مفارقات الأثر السياسي/الإجتماعي،في وعي النص/القضية
لقصيدة "أيوب"
للشاعر العراقي : عبد الجبار الفياض...
جمالية الرؤية وبلاغة الحدث...
عبد الغني حيدان/المغرب
عادة مايختبر القارىء الناقد المتخصص نصوصه التي تكون بين يديه،بمقارباته النقدية التي تجسدها قراءته المستطلعة الكاشفة،في محاولة لتحقيق مبتغاه النقدي،والممثل في إضاءة العلاقة بين المتخيل والواقع، بين الصوري والحقيقي وبين أوجه التناقض السياسي لطرفي الصراع الإجتماعي المتمكن بأثره في بنية النص الشعري..
لكن نصوص الشاعر العراقي عبد الجبار الفياض،غالبا ماتتزين بسلطة سماتها،إمعانا في توجيه القارىء الناقد إلى مآربها،منها سمتان أساسيتان..
السمة الأولى،أن نصوص الفياض هي التي تختبر الناقد على مدى صموده أمام كتائب المنجز الشعري الفياضي،وهي تستكشف معدن القارىء الناقد إن كان يستطيع معها صبرا..السمة الثانية،ان نصوص الفياض تفرض على القارىء الناقد أن يكون مختبرا معرفيا ملما بتفاصيل الأحداث والوقائع التاريخية والثقافية والحضارية الإنسانية،وهكذا فعلاقة النص الشعري للفياض بقارئه،هي علاقة توتر وألفة،جهاد ومصالحة استنفار وإمتاع،حيث النص الفياضي هو حركة لفعل مستثمر للدلالة والإيقاع في الزمان والمكان
لما يحمله من روافد نابعة من حركة التاريخ الثقافية والسياسية والحضارية،وبنياته الدلالية والمعجمية.النص مؤطر بجمالية التعبير والأسلوب،معتق بمسار التجربة الشعريةللشاعر،ولعل أغلب نصوصه قد أقامت لنفسها مشتلا لغويا خاصا بها تمتح مفرداتها الإستعارية والبلاغية والفنية من قاموس التوظيف الرمزي لمجمل الثقافات الإنسانية،بمعنى أن الحركة الفيزيائية للنجوم السيارة على مستوى النص،تنتقل من حالة جمالية بارقة إلى حالة جمالية أكثر إشعاعا،تجعل القارىء الناقد حذرا من فتح عيونه أمام ضخامة الشعاع البصري للنص،باعتباره نصا دالا بشؤونه
حافلا بدلالاته الرمزية الموشومة في جسد التاريخ،وبموروثه الثقافي من أساطير وحكم ومرويات
مقدسات دينية واجتماعية كونية ومحلية ووطنية وتمثلاتها الزمانية والمكانية..
هذا ما تتكلل به قصيدة "أيوب" بمفاجآتها التخييلية بما لها من خلفية أدبية تستهدف الصورة الشعرية في يقظتها وتوهجها،لتحتل مساحة الوجدان على أساس تحريره من الأوهام،لا على أساس إحباطه،ولخلخلة مفاصل رؤية القارىء لدمجه في تربة الصراع الإجتماعي،لا على أساس دفعه إلى الإغتراب والنكوص.فالشاعر له استراتيجيته الشعرية من خلاله نصه هذا،تتلخص في استحداث جمالية معيارية بأنفاس الحداثة الشعرية،وبصيغة لما يصطلح عليها قصيدة النثر،بأدوات لغوية شغلت دينامية فواعل التاريخ التخييلية والحقيقية لمجمل المعطيات القارة والطارئة،ليقفز سؤالنا جادا في بحثه،ماذا يريد نص"أيوب" من الشاعر؟..وماذا يريد الشاعر من نصه الذي أضحى القارىء الناقد جزء منه وفيه؟..
لن يستقيم جوابنا النقدي إلا باستحضار الذات الشاعرة وعلاقتها بالمعطى الموضوعي،فالشاعر في نصه هذا لم يكن طرفا محايدا،أو راويا لأحداث ووقائع بصيغها الفنية،بل كان جزء من الحدث وفاعلا متدخلا في شؤون نصه ..هم ولغيرهم الجحيم...شاء لك أن تكون عصا...ودع ماتعفن منها...فالخائن تقتله عفونته....فالنص أضحى جزء من قضية،وإذا كان الشعراء والمثقفون يصنعون قضاياهم،فإن القضية تصنع وتخلق شعراءها ومثقفيها،وبالتالي فشعر الفياض شعر القضية والدلالة،ونصه المتطلع هذا يروم جوهر قضاياه المجتمعية والإنسانية المعقدة والمتشابكة،وهذا النص شاهد على سياقات أحداثه وفاعل فيها باللغة الناطقة أدبا بديعا،كتشكل فكري معبر عن مجمل التطلعات والخيبات والإخفاقات والتضحيات،يعري وجه الجمال والقبح ومنعرجات الدروب
المظلمة والمضيئة،يكشف النقاب عن ملامح التخلف والتقدم،عن فحوى العبودية والحرية، الاستعمار والتحرر،عن مدارج العيش والبساطة،مباهج البدخ والثراء الفاحش،يفتش عن أمكنة
البؤس والقتامة،عن ترنح الجسد المرتجف الباحث... عن رغيف خبز في أنبوب بترول...والأجساد المتلألأة برغد العيش المزور ...في بلد النفط الداء...بلد غني بالنفط،غني بالفاقة والشحوب والظلم...حين تختنق الأكواخ برائحة الإسمنت...للموت ألف وجه...للحياة رئة مثقوبة...بلد غني بالتسلط وأوهام الصراع الطائفي...متاريس..بها التصقت وجوه غضب..يسطحه شيب...تصابى صلفا فوق حروف الله...أهو الغم ازدرد أسنانه في غرف التحقيق؟....بلد البؤس والشقاء،بلد أضحى يحمل متناقضاته غنى وفقر،وجاهة مغشوشة وظلم،تحيز وتنكيل،حلم وإحباط، بؤساء أشقياء وحيتان برية بوقاحة عيونها الزانية،آبار بترول وخونة...كنت صغيرا...تحلم بطائرة ورقية..
ترى مايكل فيها عنه بصرك...كيف يصطرع البؤساء مع يومهم...المشدود بأربطة تعب...يوهن عظما بصبر جان فالجان....سياط ظهيرة لاترحم من أدار لها ظهرا....آبار البترول...تعصرها حيثان البر على موايد خضر...تستبيح خطوط الطول والعرض بوقاحة عين زانية...بلد المجد والحضارة،بلد الرطب والماء...أيوب...أيها المنقول من أزمنة أوتاد..تسقى بشمس غير ذات غروب..مالنهر دافق أن يعتذر لظمإ السواقي...بلد الفقر ودور الصفيح...ليس لبيوت الصفيح إلا أن تسف الريح...مفتحة الأزرار لمضاجعة المطر....
إن علاقة النص بصاحبه ليست علاقة آنطباعية هي علاقة معرفية يتحدد فيها الأثر السياسي بصدى اللغة الإبداعية بمستوى صورها الجمالية المثيرة،وحديقة اللفظ والمعنى للنص ترفد خمس لوحات فنية شكلها الشاعر من استبرق وجداني طافح متدفق من شقوق الواقع،وكل لوحة تعكس
معطياتها التاريخية الثقافية،والسياسية الإجتماعية،فاللوحة الأولى تحمل عنوانها"أيوب"كدلالة رمزية لنبي الله أيوب الصابر،عنوان القصيدة لوحة معمارية تضيء جوانبها بمأساتها وملهاتها وهي تختزل تاريخ الإنسان العربي العراقي في محنه وصبره على البلى ومقاومته الأصيلة والتي عز نظيرها،ذلك الإنسان العراقي البسيط الشهم التلقائي المعتز بنفسه وبنيه وأهله ونسبه ومحيط عشيرته،فخورا بانتمائه القروي،وبعمله الشريف الذي ورثه عن أبيه...لم يكن أيوب يوما تاجر مخدرات...راعيا لبقر السلطان...سمسارا في أروقة الخراصين...كان ابن عتال...يعاقر الشاي في أوقات خمس..يحلق ذقنه بموسى صدئة...يرقص الدار فرحا...وقت يعود مساء بحلوى من دبس التمر...تشخيص دقيق لواقع الحياة اليومية للإنسان العراقي،ولمفارقات واقع الصراع الإجتماعي الموبوء،أيوب دلالة تاريخيةعلى الصبر والجلد في أحلك الظروف وأصعبها،وترميز واستعارة للإنسان العراقي الصابر،صبره المقرون بالصدق والوفاء والإيمان الطهراني بمعتقده المنسجم مع عيشه البسيط،مع فرحه التلقائي المبهج،وهو يعاقر الشاي،لاتفوته صلواته الخمس..يعاقر الشاي في أوقات خمس...يجعل داره باحة فرح ومرح لبنيه وأهله...لايبالي تلقائيته تسبقه...يحلق ذقنه بموسى صدئة..يرقص الدار فرحا...يتحف الأهل والصغار بحلوى دبس التمر،حياة في غاية الرقة والبساطة،لايعيش على الخداع والمكر والتدليس والممنوعات والحرام أوالتزلف ...لم يكن يوما تاجر مخدرات...راعيا لسلطان البقر...سمسارا في أروقة الخراصين....
تستند أطاريح الفياض الفنية إلى عوالمها المنبعثة من لهيب الواقع،وهو جزء من هذا الواقع واقع الشاعر نفسه الحاضر في زمن أيوب بالقلب والعقل بالحزن والتأسي،واقع الإنسان العراقي التعيس المر ..من لصخرة سيزيف...أن يحملها؟...في بلد النفط الداء....وأيوب شاء له أن يدفع الظلم والقهر والجهر بالحقيقة والحق،وهو ابن حضارة لاتغيب عنها الشمس...تسقى بشمس غير ذات غروب...شاء لك ذان تكون عصا..تشق صمتا منتفخا بسنوات عجاف...هي سنوات بتعقيداتها السياسية والإجتماعية،بعذباتها وقساوتها وأوهامها المخيبة للآمال...أضاع فيها الطيرمنقاره بوهم البيادر...ماستكان في ليلها عرق..عشق أرضا.....أرضعته دون فطام...مالنهردافق أن يعتذر لظمإ السواقي...لقد أكد الشاعر بصيغة التذكير بمستوى الصور البلاغية للنص من خلال لوحاته الخمس
التي يود من خلالها الشاعر إعادة توازن النص في ذهن القارئء،ليكتمل شريط صوره الجمالية من مشتقات الواقع العراقي وأحداثه الآسية والمؤلمة...مالنهر دافق أن يعتذر لظمإ السواقي...آبار البترول...تعصرها حيثان البر على موائد خضر...تستبيح خطوط الطول والعرض بوقاحة عين زانية..هذا مانقلته الطائرة الورقية قبل أن ينقطع خيطها الأمل...الفياض بتدخله في توجيه ألخطاب الشعري للنص،كشف عن حجم المعاناة للإنسان العراقي الصابر على البلاوي الآتية من اتجاه وهو يبحث عن الرغيف من أنبوب البترول الذي قسم الفئات والأطياف وصير أهل القرية حفاة،مكممة الأفواه محدودة القوى والرؤية...يشطر قلب قريته..يحمل أساور من ذهب...
ثيابا موشاةبخيوطه...عطرا لذات دل...ليس له أن يسأل...لماذا؟..أين؟..لا...خط أحمر..لايعبره حفاة القرية....الشاعر فك شيفرة المفاجئة التي لطالما تفاجأ بها الفياض نفسه بألم وإعتصار،وهي غير قابلة حتى للأسف،إنها الخيانة...فالخائن تقتله عفونته...الجروح لاتندمل بحزن...هنا يخاطب الشاعر ضميرأيوب،يخاطب الإنسان العراقي الصادق الصامد،يخلخله يوقظه يذكره بزمن طفولته البريئة،وهو يحلم بطائرته الورقية،يكشف له أنها بجناح نسر،وكأن الشاعر يود القول جهارا أن دلالة النسر لاتتمثل في كونه جارح فقط...هذا مانقلته الطائرة الورقية قبل ان ينقطع خيطها الأمل ،ولكنه حاد النظر قوي بجناحيه المهلك للفريسة...غير أنك الساعة أنت هي...بجناح نسر...دونك فريستك...ودع ماتعفن منها...فالخائن تقتله عفونته...الجروح لاتندمل بحزن...لم ينم جرح دون أن يفتح تحت ضماده جرحا لطاعنه...إنها صرخة الشاعر عبدالجبارالفياض الجهورة من أجل وطن حر وشعب سعيد . .
إنه نص واحد متعدد متصاعد،يرسم إيقاعه الموسيقي الخاص به بلوحاته الخمس،عالي التأثير في تتبع الأثر السياسي والإجتماعي بصبابة التخييل الفياضي يتغيا تعرية حجم الفوارق الإجتماعية والسياسية،في محيط وطني أنهكته الشعارات الجوفاء...حيث حسب تعبير الباحث المغربي "يوسف ناوري" "لاتكون الصورة بانية للمتخيل الشعري ولدلالية النص،إلا في ارتباط ديناميتها في المقام الأول بالوظيفة الرمزية،التي تؤديها وتهيىء لها موقعا ضمن نسيجها المتخيل" "الشعر الحديث في المغرب العربي"الجزء الأول دار توبقال للنشر،الدار البيضاء المغرب ...ص268..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق