هذه المرة ليست كسابقاتها ..
يبدو أنها الرحلة الأخيرة و رائحة الموت تأكل كل شيء في القبيلة ( الدشر ) ..
خطاه الثقيلة ، تنقله تائهة دون وجهة داخل الغرفة التي كانت تؤوي زوجته "فطيمة" وابنه الوحيد "حمو" .. سماه "حمو" على اسم أبيه الذي كان يهابه الجميع لبأسه وشدته .
- ( ماتت المسكينة من الجوع )..
قالها وهو يحدث نفسه ،
ماتت بعد ثلاثة أشهر من موت رضيعها "حمو" وقد جف ضرعها ، و الخيمة فرغت من كل شيء قابل للأكل .. أمه "الغالية" أرهقها العمر وتكالب الزمن وسنين القحط و "علي الأكبر" أخوه البكر الذي لزمته الحمى لأكثر من عام و هو تحت لهيب الهذيان ، لم تنفع معه كل أعشاب "جبيل العافية" ولا تلاوة القرآن التي يرقيه بها كل ليلة خاله "عمار " .. لكنه لم يمت كما كان يجب أن يفعل ، و لو مات لكان أفضل له و للغالية أمه وللجميع ، لكنها الهموم عندما تقصد بيتا تتلذذ بالانتشار في أدق تفاصيله الصغيرة وكأن العدل خلق فقط في اقتسام الأحزان ..
عام الجوع أو عام الفناء و الموت .. عام ( البُونْ ) كما يعرفها محترفو الجوع والمرض وانتظار الموت الذي لا يأتي بسهولة كما يتمناه الناس .. انقطع المطر من السماء وكل محصول الأرض كان بلا حبوب ، لا شعير و لا عدس و لا حمص ، أطلق الناس عليه عام "البون" لأن الحاكم الفرنسي جعل لكل خيمة " بٌونا " ورصيدا مقننا من الشعير و الذرة و بعض سكر ، رصيد لا يكفي لملء بطن جوع ليلة .. فنفقت الماشية و الأبقار .. ماتت النساء و الأطفال .. وغادر شبان الجبال المنهكة بالقحط مداشرهم إلى المدن القريبة، ومنهم من وصل مشيا على الأقدام إلى مدينتي مغنية وتلمسان الجزائريتين ..
كل شيء يوحي بالموت في القبيلة ..
أحمد يحمل "أقراب" ؛ جرابه الذي يضع فيه ما تبقى من ملابس و أثر المرحومة ، يحملها معه زادا يرافقه إلى المدينة .
قلبه ينبض بقوة غريبة وكل الدموع تغزو عينيه ، لكنها ترفض أن تطلق سراحه و تسيل على خديه ، تتراكم غما في شرايينه وهو يستند إلى جدار التراب الآيل للنحيب .. هنا تكاد تنطق جنبات البيت بأنين ذكريات القبيلة الملأى بالوجع .
( الصّافْ ) أو جبل البرانص أمامه لم يتغير وصخوره الصلبة التي شهدت يوما زحف (الريافة ) على ( القشلة ) الفرنسية التي تعتليه .. ثكنة المعمر الفرنسي لم يعد إليها أحد بعد المعركة التي فاجأ فيها رجال مولاي امحند عبد الكريم عساكر الفرنسيين ليلا وهم نيام إلا من بعض الحراس .. كانوا يتسلقون الجبل كما الماعز حسب وصف من شهد المعركة ، وما أن يصل أحدهم إلى جندي فرنسي حتى يلتحم معه في عناق استشهادي و يرمي بنفسه من أعلى ( الصاف ) يتدحرجان معا من أعلى حتى أسفل الصخور .. قصص المجاهدين الريافة هنا لا تنتهي و هم يزرعون الرعب في جيش الفرنسيين و ( ساليكان ) و البياعة معاونيهم من أبناء القبائل ..
كل هذه الصور كانت تتوالى أمام عيني أحمد وهو ينظر إلى هضبة ( التُّول ) خلفه .. وأمامه طريق طويل إلى سوق ( أحد راس الوادي) ..
جبل (المغارة ) صعب الوصول و سلوكه محفوف بكل المخاطر وقد لاذ به كل قطاع الطرق والهاربون من جحيم القيّاد وحكم القبائل ..
لم يكن أمام ( أحمد د حمو ) خيار آخر سوى المشي هذه الكيلومترات الخمسة عشر والوصول إلى السوق قبل آذان المغرب هناك على الأقل سيجد أقواما يشبهونه في الهروب و سيتمكن ببضع فرنكات من قضاء ليلة آمنة جنب الحمير والبهائم وروائح المتعبين و بضاعاتهم البئيسة ، حتى مطلع الفجر ..
تفحص أحمد مرة أخرى ( أقراب ) واطمأن لمؤونته التي سيسد بها رمقه طيلة الرحلة ، وهي عبارة عن ( كرونة ) عبارة عن خبزة كبيرة خبزتها له أمه الغالية ، وكيس صغير فيه بعض زيتون أسود وقليل من التين الجاف و الشريحة ..
( يا فتاح يا رزاق ) ..
نطقها أحمد عاليا وهو ينهض واقفا ..
عانق طريق سوق الأحد وهو يكاد يسمع في أذنيه هدير محرك الحافلة التي ستنقله في رحلة العذاب الطويلة إلى ( تيسة ) ومنها إلى باب فتوح ثم محطته الأخيرة في مكناس ..
- (الله ينعل الشيطان ) ..
الآن فقط تذكر أنه منذ دفن فطيمة زوجته لم تلمس جبهته الأرض ولا صلى أية ركعة ..
( الله ينعل الشيطان ) ..
** المجموعة القصصية : رحيمو .. صابر والآخرون **
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق