للشاعر عصام مايربو على 390 نصاً منضوياً بشكل متسلسل تحت عنوان"شذرات" سأقدم في ادناه قراءتي في سيميائية لغتها الشعرية، منتقياً بعضاً منها عشوائياً كمادة لهذه القراءة، لضيق المجال من جهة ، ولكون ان لغة سائر هذه الشذرات لها ذات الخصائص الفنية من جهة اخرى ،وسيرد ذكرها في سياق القراءة مع ارقام تسلسلها.
بدءاً :
الشذرات اصطلاحاً هي فن أدبي إبداعي يتسم لغةً بالايجاز الاشاراتي والتكثيف الدلالي ، واعتماد الرمزية، في مقاطع قصيرة، تعبر عن المشاعر ، فهي اقرب ماتكون لنص "الومضة".
و مفهوم اللغة بأبسط تعريف لها يعني :أنها "وعاء الفكر" وتعبير عن الهوية ووسيلة تواصلية بين افراد جماعة بشرية ما تنطق بها ،تربط بعضهم ببعض وشائج ( سوسيو ـ ثقافية) في مجال مكزماني محدد ، وفق المخطط ادناه :
مخاطِب / مرسِل ــــ خطاب / رسائل ( مسموعة او مقروءة) ــــ مخاطَب / مرسَل اليه ، وفق مرجعية ثقافية مشتركة ( وعي جمعي ) لتحقيق الفهم/ التواصل التبادلي بينهما .
وهذاالوعي مُشَكَّل مؤسساتياً ، فهو محكوم بضوابط و ( حدود ) تلك المؤسسات (السياسية ـ الدينية ـ الاجتماعية)،التي تصل حد قهر الوعي الفردي ومنعه من الانعتاق من قيود احكامها .
القراءة :
المتأمل في لغة "الشذرات" يجد انها ذات بنية سيميائية خاصة، قريبة من اللغة الصوفية ، فهي ذات سياقات وجدانية حسية تخاطب المشاعر قبل الإدراك والتفكير ،لذا فهي نخبوية تتكئ على الإيحاء،الخيال والصور الذهنية لتقريب رسائلها الخطابية إلى الأذهان،كما في- شَذْرَة/045-:
{ حِيْنَ
عَطاءُ نَقِياً،
تَشِعُّ رُوْحُكَ،
وَتَفِيْضُ يَنابــِيْعُ
قَلْبكَ بِعُلُوِّ الصِّدْقِ،
لِتَكُوْن أَنْتَ مَنْ
تَلَقَّى هَدِيَّةَ
السَّماءِ.}
وفي - شَذْرَة / 332- :
{ وَرْدَةٌ فِي
الرُّوْحِ، وَعِطْرٌ
فِي القَلْبِ، هَكَذا
قالَتْكَ مِرآةُ إِنْسـَـانِكَ،
حِيْنَ عَبَرْتَ أَناكَ
لِتَراكَ بِمَعْناكَ.}
وظاهر دلالاتها يضمر معانياً لا تدرَك ، في الكثير منها ، إلا بالتحليل والتعمق في التأويل كما في :
ـ شَذْرَة / 001-
{مَنْ
رأَى الغايَةَ،
صارَ هُوَ الطَّرِيْقُ،
وَصارَتِ الَمسافَةُ
وَالوُصُوْلُ واحِدَةً،
وَالصَّمْتُ وَالكلامُ
واحِدًا، وَصارَ قَلْبُهُ
اللُّغــَةَ الَّتِي لا
تَعْرِفُ سِوَى
الَحمْدِ.}
وفي شَذْرَة / 392- :
{ حَلِّقْ
بِجَوْهَرِكَ،
الكَوْنُ كُلُّهُ،
جَســَـدُ
وَعْيِكَ.)
،وهي لغة مشفرة مما يجعلها لاتواصلية، تحرص على غربتها عن العامة ، لذا نجد كثرة ورود "كاف المخاطَب المفرد" في سياقها الخطابي ،كما انها تجتهد ان تكون وسيلة استبطان، تحمل على الغوص في أعماق النفس الإنسانية، والتحليق في فضاء عوالم مافوق واقعية ، للكشف عن معانٍ ورؤى ماوراء عقلانية / مادية . فهي متعالية على المألوف ومتجاوزة لما خبره القارئ في عالمه المعاش ففي ـ شذرة/ 023- :
{لَوْ
أَطْلَقْتَ
قَلْبَكَ فِي مَعْناهُ،
لَرَأَيْتَ الكَوْنَ
نَبْضَةً مِنْ
نَبَضاتِهِ.}
وفي شَذْرَة / 358- :
{إِذا
عَقَلْتَ اتَّصَلْتَ،
وإِذا تَعَفَّفْتَ انْفَصَلْتَ،
وَبَيْنَ وَصْلٍ وَفَصْلٍ وَصَلْتَ.
فَكُنْتَ فِيْكَ حَيْثُ لا أَنا،
وَكُنْتَ سِواكَ حَيْثُ
لا هُناكَ وَلا
هُنا.}
و يمتزج غياب الادراك العقلي مع اللاشعور المتسامي لنشدان الخلاص في اعماق النفس للاهتداء الى الذات الالهية كمكافئ موضوعي لعناق الذات بريئة من اي انتساب للواقع الخارجي ، ففي -شَذْرَة / 102- :
{لا
تَبْحَثْ
عَنْكَ خارِجَكَ،
سَافِرْ فِيْكَ إِلَيْكَ،
تَجِدْ كَواكِبَ تَنْبُضُ،
وَسَمَواتٍ تَقُوْلُكَ، وَمَرايا تَعْرِفُكَ.
وَفِي لَحْظَةِ اكْتِمالِكَ بِكَ،
تَجِدِ الله تعالَى. }
ان خصوصية لغة الشذرات ت ينأى بها عن عقلانية الذات الخارجية المكبلة بالوعي الجمعي ،العاجزة عن التحرر من اغلال الفهم المؤسساتي ومحظوراتها ، فهي تدور تحت نير التبعية والخضوع في دوامة الخواء الانساني وتأجيل ماتحلم به من عناق الخلاص في مديات الانعتاق ، لذا فهي تخاطب الذات الداخلية القصية البعد عن الواقع وهيمنة القاهر الجمعي عليه ، بقصد خلق عقل يمتلك "الحقيقة"بعد ان يكون عارفاً بالذات العليا/ الالهية، ومعرفته هذه لا تستند على البرهان العقلي الذي ارتبط بالفكر المؤسساتي كمااسلفت،وهذاماتضمره-شَذْرَة/276-:
{إِذا
لَمْ تَتَلَوَّنْ
أَفْكارُكَ بِمِدادِ
وَعْيكَ، تَجَسَّمْتَ
وَلَمْ تَقْبــَـلْ
سِواكَ.}
وكذلك -شَذْرَة / 312- :
{تَسْتَعْبِدُكَ
الَأشْياءُ بِحُضُوْرِكَ
فِيْها، تَصِيْرُ اسْمَكَ وَصِفَتَكَ،
وَجُزْءَكَ المَرْئِيَّ الَّذِي لا يَراكَ.
فَإِنْ تَرَكْتَها فِي حَدِّ وَسِيْلَتِها،
اسْتَعَدْتَكَ مِنْ مَراياكَ،
لِتَكُوْنَ أَنْتَ مِرآةَ
المَعْنَى الموْدَعِ
فِيْكَ.}
و شَذْرَة / 321- :
{بــِلا
حُرِّيَّةٍ عَقْلِيَّةٍ
أَنْتَ أَســـِيْرُكَ،
يَمْتَلِكُ رُوْحَكَ العَدَمُ،
وَيَســْتَوْطِنُكَ كُلُّ
شَيْءٍسِواكَ.}
ان صوفية لغة "الشذرات" متعالية على الواقع الحسي وعلى العقل أيضا. ومتقاطعة مع مجريات الحياة والوجود الانساني الجمعي المستلب من قبل"الآخر" الشمولي ،وتحمل على إدراك الحقائق المستترة وراء المحسوس ،تكتظ بالرمزية والانزياحات الدلالية التركيبية فيبعد مرماهها ويتعدد معناها كما في-شَذْرَة / 396- :
{إِذا
كَتَبَكَ
صِدْقُكَ،
صارَكَ فِعْلُكَ.}
ان البحث عن خلاص هو "ثيمة" عموم الشذرات ، ويكون بالانعتاق من كل ماهو خارج الذات ، ونشدانه في "وجود صوفي" في اعماق الذات الداخلية باعتبارها الذات الحقيقية الوحيدة المتحررة من قهرية الواقع الجمعي .
ـ باسم العراقي ـ
15 / ه / 2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق