هاله سياج العتمة الذي لفّ الدّار وأحاطها من كلّ جانب، مع أنّ الكهرباء في الشّارع وعند الجيران تشع كالشّمس، بينما بيته وحده غارقٌ في لُجّة من الظّلمة، وسوس الشّيطان في صدره، راح يبحث في جيوبه عن الولاّعة، دخل العتمة فاتّسعت حدقتاه، تعثّر بصندوق قمامة يبدو أنّ أمّ سعيد نسيت أن تعيده لمكانه، لعن الشّيطان وخزاه، تلمّس الباب ليفتحه فوجده مفتوحاً، اقشعرّ شعرُ رأسه، وَجَسَ قلبُه رعباً، شرر الولاّعة يقدح إنّما لا اشتعال، تابع دخوله متلمّسًا طريقه بالغريزة، صوته يسبقه: "أمينة أين أنت يا أمّ سعيد يا أمّ سعيد ". فجأة أضاء المكان، وانفجر الموجودون بالضّحك، ثم انطلق الجميع أولاده ونساؤهم، وأحفاده، وأمّ سعيد بصوتٍ واحد وراحوا ينشدون:"سنة حلوة يا حبيبي سنة حلوة بو سعيد". فغر أبو سعيد فمه دهشةً، حملق في الطّاولة وما عليها، طالعه قالب الحلوى وقد زيّن بكلمة (ميلاد سعيد) ابتسم ثم راح يصفّق ويغنّي معهم كان هذا عيد ميلاده السّتين.
بعد سنوات زار أبا سعيد ملاكُ الموت، فأخذ منه زوجته أمينة في رحلة أبدية، بكاها الرّجل بمرارة، وقرّر أن يحترم ذكراها، وكرّتِ السّنون سنة بعد أخرى، وملاك الموت لا يقطع زياراته عن أبي سعيد، قاطِفاً أعمارَ من يُحبُّهم، ناضجةً كانت أم في طريق النّضوج، صديقَ عمرٍ من هنا، وأختاً من هناك، حتّى طال الموتُ ولده الأكبر فكان أولَ الرّاحلين بعد أمينة، قطع أبو سعيد الثّمانين، وقبل أن يعبر السّنة الأولى منها وقعت قرعة القدر على ابنه الثّاني والأخير، الذي قضى مع ولده البكر في حادث سير، وأبو سعيد صابر صبر الصوّان، تراه يردّد بأسى " إنّا لله وإنّا إليه راجعون".
بقيَ أبو سعيد وحيداً وأبناءُ جيله وغيرهم يموتون الواحد تلو الآخر، حتّى جاء يومٌ ودّع فيه آخرهم "أبو أحمد" شريكه في لعب الطّاولة، ومنذ ذلك الحين بدأت رحلته المرّة مع الغربة، كان إذا سار في الشّارع لا يسمع سوى صوتِ عُكّازه يطرق الرّصيف بنغمات ثابتة لا تتبدّل. ينظر حوله فلا يرى إلاّ أشباحَ ناسٍ تمرّ به دون كلام أو سلام، حفيداه اللذان بقيا على قيد الحياة ساحا مهاجِرَيْنِ في بقاع الأرض، ابنته "سمر" الوحيدة ماتت وهي تضع حملها الأول، بعد مرور عشرين عاما على زواجها.
قطع أبو سعيد المئة وعشر سنوات، ودخل اسمه في موسوعة غينس للمعمّرين، لكنّه بدا غريباً عن النّاس والحيّ الذي ولد فيه، والقرية التي ترعرع على ترابها، المكان الوحيد الذي لَم يتبدّل هو الدكّان القريب من داره، رغم تبدّل مالكيه للمرّة العاشرة. أمامه كان يقضي مساءاته جالسا على كرسيّ عتيق ماسكاً عكّازه بكلتا يديه، واضعا ذقنه فوقهما يحدّق بالمارين أمامه وهو يتمتم " غرباء..غرباء..".
ذات مساء، أمام الدّكان، وقف شابٌّ يحمل لاقطاً، وخلفه مصوّر تلفزيونيّ، سأل أبا سعيد:
=كم عمرك يا أبا سعيد؟ فقدّم له بطاقته الشّخصية التي لم تعد تشبه صاحبها، وبالكاد تمكّن المراسل من قراءة تاريخ الولادة. أردف سائلا:
= حدثْنا عن حياتك، ماذا رأيت من العالم في المئة وعشر سنوات التي عشتها حتى الآن.
نظر أبو سعيدٍ للشابّ مليّا، ضيّق فتحة عينيه، نفخ في ضجر وقال:
- رأيت ما يضحك وما يبكي، والتقيت بما يمرض وما يشفي، لم أجد في عمري أصدق من اثنين، الراديو والتلفزيون، ومن خلالها جبت العالم رغم أنّني لم أبرح حدود قريتي في حياتي، ومضة تضعك على حافة الهاوية، وتتركك تحاذر السّقوط، لا تحصد منها سوى الرّيح، وتراك تتشبّث بقميصك البالي، وتخشى الموت مهما امتدّ بك العمر، وها أنا اليوم أقــــــــــــــــضي عقوبة إلهية في معتقل الحياة، لا أعرف
سببها، الله وحده يعرف نهايتها".
ذات يوم أخذ أبو سعيد عصاه يستعين بها على أعوامه التي عبرت المئة وعشر سنوات، دخل محلاًّ لبيع الأقمشة، اشترى ثلاثة أمتار من القماش الأبيض النّاصع، وأوصى نجار حارته على نعش
لائقٍ، وعاد أدراجه إلى البيت، وبينما كان يقطع الشارع.. فجأةً... ؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق