القاص والقصَّاص و (القصَّخون)
رمزي العبيدي
كاتب وناقد عراقي مقيم بدمشق
من سوءِ حظِّي وسوادِ طالعِي أنَّني لمْ ألتقِ الأستاذ علي السوداني يومًا ولمْ أتعرَّفْ عليه شخصيًا، علمًا أنَّه انتبه لموهبتِي ونبوغِي في العام 1992م، أثناء جلسةٍ في مكانٍ ما لمْ أكنْ أعرفه فيه، فأشاد بي وبها إلى قريبٍ لِي هو صديقٌ له، ولم أكنْ من قبلُ قد قرأتُ له، وكانتْ هذه هي المرَّة الأولى التي أسمعُ فيها باسمه، ولمْ تكنِ الأخيرة، فقد واظبْتُ من يومها على قراءة كلِّ ما يقع في يدي من مقالاته في الصحف العراقيَّة التي قاطعتها وهجرتها بعد منتصف التسعينيَّات وانقطعَتْ صِلاتي وأواصري بها، يومَ طلَّقتُ القراءة، بائعًا كتبي بأبخس الأثمان على رصيف شارع المتنبي ببغداد، لأنَّني أدركْتُ أنَّها والكتابة معها، لا يطعمان خبزًا في هذا الزمن اللعين، ما لمْ تبع فيه قلمك لأحد الطغاة والمجرمينَ من حكَّام هذا العصر الأغبر، أو تتبنى له قضيَّة تنكرها نفسك عليه أو لا تؤمن بها؛ وكان الأستاذ السوداني قد هجرها وهجر العراق معها في نفس تلك الفترة تقريبًا أو قبلها بقليل، وقد أفرحنِي وسرَّني وقتها ما وصلنِي منه من ثناءٍ ومديح، وما سبب فرحِي هذا وسروري ذاك، إلا لأنَّني كنتُ في أوَّل الشباب أو ريعانه، ولمْ يثنِ عليَّ أحدٌ أو يمدحنِي قبله بمثل لطف ثنائه ورقَّة مديحه؛ وربَّما كانَ هذا الموقف منه الذي لا يذكرُه هو اليوم، ولا أريد أنْ أذكِّره بتفاصيله لغاية في نفسِي لا يعلمها إلا الرَّبُّ خالق الأكوان، هو الذي دفعنِي لأكتبَ عنه قبل وقتٍ قريب منصفًا له أمام جمهور قرَّاء جريدة (الزمان) اللندنية التي تفضَّلتْ بنشر أكتوبتي تلك بمختلف طبعاتها: الدولية، والعربية، والعراقية؛ ومنتصفًا له من دَعِي ملعونٍ معتدٍ أثيمٍ حاولَ التطاولَ على شخصه الكريم، أو النيلَ من مقامه النبيل.
بعدها حدث تواصلٌ وبينِي وبينه عبر البريد الالكتروني في عدَّة مناسبات، لحقته صداقة عبر موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك)، وكنْتُ قبلها غير منقطعٍ عن قراءة كتاباته في جريدة (الزمان) نفسها بطبعتها العربية منذ العام 2009م - ذلك العام الذي أحسسْتُ فيهِ أنَّنِي مَيْتٌ، مَيِّتٌ من دون أنْ أدري، ما ذاك إلا لأنَّنِي متوقف عن القراءة، وفيه قرَّرْتُ أنْ أكتبَ لنفسي قبلَ أنْ أكتب للجمهور، أمَّا موضوع الخبز فلمْ يعدْ مهمًا، لأنَّ السنينَ علَّمتنِي أنْ أكسبَه من طريق آخر غير الكتابة التي مازالَتْ إلى اليوم لا تطعم خبزًا – وذلك عبر منشوره الأسبوعي في صفحتها الأخيرة، والمعنون: (مكاتيب عراقية)، وما أجملَها وأروعها من (مكاتيب)، لأنَّ فيها خلاصة فلسفته في الأدب والحياة، أو في الحياة والأدب، لا فرق لأنَّك تَحتار بينهما وأنت تقرأها، وما هذه الحيرة إلا لأنَّ له أسلوبًا فريدًا أو متفرِّدًا – بعبارة أدق وأصح - في رصف الكلمات والتلاعب بها كالفاظٍ وكجُمَلٍ، بحيث يستدرجُكَ إلى ما يريد، ويصعد بك وبخيالك إلى أعلى عِليين، بعدها ينزل بك إلى أسفل سافلين، ليعودَ بك من حيث بدأ معك، تلكَ هي قدرته وموهبته في الكتابة الإبداعيَّة، التي يتفنَّنُ بها بأسلوبٍ أدبي ساخر خاصٍ به وحدَه، يختلف به عن أساليب كلِّ الكُتَّاب الذين اتجهوا إلى هذا النوع من الأدب في كتاباتهم، لأنَّ أسلوبه الساخر لا يوصله حدَّ الابتذال أو لا يصل به إلى حدِّه، كما تسمح له أخلاقه العالية فيه بالتطاول على البشر أو التعدِّي عليهم، حتى لو كانوا أندادًا وخصومًا له، كذلك له طريقة غريبة عجيبة في دمج الكلمات العاميَّة في كتاباته، ضاربًا عرض الحائط أو به، كلَّ قواعد الترقيم والتنقيط في اللغة العربيَّة التي يجيدها إجادة تامَّة، ولا يخطئ فيها، ولا حتى سهوًا البتة.
وعلي السوداني إنسانٌ متعدِّد المواهب لأنَّه متمكنٌ من الصنعة الأدبيَّة ومتقنٌ للحرفة الكتابيَّة، فهو أديب بارعٌ وناقدٌ لاذع وقاصٌ وقصَّاصٌ و (قصَّخون)، كما أنَّه أستاذ في أدب الخمريَّات، لأنَّه أبرع وأروع مَن كتبَ عن الحانة وما فيها وبها، وهو رجلٌ ظريفٌ سمحٌ حلو الحديث له قدرة أنْ يضحِكَكَ ويبكيكَ في وقتٍ معًا، وسأفصِّل لكم في كلِّ هذا.
وقد قدَّمْتُ لكم ما قدَّمتُ عنه من أنَّه أديبٌ بارعٌ وناقدٌ لاذع، لكنَّني محتاج هنا لأضربَ لكم مثلًا شرودًا عن ذلك، وما عندي مثل إلا أنَّني قد كتبت يومًا ما مقالة ضافية عنونتها: (إلى متى يبقى البعير على التل)، ضمَّنتها لمحاتٍ من تاريخ العراق الحديث والمعاصر في المائة سنة الغابرة من يومنا هذا، قلتُ: هذه المقالة نسفها الأستاذ السوداني نسفًا، هي وما بها من مجهودٍ مضنٍ، بتحويره عبارة قصيرة مشهورة، هي ليسَتْ له طبعًا، متكوِّنة من ثلاث كلمات - أسماء - وظرف مكان، ذلك بأنَّه غيَّر حرفًا واحدًا في آخر كلمة أو اسم فيها، فقال: (بلاد ما بين القهرينِ) عن (بلاد ما بين النهرينِ)، عندها وقفتُ وتأملْتُ وراجعْتُ نفسي لأنَّني أردْتُ أنْ أقولَ هذا عنها في تلك المقالة ولمْ أعرف، أو لم أتمكَّن من صوغ عبارة بمثل هذه القوَّة وتلك الجزالة وذلك الاقتضاب، والمصيبة عندي لم تكنْ تكمنُ في براعة صياغته لتلك الجملة أو تمكُّنه منها، بلْ في أنَّه استخدمها ووظفها في موضوع آخر لا علاقة له بتاتًا بتاريخ العراق، فاستفاد منها توفق عليَّ مرَّتينِ، مرَّة في جودة الصوغ ، ومرَّة في حسن الاستخدام، ومع ذلك فأنا لسْتُ حزينًا ولا مغتاظًا منه بسبب ذلك كلِّه، لأنَّنِي مُقِرٌ بفارق الخبرة والتجربة والدربة والدراية التي تميِّزه عنِّي وعن غيري من الأدباء أو صُنَّاع الكلمة وصيَّاغ الحرف.
وقلْتُ عنه : إنَّه قاصٌ وقصَّاص و (قصَّخون)، فهو قاصٌ ليس لأنَّه بارعٌ في كتابة القصَّة فحسب، بلْ لأنَّه أستاذٌ في شدِّك لقراءتها، بمعنى: تقرأ تقرأ غصبًا عليك (أو عنك)؛ وكان الأستاذ السوداني قد شرَّفني بأنْ أهدانِي مشكورًا مختاراته القصصيَّة المعنونة: (حانة الشرق السعيدة)، وهي قصص مختارة من مجموعاته الخمس الفائتات أو اللائي أصدرَهُنَّ قبلًا، هذا الكتاب الذي أعدكم أنْ أفصِّل لكم فيه في قادم والسنين إنْ مكَّننِي الربُّ من ذلك.
لكنَّني لنْ أبخلَ عليكم بشيءٍ عنه ومنه الآن، فهو يفتتحه بصورة له : مخطَّطة بريشة الفنان المبدع سيروان باران، مكتوبٌ تحتها: (علي السوداني بعد الكأس العاشرة)، ثمَّ يكتب بعدها في الصفحة التالية عنوانًا، هو: (بعضُ علي السودانِي)، أختار لكم منه ما يلي: ((في مفتتح نيسان من العام 1961م، سقطتُ على رأسي في بغداد العباسيَّة بقرار من أبي، في يوم كذبة نيسان تمامًا؛ في العام 1984م، تخرَّجْتُ في معهد النفط، فابيضَّتْ عينا أبي مِن الحزن، وتملمَل جسده حتى كادَ يفتح بابَ مدفنه؛ في العام 1990م، خفْتُ من الأمريكان وشركائهم فهربْتُ من الجيش؛ في العام 1993م، أصدرَتْ دار الشؤون الثقافية .........؛ في العام 1994، وصلْتُ إلى عمَّان؛ في العام 1996م، أصدرَتْ دار أزمنة .........؛ في العام 2010م، مازلتُ مسجَّلًا على ذمَّة الكائنات الحيَّة؛ في العام 2062م، سأتوقَّف عن ممارسة الحياة؛ في العام 2002م، ماتَتْ أمِّي فاتسع مشهد الغربة؛ .........؛ لمدحِي أو ذمِّي أو سؤالِي، ثمَّة وسيلة سهلة [يكتب بريده الالكتروني]؛ قاص وكاتب عراقي مقيم في عمَّان حتى الآن))؛ دُلُّونِي بربِّكم على كاتب يكتبُ عن نفسه به الطريقة المضحكة المبكية أو المبكية المضحكة – لا فرق – ليس هذا فقط، بلْ يتمادى في أسلوبه الساخر الفريد المتفرِّد – كما قلْتُ عنه أو وصفته لكم قبلًا - أكثر من ذلك، ليسحرنا بما كتبه تحت عنوان: (الإهداء)، فيقول: ((إلى: الكائنات الحيَّة النائمة آمنة مطمئنَّة في بطن هذا الكتاب، والكائنات التي تسرَّبَتْ من زواياه بليل وراحَتْ إلى مدافنها، وأنا، وزمان الأبيض والأسود، وبلادي التي جارَتْ عليَّ، وحانات الوحشة، وطعام الذاكرة المشعَّة، وواحدٍ نَسيْتُ اسمه الآن، وواحدةٍ نَسيْتُ اسمها الآن, ونهر صار ساقية، وياسمينة انكسر ظهرها، ومعلقة [طز] المرصوفة حروفها حتى اللحظة فوق جدار القلب، وقبر أمِّي، وتنورها الطين، وخبز العوافي، وشاي العصاري، وساعة أبي [النيفادا]، ووجع يشبه وَجَع المحار وهو يخلق مِن موته لآلِئ الغفلة، وأشياء أخرى مازالت راسخة في [سكراب] الذاكرة، ثمَّة أسماء كثيرة تتلألأ بين غلافي هذا الكتاب، بعضها كان جزءًا مكمِّلًا للنصِّ وطقوسه، وآخرون قدمت لهم نصوصًا كما هدايا عيد، قد يأخذكم المنظر إلى باب [الأخوانيات والاجتماعيَّات]، وقد اعترفُ – متأخِّرًا – ببعض ما ذهبتم إليه، ربَّما حدث هذا أو لمْ يحدث على الإطلاق، لكنَّني أنظر إلى هذه الكائنات الجميلة كما لو أنَّني أطلُّ على روضة ورد؛ حشدٌ من الإهداءات، ليس شرطًا انطباق النصِّ على المُهدَى إليه، ربَّما كان الأمر محض تلويحة، ربَّما حاجة في نفسي قضيتها، ربَّما استودعتكم هذا الكتاب الآمن، إذن: خذوه بقوة)).
ومن هنا يتبيَّنُ لكم صحَّة ما ذهبْتُ إليه قبلًا من أنَّه قصَّاص ليس لأنَّه يقصقص الكلمات والألفاظ ويتلاعب بها كما يريد فحسب، بلْ لأنَّه معها يقصقص الحروف أيضًا، ويطوِّعها لقلمه الرشيق كما يريد، ويجعلك تحَار وأنت تقرأ له بين الدهشة والإعجاب من جهة وبين التأمُّل والاستدراك من جهةٍ أخرى، إضافة إلى أنَّه يتوقع رأي القرَّاء في قصصه قبل أنْ تصل إليهم أو قبل أنْ يقرؤوها، وما ذلك إلا لأنِّ عنده من الذكاء وبعد النظر ما عنده، فهو يعترف متقدِّمًا لا متأخِّرًا كما ادَّعى أو تلاعب بألفاظه، بأنَّ أدبه قريب من، أو متأثر بأدب الاجتماعيات أو ما يعرف بأدب الأخوانيَّات، وأراه يستخدم كلمة (بعض) في اعترافه هذا حتى يتخلص أو ينجو بنفسه من التعميم والعموميَّات، مقلِّلًا باستخدامه هذه اللفظة - (بعض) – من أهميَّة هذا التأثُّر وذاك القرب، ثمَّ يعود ليتوِّهك بعبارته الرشيقة: ((ربَّما حدث هذا أو لمْ يحدث على الإطلاق))، فيجرَّك في استرساله إلى أخر ما يريد، حتى يبعدك عن مقارنة أدبه بأدبٍ آخر لا ينكر تأثره هو شخصيًا به ولا قرب أدبه منه، فكأنَّه يريد أنْ يقول لك أنَّ هذا التأثر هو قليل أو ربَّما قليل جدًا، وهذا القرب هو سطحي أو شكلي لا يستحقُّ كلَّ هذا العمق في النظر والغوص في التأمُّل، كلُّ هذه المعانِي يوصلها لك السوداني بعبارة رصينة سلسة جزلة ومقتضبة.
ومن حقِّك أنْ تسألنِي لِمَ تقول عنه أو تصفه بـ (القصَّخون)، وأنتَ تعلم أنَّ (القصَّخون) أو (الحكواتي): هي تسمية كانتْ تطلق على شخصيَّة تراثيَّة في بلاد العرب والعجم والترك، وهو رجلٌ كان يجلس في المقهى الشعبي ليلًا يقصُّ على جُلَّاسِه من الرجال حكاياتٍ طريفةٍ ومشوِّقة عن الزمان وناسه فيها من الحقيقة والخيال، مسخدمًا أسلوب السَّجْع – غالبًا – في رواياته لما فيه من موسيقى تساعده على السَّرد والاسترسال، وقد انقرضَتْ هذه الشخصيَّة منذ سنين؟، قلْتُ: ما ذلك إلا لأنَّنِي رأيْتُه (حكواتيًا أو قصَّخونًا) من خلال ظهوره نجمًا متلألئًا عبر شاشة قناة (العباسيَّة نيوز) الفضائيَّة، وهو يقرأ لك من خلال برنامجٍ يقدمه فيها أو منها بعض (مكاتيبه العراقيَّة)، باسترسال وتمكُّنٍ وروعةٍ في الإلقاء، وضبطٍ لمخارج الحروف، وهو بذلك يعطِي لكلِّ كلمةٍ حقَّها في القراءة الهادئة بلا انفعالات، حتى يجعلك تعتقد لوهلةٍ من الزمن أنَّه يقرأ كلمات غيرهِ، لكن سرعان ما تتذكر أو يذكرك هو عندما ينتهي بأنَّ ما قرأه هو من مكتوب قلمه، فيزداد إعجابك به إعجابًا وسحرًا؛ فما أشبه كلّ ذلك بـ (الحكواتي القصَّخون) وأفعاله؟!، بعلامتي الاستفهام والتعجُّب.
لمْ يبقَ لِي إلا أنْ أفصِّل قليلًا في أستاذيَّته لأدب الخمريَّات، وقد قلتُ قبلًا أبرع وأروع مَن كتبَ عن الحانة وما فيها وبها، هو الذي كتب عشرات القصص من مثل: (تشييع مكعبات الثلج الثلاثة، غيلان وسعالي، زغب خدران، الليلة لا أذهب إلى الحانة، وغيرها)؛ ولا تنسَ أدبيَّاته غير القصصيَّة عن الخمرة وأحوالها، فإذا كان أبو نؤاس شاعر الخمريَّات بلا منازع ولا منافس له في براعة أو جودة أو حسن نظم وسبك، فعلي السوداني أديبها الأوَّل الذي لن يتكرَّر لا في أسلوبه ولا في جرأتهِ في الزمن الذي يبدو فيه عراقنا أكثر تخلفًا ورجعيَّة من زمن عراق أبي نؤاس العباسِي، وما هذه إلا مفارقة من عجائب الأزمان وغرائب الأقدار!.
دعونا نختم هذه الأكتوبة ببعض طرائف وفذلكات علي السوداني التي تؤكِّد لك بأنَّه رجلٌ تجتمع عنده الطيبة العراقية النقيَّة غير الملوَّثة أو الصافية غير المتلوِّثة التي لا تشوبها أيُّ شائبة.
فمن طرائفه: إنَّه كتبَ لي يومًا رسالة عاديَّة استقبلتها في بريدي الالكتروني، يسألُ فيها عن صحَّتي وأحوالي وأخبار أو تفاصيل هجرتِي إلى بلاد العم سام كما وصفها، وختمها بقوله: (أخوك في الإنسانيَّة علي السوداني / عمَّان حتى الآن)، فما كان منِّي إلا أنْ كتبْتُ له في آخر ردِّي على رسالته محاولًا تقليد أسلوبه أو محاكاته، قولي: (تلميذكم رمزي العبيدي / دمشق لَمَّن الله يفرجها)، ولاحظوا أنَّه تفوَّق عليَّ ثانية وما هذا بجديد، فقد كتب بلغة عربية سليمة، وكتبْتُ بل بلغة عاميَّة ليسَتْ رصينة، قد لا يفهما سوى القارئ العراقي.
ومن فذلكاته: إنَّه ردَّ بسلاسةٍ وأريحيَّة وبساطة وروح مرحة بها تلك الطيبة التي حدَّثتكم عنها، ممزوجة هذه المرَّة بنقاء سريرة نابع من قلبٍ رقيق طيب، على تعليقٍ مكتوبٍ تحتَ مقالةٍ فلسفيَّة له، كانتْ منشورة في موقع محتجبٍ اليوم بسبب خلافاتٍ بين القائمينَ عليه، هو موقع (كتابات عراقيَّة حرَّة)، لا أذكر عنوانها اليوم، لأنَّني لمْ أفهم منها شيئًا مذ قرأتها، وما الخلل والقصور عند كاتبها بلْ عندي أكيد، لكنَّني أذكر كلَّ تفاصيل ذاك الرَّدِّ العجيب على ذلك التعليق الغريب، وربَّما كانَ حالُ قارئها كاتب التعليق المشار إليه، واسمه هاني إسماعيل الكعبي، مثل حالي في عدم فهمه للرؤى الفلسفيَّة التي عرضها الأستاذ السوداني، فكتب له ما يلي: (( أستاذ علي ممكن تكلي شكد سعر بطل الويسكي يمكم بعمَّان))، وما كان ردُّ الأستاذ السوداني إلا التالي: ((عزيزي هاني.. صدكني ما أدري، لو سائلني على سعر بطل العرك جان جابوتك بسرعة وبسهولة))، لنترك الطيبة والنقاء وما شابههما ونحن نحلِّل هذا الجواب، ولنسأل أنفسنا مَن منَّا اليوم عنده هذا الحلم وهذا الصبر وهذه الأريحيَّة وهذا الاحتواء والتقبُّل للآخر؟!،بعلامتي الاستفهام والتعجُّب ثانية، لا حظوا كيف احتوى من أساء إليه، فردَّ عليه بأسلوبهِ وبطريقةٍ ساخرةٍ ألجمته وأفحمته، لكنَّها لمْ تتعرَّض لإنسانيَّته، أو تطعن بكرامتهِ، أو تنال منه كبشر عائشٍ في هذي الدنيا.
وما لا يعرفه القرَّاء عنِّي، هو: إنَّنِي أتيْتُ يومًا بصورة سحبتها من (الانترنت) للصفحة الأخيرة من عدد جريدة (الزمان) بطبعتها العربية، المرقم (4497)، الصادر يوم الثلاثاء 7/أيَّار/2013م، الذي به أو فيه أحد الـ (مكاتيب عراقيَّة)، التي تنشرها هذه الجريدة في مثل هذا اليوم أسبوعيًا، بقلم أستاذنا السوداني طبعًا، وعنوانه (غناء أيدول) وكان موضوعه عن برنامج محبوب العرب أو (عرب أيدول)، ووضعته أمامِي وأتيْتُ معه بورقتي وقلمي، ووضعتهم كلُّهم – القلم والورقة وصورة الصفحة الأخيرة من الجريدة - أمامِي على طاولة لا أملكها في مكتبة دمشقيَّةٍ عامةٍ كبيرةٍ وقديمة وعريقة وعامرة بمئات الألوف من الكتب والمخطوطات النفيسة والثمينة، هذه الطاولة موضوعة في قاعة بها هادئة تُسمَع فيها رنَّة الإبرة كما يقولون، وهذه القاعة هي المكان الذي ترتاح به نفسي وتطيب، وأنا أشمُّ فيه أو بقربه رائحة الحبر والورق العتيق، وما اخترْتُ هذا المكان الهادئ إلا لأتفرَّغ لقراءة مكتوب السودانِي المنشور في العدد ذاك من جريدة (الزمان)، محاولًا محاكاته بلا تقليد، لتطوير أسلوبي الكتابي بطريقة تجعلنِي أقتحم أبواب الأدب الساخر الذي يعبِّر عن قضايا المجتمع وهمومه، متناسيًا أو متجاهلًا كلَّ الصعوبات التي قد تواجهنِي وأنا أخوض هذه التجربة، وقد قرَّرْتُ أنْ أكتبَ تحتَ نفس العنوان الذي اختاره الأستاذ السودانِي لكن بأسلوبي المختلف عن أسلوبه جملة وتفصيلًا، آملًا تحويله إلى أسلوبٍ ساخر به شَبَهٌ من أسلوب السودانِي في الشكل فقط، لا في المضمون أو الطريقة التعبيريَّة، ولمَّا انتهيْتُ من هذا كلِّه وجدْتُ نفسي ما صنعْتُ شيئًا سوى أنَّني أتعبْتُ نفسي بأنْ حشرتها بما ليس لي ولها فيه، وما كان منِّي إلا أنْ قلتُ لها – أي لنفسِي – ضاحكًا عليها، ساخرًا منها، مازحًا معها: (تبًا لك يا علي السوداني).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق