان هناك , وكان هو موظف جديد آنذاك , وكان نادي أدب " طهطا" يعج وقتًئذٍ بالمبدعين الكبار , وأيضاً بالروَّاد, ومحبي الشعر والأدب , وكان المكان يضيق بنا لكثرة الوافدين إلينا والذين يرغبون لكي يكونوا كُتَّاباً ويسعون لذلك , وكانوا من الجنسين فتيات وصبيان , وكانوا من كل الأعمار, وحدث أني اختلفت مع أحد الأصدقاء في وجهات النظر, وخالفته الرأي في أحد الأعمال التي قال هو فيها رأيه , وكنت شبه معارضاً له, وكان هو رئيساً للنادي آنذاك فاستثقلها على نفسه , وأخذها بمحملٍ سيئ , أقصد رأيي المخالف لرأيه , وحدثت بيننا مشادة كلامية , مهذبة طبعاً , لم تخرج عن حدود الأدب , ونطاق المثقفين , فقام على أثرها هو وبعض الأعضاء بأخذ قرارٍ فوري , ومتعسف , بفصلي من النادي , وعدم مجيئي إليه مرة أخرى , وعدم حضوري للاجتماعات, ودخولي إلى النادي مرة ثانية , وللأسف الشديد الكل كان صامتاً صمت القبور, وهو يعرف أني لم أُخطئ في حق أحدٍ , إطلاقاً, ولم أتعدَّى حدودي , ولا حدود اللياقة والأدب بتاتاً, فقط كل ما هنالك كان مجرد رأي مختلف , ووجهة نظر مخالفة , ومع ذلك صمتَ الجميع صمتْ القبور, وتخاذل الجميع إلا النذر القليل منهم .. المهم .. وحتى لا أطيل عليكم .. نادوا على الـ " عم سيد " فهو المسؤول الأمني للمكان , ويقوم على حراسته , ليخبروه بما حدث ويعلنوه بما كان من قرارات اتخذوها ضدي , ويوكلوا إليه هذه المهمة , وهي منعي من الدخول إلى بيت الثقافة أثناء الاجتماع , وعدم تمكني من حضور الاجتماع الأسبوعي معهم , ومع أني تأسفت لهم كثيراً , ومع ذلك أصرَّوا على فصلي , وعدم حضوري معهم الاجتماع , ومرت الأيام والأسابيع والشهور بل السنيين أيضاً مرت عشر سنوات بالتمام والكمال وأنا بعيد عن النادي , إلا أني لم أنقطع عن الإبداع , فكنت أمارس هوايتي , ونشاطي الأدبي مع نفسي بعيداً عن نادي الأدب , وكنت أكتب , وأنشر أعمالي في المجلات والصحف اليومية , ومع ذلك كانت نفسي تتوق للعودة إلى النادي, نادي أدب " طهطا ".. عشر سنوات بالتمام والكمال عددتها باليوم والليلة وأنا أتابعهم من بعيد لبعيد وأتابع أخبارهم , حتى ذهبتُ للأستاذ " محمود رمضان الطهطاوي" الأديب المعروف , وتأسفت له في بيته , وطلبتُ منه أن ينقل اعتذاري , وأسفي هذا لأعضاء النادي , ولمن كان الخلاف معه في الرأي, ووجهة النظر, فقبل , ورحب بذلك , وأثنى عليَّ , وامتدحني لأني فعلتُ هذا , وأخيراً عدتُ للنادي من جديد , لأجد " عم سيد " في انتظاري, يحاول أن يمنعني كما قالوا له , فهذا عمله , ولا يُلام عليه طبعاً ,
ــ رايح فين ..؟!!,
ــ داخل أحضر الاجتماع في النادي
ــ أنت ممنوع من الاجتماع ...
ثم أكمل بروح الدعابة , والفكاهة
ــ معاك تصريح بهذا ,
ــ .................
وفي اثناء حديثي معه , وأنا أحاول أن أشرح له , وأخبره بما كان مني مع الأستاذ "محمود " وما حدث بيني وبينه , إذ لمحنا الأستاذ " محمود " من النافذة الزجاجية المطلة على الشارع فأسرع إلينا , ليشكره ويصطحبني معه إلى الاجتماع , وعدت للنادي مرة أخرى , وعادت المياه إلى مجاريها , وعاد "عم سيد " يلقاني كل اجتماع ليضحك في وجهي وهو يقول لي بروح الدعابة , والمرح , والفكاهة
ــ رايح فين .. معاك تصريح طيب
فأتذكر ما حدث , وما كان , فيضحك , فأضك له ومعه , وأجلس معه , نتسامر , حتى يأتي أعضاء النادي تباعاً فأستأذن منه , و ..........
*******************************************
 طهطا ــ سوهاج ــ مصر
تمت مساء الاثنين / 12 / 12 / 2022



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق