استفاقت الحجة نفيسة من نومها ، وشَآبيب الفرح تمطرها سعادة ، وطيور السُّرور تتقافز حولها ؛ فقد حلمت في نومها أنها تركب كبشاً جميلاً ، كبيراً ويسير فيها في الجنة .
إنّها بِشارةٌ ودَيْن ، أسابيع قليلة على عيد الأضحى ؛ عليها أن تشتري أضحيةً ، تليق بالحلم الذي رأت ، فقد كانت تسمع من أمِّها الحاجة " عيشة" - رحِمَها اللهُ - وأتْرَابِها أن الإنسان يركب على أضحيته في الجنّة .
لديها مبلغ يكفي لِشراء كبشٍ كبيرٍ ، أمْلَحٍ ، وعليها أن تقومَ على رِعايتِهِ ليوم العيد ، فقد كانت أيّام رمضان كريمةً ، واستطاعت أن تجمع وفرةً من المال الذي جاد بهِ أهل الخير ؛ فالكلُّ يعرف حالتها ، وأنّها تعيش على ما يقدمونه من صدقات وزكوات
تفقدت الكيس الأسود الذي يشبه الجراب ، والذي يلازم عنقها من سنين وسنين ، وهذا الرباط بمثابة جلّاد يخنق الكيس ، فلا يَصِل إليه صادرٌ أو واردٌ إلّا بِإذنه ، حملت الكيس من عنقها ، فكّت أسْرَهُ ، عدّت النقود ذات القطع الورقيّة من فئة دينار ، والقليل من فئة خمسة دنانير ، وبضع قطع معدنيّة : نصف دينار ، ربع دينار ، وجدتها تكفي لشراء قطيع - لو أرادت - فرحت ، حوطتها بالقرآن والأذكار " ما يحِسِدُ المال الّا أصحابه - قالت في نفسها .
حملت الكيس إلى جارهم تاجر المواشي ، وقريبهم بدرجة متدنية - مفلح الغنّام ، قالت له: أريد أفضل كبشٍ في الحظيرة ؛ لأنني سأضحي هذا العام .
دخلت ، فاختارت كبشاً ؛ فلها عين نقّادة ، أخرجت الجراب من صدرها ، أخرجت النقود ، ناولته إياها عدّها . هذه لا تكفي قال لها ، أريد عشرة دنانير ، صفعتها إجابته ، حاولت معه ، لكنها الحقيقة ، هل لديك نقود أخرى .
انتحت جانباً ، خلعت زوج من حلق ورثته عن أمِّها ، خذ هذه حتى أكمل الدين ، لا يا حجة مش مهم ، أريد أن تكون ضحيتي كاملة مكملة .
ربطت الكبش بحبل ، جرّته خلفها ، وفِي ساحة البيت ، أحضرت إناءً مملؤاً ماءً ، وبحنان الأم غسلته ، عطرته ، وضعت الكحل في عينيه ، وبدأت بتسمينه بما لذّ وطاب ، أخذت تبحث عن ديك ، وبيضة كبيرة ، سألت جاراتِها ، دلّوها على ديك أمِّ ميسون صاحب الصوت الجميل ، يصيح للفجر قبل ديكة القريّة ، كما أنه معروف لدى الجميع ، وله علاقات مع كل دجاجات الحيِّ ، فاوضت أم ميسون على الدّيك ، ولما عرفت أنه لإكمال الضحية أعطته إياها مع شيء من الإمتعاض.
الحاجة نفيسة ضحت في السابق بقرة ، فقد حصلت على ورثة من زوجها الأول الذي عاشت معه نيّفا وثلاثين سنة تزوجها وهي في الرابعة عشرة ، أحبها حبا شديدا ؛ فقد كانت تنازع القمر جمالاً والشمس بهاءً، ولسان حال القرية بنت كليب وبس ، وعاشت في بحبوحةٍ ورخاء ، ولكن الصّفاء لم يصفُ لها، فمات ، وبعد عقد من زمان ، طمع بها ستينيّ أكل عليه الدّهر ، فخطبها، وتزوجته ؛ لتقتل الوحدة ، وحاز التّليد والجديد ، وكأنه نار في هشيم ، ولن يرفع لها صوت ، وبقيت تنظر أن تنجب وأن تعيش في ظله ما بقي من وقت ، وسبق عليه الأجل ، وقد أفنى من خيرها ماحصل ، ولَم تنجب ، ولَم تكحل له عين بطفل ؛ فقد كانت عقيم ، وصدقت الدّاية أم سليم ، وبعد سنة تقدم لها آخر بلغ من العمر عتياً، وافقت عليه ؛ بعد أن تفرّق أبناؤه في المدائن والاغتراب ، وانكشف ما خفي من حاله، فهو لا يقطر ولا يمطر ؛ فقد عمل جراحةً وأتت على ما لديه من أسلحةٍ وعتاد ، وبات كالنِّساء بل أضلّ سبيلا ، وتجزم أنها لم تغتسل يوماً كالنِّساءإلّا غسل الجمعة في الأثر مفروضاً.
كان شديد البخل والمعايرة لها أنه يطعمها ، ويسقيها ، وتمتدّ يده أحيانا فيضربها ، ويردِّد على لسانه شؤمها على الرجال ، وأنهم يموتون بنحسها ، وتفهم قصة زواجها منه أنها جليسة وممرضة ، هكذا أراد الأبناء ، وتطلب الطّلاق ، وتنتهي العلاقة ، وتبرّ بقسمها ، وتمرّ عليها عقود بلا تكرارٍ للزّواج .
وبعد هذا الزمان بقي أن تضحي بكبش وديك وبيضة ليكتمل الأجر .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق