على قدْر الجُهد.. يكونُ الجـزاء..
حدّث حنظلة قال:
اِستيْقظت عليَاء في ساعات الفجر الأولى على وَقعِ صيَاح الدّيَكة، ونُباح الكلاب، وغُثاءِ الخرفان.. وكلّها عزْم ونشاط وإصرار على إكمال المهمّة التي أنيطت بعُهدتها هذا الصّيف بعد سفَر "مولى بَيْتِها" إلى البقاع المُقدّسة لآداء فريضة الحجّ التي طالما انتظرها بفارغ الصّبر، وهو الذي ظلّ على مرّ سنوات طِوَال يجمعُ ما أمكنَ من أموال ممّا جادَت بهِ أشجارُ الزّيتون، وصابة الحُبوب، وشُجَيْرات اللّوْز.. من خيْراتٍ كان يُوزّعُ بَعضها على الأهل والأقارب وعابري السّبيل، ويبيعُ بَعضها في سوق القرية، أو للتجّار المتجوّلين الذين يَجُوبُونَ أرْجاءَ الرّيف في مواسم الحصاد وجمع الصّابة علّهم يفوزون بصفقة يتحيّلون فيها على البسطاء من الفلاّحين الذين لا يُحسِنون الحساب جمعا وضربا وطرحا، أو يغشّون امرأة غاب بعْلها فنابَتهُ في العمل الفلاحيّ وتسيير دواليب الأسرة..
ولن تنسى علياءُ ما حَييَتْ وعْد "الحاج كلوف" – كما يحلو لها أن تُسمّيه لشغَفه بقضاء شؤون المنزل والأعمال الفلاحيّة، وشؤون أهل القرية، وشؤون العابرين والقادمين والمقيمين والمهاجرين.. – عندما شكت يوْما كثرة المشاغل، وتمزّقها بين الشّؤون المنزليّة والأعمال الفلاحيّة.. فابتسم لها ابتسامة أخذتها إلى جنان الأحلام، وقال لها في صوت ملائكيّ رائق:
"يا علياء.. لكِ عليّ عهدٌ أنْ نُسافِر معًا إلى بيت الله لآداء مناسك العمرة، وأنْ تختاري بنفسك أجمل قلادة ذهبيّة من هناك لتكون لكِ هديّة، وذكرى عُمرَتك المقبولة إن شاء الله".. فكان ذلك الكلام لها بلسَما وحافزا على أن تكون سيّدة البيتِ والضّيْعة والحقل على مرّ الأيّام..
اِستيقظت كعادتها في ذلك الفجر الصّيفيّ، فأدّت فرائضها، وأعدّت عُدّتها، وتوجّهت إلى "الهنشير" مُحمّلة بخبز الطّابونة وقدر المرق المعطّر بروائح البهارات التي تعدّها كلّ صيف بجدّ واجتهاد، وتذوّق منها جاراتها اللائي يشهدن لها بالبراعة والتميّز حتّى لتتمنّى الواحدة منهنّ أن تكون لها شبها في حسن السّيرة، ودماثة الأخلاق، وطيبة السّريرة.. دون أن تنسى طبعا عددا من الحاجيات الأخرى كالشّاي ولوازمه، والماء وقربته، واللّبن وزبدته، والعسل وآنيته.. خاصّة وهي اليوم قد استدعت جاراتها وخليلاتها لمساعدتها على إنهاء مهمّة الحصاد في أحسن الظروف قبيل عودة "الحاج كلوف"..
وصلت إلى الهنشير قبل شروق الشّمس، فوجدت بشرى وسعيدة وأمّ هانئ وفاطمة وخديجة.. قد عجّ بهنّ المكان، ينتظرنها على أحرّ من الجمر.. استبشرت كثيرا واهتزّ قلبها فرحا بتلبية دعوتها، وأملا في تحقيق غايتها قي الموعد المحدّد..
وضعت الزّاد والزوّاد جانبا وسارعت بالانضمام إلى "العْرَافة" (بعين ساكنة) كما شاعت تسمية هذه العادة بين أهالي القرى والأرياف.. ارتفعت أصواتهنّ بالأهازيج التي تحثّ على التّفاني في الحصاد، وتبعث في نفوس الحاضرات حماسة لا توصف.. ومع كلّ ربطة "غُمر من السّنابل" تتعالى زغاريد النّسوة، ولا تسمع إلاّ تلك الجملة الشّهيرة التي تردّدها كلّ من أنهت ربط غمُر السّنابل وقبل وضعه في مكانه من الحِلّة" حيث تُجمعُ "الأغمارُ":
- هاوْ اغْمِيرْ..
فتجيبها الأخرى من هناك:
- هاوْ خُوه..
- لانخطفوه..
- لا نتسلفُوه..
- من أرض الخير نجمعُوه..
- وفي رأس "الحِلّة" نحطّوه..
فلا تسمع حينئذ إلا الزّغاريد وحشرجة المناجل، ولا ترى غير الغبار المتناثر في كلّ مكان.. ولا شيء يعلو فوق روح الحماسة والاجتهاد والتّفاني في العمل.. ومع نهاية كلّ "خرجة" تعود كلّ واحدة منهنّ بتلك "الأغمار" المكدّسة في "الحِلّة"، فيجمعنها في كدس موحّد يُسمّى "القنفودة"، وهي التي سيتفنّن الفلاّح عند نهاية الحصاد في نقلها في شباك مخصوصة محكمة الرّبط، تُحمل على ظهور الحمير والأحصنة إلى "المندرة" حيث تُجمعُ الصّابة، ثمّ تُدرسُ بعد طرحها بانتظام على سطح "المندرة" بنورج خشبيّ ذي سكك حادّة يُديرُه حصان مُدرّب بقيادة فلاّح مُحنّك عادة ما يضع على رأسه مظلّة سميكة تحميه من الحرّ والقيظ.. وبجانبه جرّة ماء صغيرة الحجم تحيط بها قطعة قماش مبللّة يحرص على رشّها بالماء بين الفينة والأخرى كي تحافظ على برودة ما بالقـُلّة من ماء يروي به ظمأه كلّما احتاج إلى ذلك دون أن يوقف النورج عن الدّوران والحصان عن الركض.. ويا لسعادة من يرضى عنه صاحب النّورج، ويدعوه للرّكوب معه كي يحدث توازنا في المسير، ويزيده ثقلا يعجّل بدرس السنابل، وإخراج حبّات القمح أو الشعير من ذلك الغِشاء الصّغير..
وما إن ارتفعت شمس الضّحى بمقدار ذراع أو ذراعين حتّى عادت علياء إلى مستلزمات "اللمّة"، سارعت بحفر حفرة صغيرة، ملأتها فحما وقشّا ثمّ أوقدت نارا سرعان ما علا لهيبها واحمرّ جمرها.. عندئذ وضعت إبريقا أحمر اسودّت أطرافه لفرط ما أكلته نار الفحم الملتهبة، بعد أن عدّلت ماءه وشايه وسكّره.. ثمّ فتحت قدرها ففاحت منه روائح المرق المّحلّى بلحم الدّيك وفتات البصل والبقدونس.. ثمّ فتحت صرّة الخبز فإذا بخبيزات مدوّرة تتوسط كلّ واحدة منها آثار سبّابتها كطابع رسميّ يجعل جميع حقوق الصّنع والطّبخ محفوظة لسيّدة النّساء الماجدة "علياء"..
تجمّعت النّسوة حول الأكل فغاب العقل والتهمن كلّ ما لذّ وطاب..وتأبى ألسنتهنّ أن تكفّ عن الحديث والضّوضاء والقهقهات التي تملأ المكان بهجة وسرورا.. فأتيْن على الأكل كلّه، ثمّ اختتمن الجلسة بكأس من الشّاي يُدغدغ الأنوف ويكرم الضّيوف.. ويبعث في الحاضرات نشاطا وحيويّة زادتهنّ إقبالا على الحصاد، فلم ينتصف النّهار إلاّ وقد أتيْن على كلّ ما في الهنشير من سنابل، حصدنها، وجمعنها، وعدن إلى منازلهنّ والسّعادة تعلو محيّاهنّ.. وتلك لعمري سِمات أهل البادية..
أمّا علياء.. فلا تسَل عن فرحتها.. لقد حقّقت ما تصبو إليه.. وسيعود "الحاج كلوف" ويجد الأمور كلّها على أحسن ما يُرام كيْ لا ينسى وعدهُ، وربّما يُضاعف الهديّة.. خاصّة وأنّه قد طلب من علياء قبل سفره ألاّ تُجهد نفسها، وأن تحفظ العهد، وتصون الودّ ليس إلاّ..
ويا لسعادتها يوم عودته، لقد فوجئ بإنجازاتها، وكبّر جُهدها، وجازاها بما لم تتوقّعه أبدا.. فكانت الأفراح، وتتابعت الأيّام الملاح..
-----------
* الغُمر: مِلءُ الكفّ من السنابل بعد ربطها بقصبها.
* الحِلّة: مجموعة الأغمار بعد تكديسها وراء عمّال الحصاد.
* القنفودة: كدس أغمار السنابل يجمعه العمّال قبل نقله إلى المندرة.
* المندرة: مكان منبسط يُعدّه الفلاح لجمع صابة الحبوب ودرسها وتصفيتها قبل تخزينها أو بيعها.
* الهنشير: الضّيعة الفلاحيّة الشّاسعة.
أكتوبر 2019
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق