ملاحظة: قد يغنيك التحليل النقدي عن قراءة القصة وهي بآخر النص
+++++++++++++++
بأسلوب متسارع استعمل القاص اسلوب الشخص الثالث third person من بداية القصة لنهايتها وبدا كراوية عليم بدقائق الأمور "وضع كيس المواد الذي ابتاعه على الطاولة.. فاجأه مسؤول الاستعلامات...تذكر ذلك جيدا...وجد نفسه...ترك صالة الفندق...."، وحتى آخر عبارة من السرد "... كتب فيها بخط يده إلى هنا وصلتُ.". ومنذ الوهلة الأولى، يشعر المتلقي أن إعادة القراءة للنص لابد منها حيث يجد نفسه بحاجة إلى لملمة تفاصيل جاءت كومضات مضيئة flash points علينا توجيهها وبحذر للوصول لخيوط الثيمة theme بوقت قد يطول أو يقصر أو أحيانا تبقى الحيرة confusion تحيطنا.
نحن أمام شخصية متأزمة مشتتة الفكر. ولانعرف محتويات الكيس الذي ابتاعه، وهو ايضا يحس بالبرد الذي كرره القاص لثلاث مرات " وراح يفكر بالبرد الذي أصابه خلال فترة مكوثه في الفندق... أصابه البرد بسبب الوحدة ، فشعر بحاجة الى الدفء.... وكان لايزال يشعر بالبرد وخلايا عروقه في سبات....". ياترى.. أي نوع من البرد هذا؟ لشهر تقريبا وهو مع زوجته في أحد الفنادق والبرد يلفهّ! تركها نائمة وخرج "تقوده أفكار مشاكسة.." وبالتأكيد افكار تتداخل في تصور لايعرف مدى التيه فيه، جعله يتعثر بخطواته ويصطدم بالمارة "وقدم اعتذارا لمطبات الطريق التي واجهت خطواته، اعتذر كذلك لأشخاص اصطدم بهم بسبب الازدحام..". ويدفعه التشتت الى الدخول لفندق مشابه للفندق الذي يسكن فيه.
ويبدو ان القاص هادي المياحي شعر بضرورة اماطة اللثام عن شخصية البطل حيث منحنا استرجاعا flash back عندما تعطلت سيارته يوما " كما كان عاطلا عن الحب منذ عدة أيام.."ونرى البعد الزمكاني هنا حيث الفندق الذي يستقر فيه. ولابد أن نركز على مدى الحذر الذي استعمله القاص في كشف القصور الجسدي والنفسي الذي يعانيه البطل، وها أنا أضيف لتكملة الصورة " كما كان عاطلا عن ممارسة الحب قبل أيام.." . عجزه عن الحب يعني عجزه عن ممارسة الحب sexual intercourse . ونلاحظ أيضا استعمال كلمة "عاطلا" بدلا من "عاجزا". إن التبئير الذي تميز به أسلوب السرد لابد ان ينكشف لنا ولكن الكاتب يخرجنا من زاوية لندخل في اخرى بحذر.
وهاهو يستقر في صالة الفندق . مشاعر التيه والتعب تحيط به. زوجة تركها نائمة وخرج، ويفترض أن يصعد متلهفا إليها. واي لهفة تحركه و" مسؤول الاستعلامات رآه يتثاءب من شدة النعاس؟" وفي كل الأمور لابد من الصعود. هاهو أمامها. " نظر اليها طويلا متأملا بأردافها الممتلئة، وشعرها الطويل السارح، وساقيها الملفوفتين. كانت مستلقية على السرير المزدوج، الذي جمعهما فترة قاربت الشهر." إنها إشارة واضحة لشهر يفترض أن يأكلا عسله سوية، لكن شعور الإحباط frustration توغل في أعماقه.. هاهي امامه ولكن ولمجرد احساسه بالعجز تضعف قواه ولا يدركيف يلوم نفسه : "من منا الظالم ومن المظلوم؟". وكان صوت الرجل المسن وهو يصيح "عسل طبيعي.. عسل" يرن في أعماقه. وأي عسل ينفعه والقلق worry يهده " منذ اليوم الاول في الفندق وحتى اللحظة.".
ونحن في ذروة النص بعد أن تحسسنا حدود وأبعاد المشكلة، يهيؤنا القاص هادي المياح الى مالاتُحمَد عاقبته".. احتقن دمه، وفكر . عليه أن يعتذر، قبل ان يقدم على أي فعل..". ياترى أينوي شراً؟ يقتلها؟ يعتذر لها؟ وماذا يقول باعتذاره؟ واي كلمات يختار وعجزه اعتذار ملموس؟ حالة من اليأس والارتداد الداخلي تنتابه. " انتبهَ إلى صورته بالمرآة، رأى نفسه يشبه شخصا له ملامح وجه ميت.." لا روح فيه ولا أمل. نظر لزوجته النائمة وهو مشتت الفكر. مدَ يده في حقيبة مركونة جانبا فلامست " كتابين.. كان الأول بعنوان :الجريمة والعقاب والاخر: مع وقف التنفيذ. فتح الصفحة التي كتب أعلاها بيده "إلى هنا وصلت".. قرأ السطر الأول، واقتلعها من مكانها..
ونتساءل.. أيكون للعنوانين مغزى يبيّته لنا القاص هادي المياح يتحدانا على فك هذا الرمز الذي يبدو محيرا أول وهله أو يدخلنا في متاهة قد تجعلنا عاجزين او يائسين، كبطله الذي "احتقن دمه..." وبحث ثانية بالحقيبة " فوجد حزاما جلديا أخرجه وتمعن به طويلا..". أجل نية مبيتة إذن، حيث يضعه على خصره ليبدو " ضيقا عليه.. وضعه على رقبته، فوجده مناسبا جدا.. طواه ووضعه بالحقيبة.". فعلٌ خطيرٌ لابد أن يحدث. أما الكيس الذي تعرفنا عليه في بداية القصة والذي لم يخبرنا القاص عن محتواه، هاهو بطلنا يمد يده بداخله ليعثر" أثناء تخبطه على سكين كان قد خبأها مع المواد..". وعند ربطنا السكين بشعور التيه والضياع، ، وتعثره واصطدامه بالمارة ودخوله الفندق الخطأ، نتوقع جريمة قد تقع. وللأسف انسانة بريئة هي الضحية. "
أخرجها، كانت حادة ولامعة تحت ضوء المصباح.. قبض عليها بقوة، وخطا نحو الفتاة. جلس على كرسي قريب. وألقى نظرة طويلة تخللتها شهقة أو شهقتان لبكاء داخلي.. وقف بعد ذلك.. رفع السكين إلى مستوى أعلى.. وهوى بها على منطقة الصدر حتى غاصت هناك في العمق، في الجهة القريبة من القلب، بنفس المكان الذي توقعه. شعر بالدم يتدفق ساخنًا من تحت القميص! وأمال بالرأس الناهض بعنفوان من لا يريد الموت..". سبحت الزوجة بدمها و"ظلت تصرخ صراخا محموما.. وجدت نفسها مكورة على بعضها وقصاصة الورق تلتصق بين اصابع كفها، وهي نفس الورقة التي كتب فيها بخط يده:إلى هنا وصلتُ." وها نحن وصلنا الى نهاية القصة وعلينا فك رموز الكتابين وايضا عبارة "ألى هنا وصلت" ويتحتم علينا البحث عن الزوج القاتل الذي اختفي في نهاية السرد.
لقد عرف الكاتب الروسي دوستويفسكي بكتاباته السيكولوجية، ولاشك أن بطل رواية "الجريمة والعقاب " ،راسكولينكوف، يعتقد أن القتلة مشهورين مثل نابليون الذي اشتهر ببطشه وغدره حيث صوره بعض المؤرخين بالعظيم والشجاع وباني الحضارة. وقد تأثر بطل قصتنا بهذه الشخصية رغم أن اداة القتل مختلفة لكن الطريقة واحدة. استعمل بطل دوستويفسكي الفأس بقتل العجوز ايلينا ايفانوفا واستعمل بطل القاص هادي المياح السكين. إن الشعور بالنقص عند بطلنا جاء نتيجة عجزه عن المهمة التي جاء من أجلها لقضاء شهر العسل لكن عجزه الجنسي sexual dysfunction سبب له احراجا لم يستطع التخلص منه. كيف يعيش مع زوجة وهو يعاني من إحساس بالضعف وتساؤل " من منا الظالم ومن منا المظلوم؟" لقد باتت الجريمة والعقاب جزءً من تفكيره، عندما تتبع سلوك راسكولينكوف وتوقف عند قتله ايلينا ايفانوفا وكتب "إلى هنا وصلت" أي أن بطلنا تابع قراءة الرواية "، حيث تطابق النص مع الواقع، عندما تكررت طريقة القتل وانجزت. وكما وصل راسكولينكوف لنهاية جريمته وصل بطلنا لنفس النهاية.
وإن انتهى راسكولينكوف الى السجن، أي ان حكما قد نُفِّذَ بحقه، فإن بطلنا بات مجهولًا ومختفيا بعد الجريمة. بحثنا عنه بتأن فوجدناه داخل الحقيبة التي أُخرِجَ الكتابانِ منها: " أعاد الكتابَ الى الحقيبة معتذرا لدوستويفسكي.. بحث مرة أخرى فوجد حزاما جلديا... وضعه على خصره، بدا ضيقا عليه.. وضعه على رقبته فوجده مناسبا جدا! طواه ووضعه في الحقيبة." وهكذا ينكشف مصير بطل القاص هادي المياح. مات منتحرا خانقاً نفسه متخلصا من شعور الذلة humiliation وعقدة الشعور بالنقص inferiority complex. نفذ الحكم على نفسه ولا داعي لسلطة تنفذ الحكم عليه لأن تنفيذها سيوقف بالتأكيد. وعليه فإن كتاب "مع وقف التنفيذ" بات فاعلًا أيضاً. وبالتأكيد كان هدف دوستويفسكي هو إعطاء الدروس للمجرمين بأنهم إن طال الزمن أو قصر لابد من العقاب لأنه يرفض الجريمة ويجاهد في الحد منها، وهذا قد يكون السبب في اعتذار بطلنا من الكاتب الروسي "أعاد الكتاب معتذرا لدوستويفسكي.." فالنتيجة كانت مغايرة للطموح النفسي والتربوي العقلاني الذي يطمح الأدب الرصين في ترسيخه.. لم يملك البطل حق القتل وأن يكون قاضيا يصدر الحكم لكننا أمام شخص مريض فشل في الاختبار وبنفس الوقت متشبعا بالايحاء السايكولوجي الذي سببه اعجابه بالبطل وتقمصه ارائه التي منحت بطلنا تأثيرا سايكوباثيا psychopathic influence عدائيا . ومن خلال تجربتي المتواضعة في النقد، وجدت أن القصة جاءت بحبكة pot متفردة غير طبيعية وسرد غاية في الاحترافية، يشير وبوضوح إلى قاص مجتهد وذكي.
علي البدر/ قاص وناقد أدبي وتشكيلي
العراق
القصة
وضع كيس المواد الذي ابتاعه، على الطاولة أمامه في الصالة، وراح يفكر بالبرد الذي أصابه خلال فترة مكوثه في الفندق. تذكر إنه تركها نائمة في الغرفة وخرج. جذبته لافتات الشوارع الضوئية وصيحات الشباب الخارجين من الحانات. كان خدرا دون ان يحتسي خمرا في حانه. لا يعلم أين وجهته، تقوده أفكاٌر مشاكسة. لكنه رغم ذلك، أبدى تواضعا نوعيا لما حوله، وقدم اعتذارا لمطبات الطريق التي واجهت خطواته. اعتذر كذلك لأشخاص اصطدم بهم بسبب الزحام.
بدت له المسافة إلى الفندق طويلة جدا. وأصبح كيس المواد ثقيلا عليه، فنقله إلى يده الأخرى قبل ان يصل الفندق.
فاجأه مسؤول الاستعلامات بوجه آخر وبنظرات غامضة، لكنه فهمها جيدا، وشعر بالخطأ. خرج بسرعة وهو يحاور نفسه، في محاولة لأقناعها بأن كل الفنادق متشابهة! القى نظرة طويلة على امتداد الشارع، ثم خطا ليسير فوق الرصيف تجنبا للمطر. بوعي تام قرأ عداد الخطوات في جهازه الجوال، فوجد الرقم كبيرا، اكثر مما يتصور، ولأنه لم يعتد التجوال راجلا، تذكر سيارته الحديثة، وتخيل كم هي جميلة ومثيرة. كانت أمه تحذره دائما: "لا تنتبه على نفسك، فأنت أول من يحسدها".
تذكر ذلك جيدا وهو على الطريق المؤدية إلى الغابة. قيل له أن هناك في نهاية الطريق توجد الجنة. قاد سيارته بأقصى سرعة، لكنها تعطلت قبل أن يدخل الجنة، فتركها وسط الطريق وعاد. تيقن انه أصبح عاطلا عن المشي، وعن مواصلة الطريق كما كان عاطلا عن الحب منذ عدة أيام.
وجد نفسه وحيدا في الصالة، على مسافة حلم أو حلمين من مسؤول الاستعلامات الذي رآه يتثاءب من شدة النعاس. أصابه البر ٌد بسبب الوحدة، فشعر بحاجة إلى الدفء، وتخيل الفتاة تنهض أمامه بوجهها المشرق وخديها المتوردين.
ترك صالة الفندق وارتقى السلم، حاملا معه كيس المشتريات. إلى جهة اليمين، اجتاز ممرا ضيقا في الطابق الأول، قاده ذلك إلى غرفته. وقبل ان يفتح، وقف وألقى نظرة إلى الخلف باتجاه السلم. ثم فتح الباب بهدوء، واغلقه بهدوء أيضا. نظر إليها طويلا متأملا بأردافها الممتلئة، وشعرها الطويل السارح، وساقيها الملفوفين. كانت مستلقية على السرير المزدوج، الذي جمعهما فترة قاربت الشهر. همس مع نفسه: "من منا الظالم، ومن المظلوم؟". تتالت في ذهنه الأحداث منذ يومه الأول في الفندق وحتى اللحظة التي يعيشها.
كان لا يزال يشعر بالبرد، وخلايا عروقه في سبات، عندما نهض على صوت غير واضح في الخارج. خطا قريبًا من النافذة التي تطلّ مباشرة على الشارع. رأى عربة جوال صغيرة، خلفها رجل مسنّ يحمل بيده علبة صفراء اللون، ويصيح:
"عسل طبيعي.. عسل".
احتقن دمه، وفكر عليه ان يعتذر، قبل ان َيقدم على أي فعل. بحث عن كلمات اعتذار مناسبة ولائٔقة، تصلح لأن تكون الأخيرة، فقد لا تفي أية كلمة لهذا الغرض! انتبه إلى صورته بالمرآة، رأى نفسه يشبه شخصا له ملامح وجه ميت.. نظر إليها مرة أخرى، تأكد أنها تغط عميقًا في النوم.. جلس بعيدًا عنها.. مدّ يده بداخل الحقيبة، فلامست كتابين كان قد احتفظ بهما.. أخرجهما معا، كان الأول بعنوان "الجريمة والعقاب"، والآخر "مع وقف التنفيذ".. فتح الصفحة التي كتب أعلاها بيده "إلى هنا وصلت".. قرأ السطر الأول، واقتلعها من مكانها.. أعاد الكتاب إلى الحقيبة معتذرا لدوستويفسكي.. بحث مرة أخرى، فوجد حزامًا جلديًا.. أخرجه وتمعّن فيه طويلًا.. ثم وضعه على خصره، بدا ضيقًا عليه.. وضعه على رقبته، فوجده مناسبًا جدًا! طواه ووضعه في الحقيبة.
أعاد كل شيء إلى مكانه، ثم راح يبحث هذه المرة في الكيس، فعثر أثناء تخبطه، على سكين كان قد خبأها مع المواد. أخرجها، كانت حادة ولامعة تحت ضوء المصباح.. قبض عليها بقوة، وخطا نحو الفتاة. جلس على كرسي قريب. وألقى نظرة طويلة تخللتها شهقة أو شهقتان لبكاء داخلي.. وقف بعد ذلك.. رفع السكين إلى مستوى أعلى.. وهوى بها على منطقة الصدر حتى غاصت هناك في العمق، في الجهة القريبة من القلب، بنفس المكان الذي توقعه. شعر بالدم يتدفق ساخنًا من تحت القميص! وأمال بالرأس الناهض بعنفوان من لا يريد الموت.
في تلك اللحظات السريعة الخارجة عن خط الزمن، كالوقت الضائع. راودته فكرة للتراجع، لكنها بدت غير نافعه، حيث لا يوجد أحد يسمعها، لا هو ولا الفتاة ولا أي شخص آخر. كانت تلك الفكرة مثل اكتشاف متأخر أو مشروع عمل قبل نهاية العالم بلحظات.
في ركن من الغرفة، ظلّت الفتاة تصرخ صراخًا محمومًا. وفي ساعة متأخرة من الأعياء، وجدت نفسها مكورة على بعضها وقصاصة الورق تلتصق بين أصابع كفها، هي نفس الورقة التي كتب فيها بخط يده: "إلى هنا وصلت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق